(1)
في السابق كانت الشعوب مكممةوالمجتمع مؤمما، وكانت أجهزة السلطة تقود المعركة ضد الإسلاميين ومن ورائهم شريحةواسعة من المثقفين، وكانت تهمة الإرهاب تلاحق كل المنتمين إلى التيار الإسلامي. لكنالوضع اختلف الآن، فقد انكشف الغطاء ورفعت الوصاية وأتيحت الفرصة أمام الجميع لكييعرضوا أنفسهم على الملأ، ولم تعد هناك قيود على حق الجماعات الإسلامية في المشاركةالسياسية، شأنهم في ذلك شأن بقية البشر، من الأمور التي تغيرت أيضا أن السلطة لمتعد هي التي تقود المعركة ضدهم والمثقفون العلمانيون من ورائها. وإنما أصبح أولئكالمثقفون هم الذين يقودون المعركة ويحاولون أن يجروَّا السلطة من ورائهم. ثم إنموضوع الاتهام أو الهجاء اختلف بدوره. إذ لم يعد القلق من الأعمال الإرهابية، ومنأنشطتهم الدعوية سبب الهجاء. لأن السقف ارتفع كثيرا، في مصر على الأقل. إذ جرىالتخويف من حصولهم على الأغلبية في المجلس التشريعي ومن توهم تحكمهم في صياغةالدستور الجديد، ومن احتمال توليهم السلطة في مراتبها العليا، خصوصا ان ثلاثة منالإسلاميين رشحوا أنفسهم لرئاسة الجمهورية.
ظهور فصائل التيار الإسلامي بكثافةوبصورة شرعية في الساحة، وتقدمها صوب المشاركة السياسية اعتبره الآخرون خطرا وجوديايهددهم، فصعّدوا من وتيرة الحرب ضدهم، واستخدموا لأجل ذلك كل وسائل التعبئةوالتحريض التي صوبت السهام نحو هدفين، أحدهما ممارسات الإسلاميين وخطابهم والثانيمحاصرة الإسلام ذاته ونقد تعاليمه. وقد حفلت الصحف المصرية طوال الأشهر الأخيرةبسيل من المقالات التي كثفت من الهجوم على هاتين الساحتين. وهو ما يسوّغ لنا أننقول بأن الفزاعة التي استخدمت للتخويف من الإسلام في ظل النظام السابق، هي ذاتهاالتي استخدمت بعد سقوط ذلك النظام. وإذا كانت الدوافع إلى ذلك قد اختلفت، إلا أنهدف الإقصاء والاستئصال ظل واحدا.
(2)
فالعلمانيون يعانون من مشاكلعدة في قراءتهم للإسلام ونظرتهم إلى الإسلاميين. فهم عادة يقارنون بين أفضل ما فيالعلمانية وبين أسوأ ما هو منسوب إلى الإسلام. وذلك خطأ منهجي كبير، دفعهم إلى نسبةكل القيم الإيجابية إلى العلمانية دون غيرها. فهي تعنى الحرية والديموقراطيةوالليبرالية ومدنية المجتمع... مع أن ذلك بدوره خطأ علمي ومعرفي، إذ ليس صحيحا أنكل تلك القيم حكر على العلمانية، وإنما هي قيم إنسانية يمكن أن توجد في ظل الإسلامأيضا. إذ بوسع المرء أن يكون مسلما وليبراليا وديموقراطيا في الوقت ذاته. ثم إنهليس هناك تلازم ضروري بين العلمانية وبين تلك القيم، يؤيد ذلك أن النظامين في تونس (قبل السقوط) وسوريا لهما انحيازهما الواضح للعلمانية.
الخطأ الثاني الذي يقعفيه العلمانيون أنهم لا يعترفون بالتمايزات الحاصلة في الساحة الإسلامية، ويعممونشطحات وأخطاء البعض على الجميع، ولذلك فإنهم يتحدثون في أغلب الأحوال عن "القوىالدينية" في مجملها، ولا ينسبون الخطأ إلى فاعله.
الخطأ الثالث أنهم يتجاهلونالتطور الكبير الحاصل في ساحة الفكر السياسي الإسلامي خلال العقود الثلاثة الأخيرة،الذي يمثل نقلة مهمة للغاية باتجاه التفاعل مع القيم الديموقراطية والتعايش معالآخر. وأكثر كتابهم يؤثرون الاستناد في المحاججة والتراشق الفكري إلى الممارساتالسلبية التي تتسم بالشذوذ وتنسب إلى آحاد الناس. الأمر الذي تفوح منه رائحةالاصطياد والتربص. بما يستبعد الرغبة في الحوار البناء والجاد.
ومن المفارقات فيهذا الصدد أن ذلك التطور الذي أشير إليه مرصود بدقة في الأوساط الاكاديمية الغربيةبأكثر من رصده في أوساط المثقفين العرب. تشهد بذلك كتابات ريموند وليم بيكر مؤلفكتاب "إسلام بلا خوف"، وجون اسبوزيتو في كتابه "أصوات الإسلام المعاصر" وغراهامفوللر في كتابيه "عالم بلا إسلام" و"مستقبل الإسلام السياسي".
المشكلة الثالثة التي تعاني منهاالأحزاب الإسلامية أنها جميعا حديثة العهد بالعمل في ظل الشرعية والنور. وإذا كانوضع الإخوان المسلمين (المحظورين) أفضل بصورة نسبية، فإن الآخرين جميعا كانوايتحركون في الظلام، سواء كـانوا محجوبين أو محبوسين، وظلوا طوال الوقـت يحدثونأنفسهم أو جماعتهم. إلا أنهم منذ أشهـر قلـيلة ولأول مرة في تاريخهم خرجوا إلىالنور وبدأوا في مخاطبة الرأي العام. ولذلك فليس مستغربا ألا يحسنوا مخاطبة الناس،وألا يبالي بعضهم بتخويفهم أو تخوينهم أو تكفيرهم. وسوف يحتاجون إلى بعض الوقتلانضاج أفكارهم وتهذيب خطابهم وإحسان تواصلهم مع المجتمع الذي لم يتعاملوا معه منقبل.
المشكلة الرابعة أن النخب التي اعتادت أن تتبنى خطاب إقصاء الإسلاميين لاتزال تتعامل معهم بدرجات متفاوتة من الازدراء والاستعلاء، وأن الذين يلقنوننا دروسافي احترام الآخر ينكرون على الإسلاميين حقهم في الكرامة والاحترام. وهو قول يسريبحق العلمانيين أيضا، الذين يستسـهل بعض الإسلاميين تجريحهم والطعن فيهم. الأمرالذي يعـني أن قيـمة احترام الآخر المخالف لم تترسخ بعد فمن منظومة القيم الحاكمةلعلاقات الطرفين.
(4)
حين يحدث هذا التحرك في مصر بالذات فإنه يصبح بالغ الضرر وشديد الخطورة. وحين أشير إلى مصر فإنني أنبّه إلى اننا نتحدث عن بلد يمثل الدين فيه قيمة عظمى،لدى المسلمين والأقباط، وحين يشيع بين المسلمين الذين يمثلون 94 في المئة من السكانأن ثمة تجمعا كان علو صوته وضجيجه أو بريقه الإعلامي يريد اقصاء الإسلام أو إضعافهفي البلد، فإن ذلك يعد بمثابة انتحار سياسي للذين أقاموا ذلك التجمع. ليس فقط لأنهيخلّ باستحقاقات السلم الأهلي، ولكن أيضا لأننا مقبلون على انتخابات تشريعية تفرضعلى الجميع أن يعملوا حسابا لمشاعر الناس وأصواتهم.
من ناحية أخرى، فإن من شأناستمرار التعبئة المضادة أن يعزّز من مكانة ودور جماعات التشدد الإسلامي، الأمرالذي يجعل مهمة قوى الاعتدال أكثر صعوبة. ومن خبرة ذاتية لم أكن الوحيد الذي مررتبها، فإن هناك حجة لا تخلو من منطق يرددها باستمرار كثيرون من المنتمين إلى تيارالتشدد، خلاصتها كما يلي: كيف تدعوننا إلى القبول بالآخر ومد اليد للتفاعل معه فيحين أن خطابهم يتراوح بين الاقصاء والاستئصال؟
لا مفر من الاعتراف بأن ثمة شريحةتتوزع على الجانبين لا أمل فيها ولا رجاء منها. إذ يرفض كل منهما وجود الآخرويكفّره إما بالدين أو بالديموقراطية. ذلك أن التفكير ليس مقصورا على الإسلاميينوحدهم، فالتكفير بالتعاليم يقابله تكفير آخر بقيم الديموقراطية.
وإذ أذكر بأنثمة قطاعا واسعا من الناس الحائرين، يمثلون الشريحة الأكبر في المجتمع لا ينتمونإلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهم يريدون أن يعيشوا في سلام وأمان مع دينهم ودنياهم،فإنني لا أجد حلا لتلك المشكلة ولا نهاية لتلك الحرب الأهلية الباردة والبائسة سوىأن يخاطب العقلاء والمعتدلون بعضهم بعضا على قاعدة من شقين أولهما الاعترافوثانيهما الاحترام. لكننا في الأجواء الساخنة التي يسودها الانفعال في الوقت الراهننجد صعوبة في العثور على أمثال هؤلاء، ليس لأنهم غير موجودين، ولكن لأن منابرالمتطرفين أكثر وأصواتهم أعلى وضجيجهم يكاد يسد الأفق، مع ذلك فينبغي ألا نفقدالأمل، وعزاؤنا في ذلك أنه لا يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف. وهو ما نتمنى أنندركه في حياتنا التي لم يبق منها الكثير.
التعليقات