27/07/2011 - 19:13

الممانعة في أزمة "الممانعة"../ فواز طرابلسي

تكثر محاولات التمييز بين سياسات "الممانعة" التي ينتهجها النظام السوري وبين الأزمة الداخلية التي تسببت في انطلاقة الانتفاضة الشعبية الراهنة. ولعل الوقت قد حان لطرح السؤال عن موقع سياسات "الممانعة" ذاتها من أزمة النظام السوري خصوصا أنه يستخدم موقعه الخارجي وأدواره الإقليمية أداة رئيسية لهيمنته الداخلية. تستدعي هذه المهمة تعريف "الممانعة" وتحليل سياساتها واستبيان ما تحوّل منها أو تحقق أو تجاوزته الأحداث أو تعدّل أو فشل

الممانعة في أزمة

تكثر محاولات التمييز بين سياسات "الممانعة" التي ينتهجها النظام السوري وبين الأزمة الداخلية التي تسببت في انطلاقة الانتفاضة الشعبية الراهنة. ولعل الوقت قد حان لطرح السؤال عن موقع سياسات "الممانعة" ذاتها من أزمة النظام السوري خصوصا أنه يستخدم موقعه الخارجي وأدواره الإقليمية أداة رئيسية لهيمنته الداخلية. تستدعي هذه المهمة تعريف "الممانعة" وتحليل سياساتها واستبيان ما تحوّل منها أو تحقق أو تجاوزته الأحداث أو تعدّل أو فشل.

ورث الرئيس بشار الأسد سياسة "الممانعة" عن أبيه الرئيس حافظ الاسد التي ردّ بها على انفراد أنور السادات في المسار المؤدي إلى اتفاقية كامب ديفيد بصياغة استراتيجية تجميع لـ"أوراق" تصلح لحالتي الردع أو التفاوض. وقد اقتضى ذلك الإمساك بدولتين وثلاثة شعوب: سوريا، لبنان، والفلسطينيين. تم التدخل السوري في الحروب اللبنانية منذ العام 1976 بهذا الهدف. ولما أفلت الطرف الفلسطيني الرسمي، بقيادة ياسر عرفات، عن الإمساك، لجأ النظام السوري إلى تكتيل تنظيمات "جبهة الرفض". وفي لبنان الواقع تحت الاحتلال الاسرائيلي العام 1982، استعيد النفوذ السوري عبر هجوم معاكس بدأ بحرب الجبل عام 1983 ومرّ بتبني المقاومة الوطنية فالإسلامية، إلى أن انتهى باستدعاء القوات السورية للفصل بين المتقاتلين في بيروت عام 1987 وإلى تجديد الوصاية السورية على لبنان - بتفويض أميركي ودولي وشراكة سعودية منقوصة - كرّسها "اتفاق الطائف" الذي كلّفت القوات السورية بموجبه نزع سلاح الميليشيات وحماية "السلم الأهلي".

على أن سياسة "الممانعة" بمعناها الفعلي تعود الى فترة الاحتلال الأميركي للعراق بما هي ردود على إملاءات أميركية نقلت عن طريق وزير الخارحية كولن باول تطالب الحكم السوري بما يلي: 1) فك التحالف مع إيران، 2) وقف تصدير الجهاديين إلى العراق وإيواء القيادات البعثية العراقية على الأراضي السورية، 3) رفع اليد عن حركة "حماس" في فلسطين، 4) ورفع اليد عن حزب الله في لبنان.

ردّ الحكم السوري على تلك الإملاءات على اعتبار أن النظام برمته موضوع على لائحة الإسقاط فكان الهجوم المضاد على الجبهات كلها، وعلى الأخص منها احتضان العمليات المسلحة العراقية وتغليب النظام الأمني في لبنان وما تبع ذلك من تطورات معروفة.

ما حال سياسات "الممانعة" الآن؟

أولا، اختتم الانسحابُ الأميركي العسكري الجزئي من العراق مرحلة كاملة من السياسات السورية تجاه بلاد الرافدين تراجع معها الدور العسكري لصالح الأدوار السياسية والاقتصادية والدبلوماسية. مرّر الحكم السوري الانسحاب العسكري الأميركي ومعه الانتخابات العراقية النيابية والرئاسية على أمل أن ترعى دمشق عراق ما بعد الانسحاب فتحقق المصالحة بين "الأطياف" العراقية وتكفل حصّة مميّزة للكتل السياسية السنّية في السلطة الجديدة. لذاك الغرض دعمت دمشق إياد علاوي لرئاسة الحكومة الجديدة بالتوافق مع تركيا والعربية السعودية. لكن طهران رجّحت خيار الأحزاب الشيعية والكردية المتمسّكة بنوري المالكي في صفقة إيرانية منفردة مع الإدارة الأميركية. يمكن القول إنه في حصيلة "الممانعة" على الجبهة العراقية، نجحت دمشق في ردع العدوانية الأميركية ضدها والحفاظ على النظام، إلا أنها فشلت في انتزاع الحصة المرجوة من النفوذ على السلطة العراقية. والأدهى أن ارتدادات المغامرة العراقية أورثت سوريا مشكلة داخلية بسبب المجموعات الجهادية المسلحة العائدة من العراق والتي تشتبك مع قوات الأمن في الانتفاضة الجارية.

ثانيا، جرى الالتفاف السوري على الضغط الأميركي لفك التحالف الإستراتيجي مع إيران عن طريق عقد صلات وثيقة ومتوازية مع تركيا والعربية السعودية. حبل شهر العسل السعودي ـ السوري بحل مشترك للأزمة اللبنانية عقب أيار 2008 ومؤتمر الدوحة والانتخابات الرئاسية والنيابية. لكنه أجهض سريعا مع سقوط حكومة الحريري وسيادة حالة من العداء الغامض الصامت بين دمشق والرياض. أما العلاقات المتعددة الأوجه والوظائف مع تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، بما فيها احتضان أنقرة المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا، فأصيبت بضربة قوية بعد الجريمة الإسرائيلية في حق "أسطول الحرية". وتعرضت العلاقات السورية ـ التركية ذاتها لانتكاسة كبيرة جراء الانتقادات القاسية التي وجهتها القيادة التركية للنظام السوري على إخلاله بوعود يبدو أنه قطعها لإيلاء تركيا دور الوسيط ـ بالأصالة عن نفسها والوكالة عن أوروبا أميركا ـ في حل الأزمة الحالية.

ثالثا، كان الجواب السوري التقليدي على الضغوط الأميركية والدولية لفك الارتباط بحركة "حماس" و"حزب الله" بالدعوة إلى إشراك التنظيمين المقاومَين في مفاوضات السلام. لكن بعد سقوط حسني مبارك، والمصالحة الفلسطينية، وعشية الحملة من أجل انتزاع اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية العتيدة، فقدت سوريا دورها "الممانع" على الجبهة الفلسطينية. تنازلت عن "ورقة" حركة "حماس". وتحوّل خالد مشعل، رئيس المجلس السياسي للحركة وقائد جناح الصقور فيها، إلى داعية "إعطاء فرصة للسلام" مع إسرائيل. وتوجّت هذه النقلة بإعلان الحكومة السورية الأسبوع الماضي اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية في حدود حزيران 1967، عاصمتها القدس الشرقية.

رابعا، انتهت حقبة من سياسة "الممانعة" السورية مع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيار من العام 2000 (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا). ذلك أن المفارقة في تحرير الجنوب اللبناني المحتلّ أنه أفقد سوريا وسيلة الضغط العسكرية الوحيدة على إسرائيل من أجل الانسحاب من الجولان. ما من شك في أهمية الدور الذي لعبته دمشق في دعم المقاومة اللبنانية التي لم يكن لها أن تستمر وتتصاعد لولا الدعم الاستخباري واللوجستي والتغطية الإقليمية والدولية التي أمّنتها لها سوريا، بما في ذلك فتحها طريق العبور للأسلحة والذخائر الإيرانية. وما من شك أيضا في المصلحة السورية الأكيدة في هذا الدعم على اعتباره البديل عن تحريك جبهة الجولان عسكريا وما تستدعيه من أكلاف عسكرية وبشرية واقتصادية باهظة الثمن. وهكذا بموجب السياسة المسماة "وحدة المسارين السوري واللبناني"، تكرّست مسؤولية دمشق عن "أمن واستقرار" الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة. وبعد الاعتراف بلبنانية مزارع شبعا، صارت دمشق مسؤولة أيضا عن قيادة بيروت إلى طاولة المفاوضات الإسرائيلية عندما تحين الفرصة لذلك.

شكّل انتصار المقاومة اللبنانية في صدّ عدوان تموز 2006 انتصارا أيضا للسياسة السورية، أكان لجهة إحباط القرار الأميركي باستئصال "حزب الله" أم لجهة فشل الأداء الإسرائيلي في تنفيذه. وقد أسهم ذاك الانتصار في تعزيز إستراتيجية دفاعية إقليمية قائمة على الردع الصاروخي الذي يعوّض التفوّق الجوي الإسرائيلي بالقدرة على ضرب أهداف مدنية وعسكرية في عمق فلسطين المحتلة. وهو إنجاز غير مسبوق في التاريخ العسكري والاستراتيجي للصراع العربي الإسرائيلي. على أن هذه النقلة الإستراتيجية نقلت بدورها الجهاز العسكري لحزب الله من الدور المقاوم لتحرير الأرض اللبنانية إلى قوة دفاع وطنية لبنانية ينضاف إليها موقع ودور في إستراتيجية الردع الإقليمية السورية ـ الإيرانية.

في الخلاصة، يفيد شعار "لا سلام بدون سوريا" ـ الذي صاغه هنري كيسنجر بعيد حرب تشرين 1973- في إيلاء موقع إقليمي ودولي مميّز لسوريا، بل شرعية لنظامها، على افتراض أن ثمة مشروعا للتسوية في المنطقة. أما الآن وقد احتدمت معركة الاعتراف الأممي بدولة فلسطين، وانتقلت إسرائيل بزعامة نتنياهو ـ ليبرمان من تخريب المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية إلى التهديد بالارتداد على اتفاقية أوسلو من أساسها، وفيما يغلب في تل أبيب التيار الرافض التنازل عن الجولان ولو لقاء اتفاق سلام يخرج سوريا (ومعها لبنان) من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ماذا تبقى من إستراتيجية "الممانعة" وهي التي لا تزال ملتزمة بفرضية الحلول الثنائية تحت سقف مشروع السلام العربي للملك عبد الله القائم على معادلة "كل الارض في مقابل كل السلام"؟

السؤال مفتوح على الاحتمالات. لكن المفجع في كل هذا أن نظام التعالي على الشعب يمانع في الاعتراف بأزمة "الممانعة" بمثل ما يمانع في الاعتراف بأن شعبه العظيم ـ وشعبه عظيم ـ وقف إلى جانبه عندما كان النظام مهددا من الخارج خلال الأزمتين العراقية واللبنانية ولم يتحرّك للمطالبة بأبسط حقوقه في العمل والحرية والخبز والكرامة إلا بعد زوال الخطر على هاتين الجبهتين.

هذه هي الممانعة التي تضعف مناعة سوريا الوطن والمجتمع وتجعلها عرضة للتدخلات والإملاءات والمؤامرات الخارجية على حساب مصالحها الوطنية وطموحات شعبها.

"السفير"

التعليقات