27/06/2011 - 14:25

تأملات في مسألة الحياة الحزبية في بلادنا../ د. زياد منى

بداية أصرح، بكلمات واضحة لا إبهام فيها، ومن دون خوف أو وجل أو حتى "استحياء"، بأنني لا أؤيد كافة مطالب المحتجين أو المنتفضين العرب. أنا ضد "حرية تشكيل الأحزاب!"

تأملات في مسألة الحياة الحزبية في بلادنا../ د. زياد منى
بداية أصرح، بكلمات واضحة لا إبهام فيها، ومن دون خوف أو وجل أو حتى "استحياء"، بأنني لا أؤيد كافة مطالب المحتجين أو المنتفضين العرب.
أنا ضد "حرية تشكيل الأحزاب!"
 المحتجون أو المنتفضون، يكادون يجمعون على مطلب رئيس هو حرية تشكيل الأحزاب، مع أن بعض "الطليعة" تضع شروطا على المطلب، منها ابتعاد الحزب عن الإقليمية والمذهبية وما إلى ذلك.

لكن عندما ننظر إلى التجارب الحزبية في بلادنا وفي بلاد أخرى، ماضيًا وحاضرًا، والمستقبل لن يكون مختلفًا اختلافًا جوهريًا، نرى أن النظام السياسي القائم على "التعددية الحزبية" لم يعد بأي فائدة على الوطن، ولم يثر الفكر السياسي. أقول هذا عن الأوضاع الآن، وليس في مرحلة التحرر الوطني.

عندما ننظر إلى التجارب الحزبية في الغرب نجد أن التصويت في الانتخابات، عامة كانت أو محلية، كثيرًا ما يعتمد على شخصية رئيس الحزب (وفي أحيان أخرى على لون الجلد كما حدث أخيرًا في الولايات المتحدة) وليس على البرنامج الحزبي، ما يلغي الحاجة لأي برنامج.

وفوز أي حزب في الانتخابات، سواء كانت وطنية أو إقليمية، لا يعتمد على برنامج هذا الحزب أو ذاك، وإنما على مقدرته على تسويق وعوده للناخبين، من دون أن يعني هذا الالتزام بها. فأكثر الفائزين في الانتخابات، رئاسية كانت أو حكومية، غالبًا ما ينقضون تعهداتهم التي أطلقوها في حملاتهم في اليوم الذي يتولون فيه الحكم، والبعض الآخر ينقضها في اليوم التالي!

لكن ما يجري في الغرب لا يهمني، لأنه على كل مجتمع خلع شوكته بيده.
ما يهمني بلادنا، خصوصًا في هذا الوقت الحرج الذي تمر فيه شعوب أمتنا.
عندما نتحدث عن بلادنا ونبحث عن أفضل الحلول لمشاكلنا السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها، علينا أولاً وقبل كل شيء الابتعاد عن حالة الإنكار التي يعيشها كثير منا والاعتراف الواضح والصادق بالاعوجاج في بنية شخصياتنا الغارقة في الولاءات العائلية والمحلية والعشيرية والتاريخية والمذهبية والإقليمية وغيرها من "الآفات".

علينا الاعتراف اعترافًا واضحًا بأمراضنا الاجتماعية وبأنها تسهم إسهامًا رئيسًا في مشاكلنا الحالية والماضية والمستقبلية.

في عالمنا العربي، الذي تسوده الأمية (بالمعنى الحرفي للكلمة)، والجهل والتخلف، وتتحكم في نمط وآليات تفكير أبناءه الخزعبلات والوساوس والهوس بمختلف أنواعه، من غير الممكن أن يكون خيار الأغلبية في صالح الوطن والمواطن، ناهيك عن صنع حاضر ومستقبل أمة.

هذا يقودنا إلى مسألة "المساواة" التي يرفعها كثر. شعارات بريقها يعمي البصر، فلا نرى سواه.
ما "المساواة"؟
في ظني أنه لم يسأ إلى أي مصطلح سياسي بالمقدار الذي لحق بهذا المبدأ. فكافة الأنظمة السياسية، في الغرب على نحو خاص، تتحدث مساواة المواطنين وتمتعهم بالحقوق ذاتها وتكافؤ الفرص، وما إلى ذلك من اللغو المعروف. لكن لا أحد يكترث بإعلام الناس بكيفية تطبيق ذلك عمليًا. لنأخذ مثلاً: كيف يمكن المساواة بين شاب ينتمي إلى عائلة ثرية يتمتع بكل تسهيلات الحياة والتحصيل العلمي بشاب آخر، لا يمتلك شيئًا فيضطر للعمل لتمويل دراسته. أي مساواة هذه؟

الأمثلة بالخصوص أكثر من أن تحصى.
وهناك من يحاول الالتفاف حول جوهر المبدأ فيطرح تفسيره بأنه مساواة أمام القانون.
لكن كيف يمكن تطبيق الأمر عمليًا! هل سمعتم عن ثري أدين في محاكمة "عادلة" وألقي به في السجن، في بلادنا أو في أي من بلاد العالم؟
مثال: كيف يمكن أن يتساوى أمام القانون متهم ثري قادر على توكيل عدد من أفضل المحامين مع متهم فقير، قد يكون بريئًا، مضطراً للاستعانة بمحامٍ كلفته المحكمة بالقضية، وهمه الأول التخلص منها كي يتفرغ لقضايا أخرى تدر عليه ما يتوقعه من دخل.
الشعارات البراقة يخطف بريقها الأبصار، فتعمي العيون عن الحقائق المهملة في "التفاصيل المملة".

إن النظام الحزبي المعمول بهفي دول النظام النيابي (وليس الديموقراطي)، يؤدي بالضرورة إلى تحكم أغلبية، مهما صغر مقدارها، بأقــلية، مهما كبر مقدارها. الهمّ الرئيس للحزب، وزعيمه، البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة (مثلاً: هذا ما فعلته مارغريت ثاتشر في بريطانيا حتى مل منها زملاؤها فطــردوها من رئاسة الحزب حتى عندما كانت بلادهم تستعد لخوض حرب على العراق)؛ والأمثلة على هذا المنوال كثيرة.

أمر آخر، من يصدق أن المجلس النيابي هو من يقرر سياسات البلاد! فقط الجاهل أو الغبي من يصدق هكذا كذبة، لا تسري حتى في الغرب ـ قِبلة كثير ممن يطلقون على أنفسهم صفة الطليعة. لمن الكلمة الفصل في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية (الأصح: الولايات المتحدة الصهيونية)، للشعب أم للاحتكارات وللتجمع الصناعي ـ العسكري!. لم يقل هذا ماركس أو لينين أو تروتسكي أوكاسترو أو تشي غيفارا. هذا التحذير طرحه رئيس الولايات المتحدة دوايت آيزنهاور، العسكري، الجنرال، بطل الحرب، القائد العسكري في الحرب العالمية الثانية، في خطبة الوداع الرئاسية حيث أشار إلى هيمنة ذلك التجمع الصناعي ـ العسكري على مختلف مجالات الحياة في بلاده، بل تسييرها وإخضاعها لأهدافه الحربية العدوانية.

منذ ذلك الحين، امتدت هيمنة ذلك التجمع على مختلف مناحي الحياة، ويمكن للراغب في التعرف إلى تفاصيل تغلغل ذلك التجمع الصناعي العدواني في مختلف مجالات الحياة في الولايات المتحدة (الصهيونية) العودة إلى كتاب الأكاديمي الأميركي رُبرتو غُنزالِس (عسكرة الثقافة) الصادر أخيرًا.

حسنًا، وما البديل؟
في ظني أن ما يفتقد إليه،العرب، عقد اجتماعي يمنح كل فئات المجتمع ومكوناته الطبقية والمذهبية والفكرية والقومية، وفي مقدمتهم الضعفاء، حقوق المواطنة وما يرتبط بها من واجبات.
ما نحن في حاجة إليه عقد اجتماعي ينظم حيواتنا وحيوات الأجيال القادمة.
الأحزاب يمكن أن تدعي أن ذلك تحديدًا هدفها الأول والأخير، وأنها ولدت أصلاً لأجله، لكن التجارب التاريخية والحالية تعلمنا غير ذلك.
الأحزاب يمكنها الادعاء بذلك، لكن التجارب التاريخية تكذبها وتثبت أن هدفها، أي هدف السياسيين، قولاً وليس فعلاً، الوصول إلى ذلك الكرسي اللعين، ثم التمسك به تحت مؤخرته أطول مدة.

في ظني أن تنظيم المجتمع المعمول به في كثير من الدول المصنعة وغير المصنعة، القائم على التنظيم النقابي ـ المهني، يشكل منطلقًا مناسبًا لتنظيم المجتمع جماعيًا.
هذه التنظيمات المهنية، التي تضم كلا من العمال بمختلف مجالات تخصصاتهم والتجار والمهنيين وموظفي القطاع الخاص والقطاع العام وممثلي مختلف القوميات والجماعات الدينية والأساتدة والطلاب وكبار الصناعيين وصغارهم وذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال والمسنين والأطباء وغيرهم، بمختلف انتماءاتهم المهنية، باختيار ممثليهم المهنيين النقابيين لمجلس تشريعي وطني يمثل حقًا مختلف فئات المجتمع ومصالحها الوطنية والقومية، ويحدد حقوقها إضافة إلى واجباتها.

وجود هذا المجلس التشريعي الوطني وقيادته المجتمع وجب طبعًا دعمه بوجود مجالس محلية للمدن والقرى مهمتها تنظيم الحياة في تلك المكونات الاجتماعية الصغرى.
أما ما يخص الحياة الفكرية فيمكن أن يجد طريقه في المنتديات حيث يمكن لمختلف الآراء التنافس أو حتى التصارع على كسب المتعاطفين أو المؤيدين.
 
"السفير"

التعليقات