02/08/2011 - 12:15

الخاسر الأكبر في حروبنا الأهلية../ فهمي هويدي

لا أكاد أرى نهاية للحرب الأهلية الباردة المستعرة منذ نحو خمسين عاما بين العلمانيين والإسلاميين، وإنما أزعم أن أوارها اشتد هذه الأيام التي يتطلع فيها الجميع إلى مستقبل جديد. كما أني لا أرى في هذه المعركة منتصرا أو مهزوما، لكني أقطع بأن الوطن سيكون الخاسر الأكبر في كل الأحوال

الخاسر الأكبر في حروبنا الأهلية../ فهمي هويدي
لا أكاد أرى نهاية للحرب الأهلية الباردة المستعرة منذ نحو خمسين عاما بينالعلمانيين والإسلاميين، وإنما أزعم أن أوارها اشتد هذه الأيام التي يتطلع فيهاالجميع إلى مستقبل جديد. كما أني لا أرى في هذه المعركة منتصرا أو مهزوما، لكنيأقطع بأن الوطن سيكون الخاسر الأكبر في كل الأحوال.

(1)

لا أتحدث عن مصروحدها. رغم أنها تظل الساحة الأكبر التي تدور على أرضها تلك الحرب البائسة. لأنالاحتراب الحاصل هنا حاصل بالقدر ذاته من الشراسة في تونس، وله ارهاصاته في سورياواليمن. أعني أنه في المجتمعات التي ارتفع فيها صوت الشعوب، وأسقطت أو اهتزت فيهادعائم الأنظمة الاستبدادية، فإن باب الحديث حول خيارات المستقبل وبدائله انفتح علىمصراعيه. وتم استدعاء ذلك الحديث حين ظهرت في الساحة الجماعات الإسلامية باختلافمسمياتها وشعاراتها، وأثبتت حضورا وأحدثت ضجيجا لافتا للانظار. وهي التي حجبت عنالأنظار خلال العقود التي خلت وتوزع أعضاؤها بين السراديب غير المرئية والسجونوالمنافي. وطوال سنوات الاحتجاب كان هجاؤهم هو الخطاب الوحيد المعتمد. كما أنالساحة ظلت حكرا على غيرهم من المنتمين إلى التيارات السياسية والفكرية الأخرى. حتىصار الاستثناء أصلا والأصل استثناء مستغربا!

في السابق كانت الشعوب مكممةوالمجتمع مؤمما، وكانت أجهزة السلطة تقود المعركة ضد الإسلاميين ومن ورائهم شريحةواسعة من المثقفين، وكانت تهمة الإرهاب تلاحق كل المنتمين إلى التيار الإسلامي. لكنالوضع اختلف الآن، فقد انكشف الغطاء ورفعت الوصاية وأتيحت الفرصة أمام الجميع لكييعرضوا أنفسهم على الملأ، ولم تعد هناك قيود على حق الجماعات الإسلامية في المشاركةالسياسية، شأنهم في ذلك شأن بقية البشر، من الأمور التي تغيرت أيضا أن السلطة لمتعد هي التي تقود المعركة ضدهم والمثقفون العلمانيون من ورائها. وإنما أصبح أولئكالمثقفون هم الذين يقودون المعركة ويحاولون أن يجروَّا السلطة من ورائهم. ثم إنموضوع الاتهام أو الهجاء اختلف بدوره. إذ لم يعد القلق من الأعمال الإرهابية، ومنأنشطتهم الدعوية سبب الهجاء. لأن السقف ارتفع كثيرا، في مصر على الأقل. إذ جرىالتخويف من حصولهم على الأغلبية في المجلس التشريعي ومن توهم تحكمهم في صياغةالدستور الجديد، ومن احتمال توليهم السلطة في مراتبها العليا، خصوصا ان ثلاثة منالإسلاميين رشحوا أنفسهم لرئاسة الجمهورية.

ظهور فصائل التيار الإسلامي بكثافةوبصورة شرعية في الساحة، وتقدمها صوب المشاركة السياسية اعتبره الآخرون خطرا وجوديايهددهم، فصعّدوا من وتيرة الحرب ضدهم، واستخدموا لأجل ذلك كل وسائل التعبئةوالتحريض التي صوبت السهام نحو هدفين، أحدهما ممارسات الإسلاميين وخطابهم والثانيمحاصرة الإسلام ذاته ونقد تعاليمه. وقد حفلت الصحف المصرية طوال الأشهر الأخيرةبسيل من المقالات التي كثفت من الهجوم على هاتين الساحتين. وهو ما يسوّغ لنا أننقول بأن الفزاعة التي استخدمت للتخويف من الإسلام في ظل النظام السابق، هي ذاتهاالتي استخدمت بعد سقوط ذلك النظام. وإذا كانت الدوافع إلى ذلك قد اختلفت، إلا أنهدف الإقصاء والاستئصال ظل واحدا.

(2)

لا أحد ينكر أن الثقة معدومة بينالطرفين، وأن حملة التفزيع حقّقت نجاحا مشهودا في تخويف قطاعات واسعة من المواطنينمن الإسلاميين. وثمة تفرقة بين مشاعر الخوف التي تنتاب البعض، ومنهم وطنيونومتدينون. وبين الخصومة التي ينطلق منها أغلب العلمانيين. وخوف الأولين ناشئ عن سوءالفهم. أما خصومة الأخيرين فهي تنطلق من سوء الظن بالآخر، وبين الإفراط في إحسانالظن بالذات. وهذه النقطة الأخيرة تحتاج إلى تحرير.

فالعلمانيون يعانون من مشاكلعدة في قراءتهم للإسلام ونظرتهم إلى الإسلاميين. فهم عادة يقارنون بين أفضل ما فيالعلمانية وبين أسوأ ما هو منسوب إلى الإسلام. وذلك خطأ منهجي كبير، دفعهم إلى نسبةكل القيم الإيجابية إلى العلمانية دون غيرها. فهي تعنى الحرية والديموقراطيةوالليبرالية ومدنية المجتمع... مع أن ذلك بدوره خطأ علمي ومعرفي، إذ ليس صحيحا أنكل تلك القيم حكر على العلمانية، وإنما هي قيم إنسانية يمكن أن توجد في ظل الإسلامأيضا. إذ بوسع المرء أن يكون مسلما وليبراليا وديموقراطيا في الوقت ذاته. ثم إنهليس هناك تلازم ضروري بين العلمانية وبين تلك القيم، يؤيد ذلك أن النظامين في تونس (قبل السقوط) وسوريا لهما انحيازهما الواضح للعلمانية.

الخطأ الثاني الذي يقعفيه العلمانيون أنهم لا يعترفون بالتمايزات الحاصلة في الساحة الإسلامية، ويعممونشطحات وأخطاء البعض على الجميع، ولذلك فإنهم يتحدثون في أغلب الأحوال عن "القوىالدينية" في مجملها، ولا ينسبون الخطأ إلى فاعله.

الخطأ الثالث أنهم يتجاهلونالتطور الكبير الحاصل في ساحة الفكر السياسي الإسلامي خلال العقود الثلاثة الأخيرة،الذي يمثل نقلة مهمة للغاية باتجاه التفاعل مع القيم الديموقراطية والتعايش معالآخر. وأكثر كتابهم يؤثرون الاستناد في المحاججة والتراشق الفكري إلى الممارساتالسلبية التي تتسم بالشذوذ وتنسب إلى آحاد الناس. الأمر الذي تفوح منه رائحةالاصطياد والتربص. بما يستبعد الرغبة في الحوار البناء والجاد.

ومن المفارقات فيهذا الصدد أن ذلك التطور الذي أشير إليه مرصود بدقة في الأوساط الاكاديمية الغربيةبأكثر من رصده في أوساط المثقفين العرب. تشهد بذلك كتابات ريموند وليم بيكر مؤلفكتاب "إسلام بلا خوف"، وجون اسبوزيتو في كتابه "أصوات الإسلام المعاصر" وغراهامفوللر في كتابيه "عالم بلا إسلام" و"مستقبل الإسلام السياسي".
 
(3)

التيارالإسلامي أيضا له أكثر من مشكلة. إحداها أنه بدوره يدين كل أطروحات الطرف الآخر. فلا يميز مثلا بين علمانية مخاصمة ومعادية للدين (كما في فرنسا) وأخرى متصالحة معه (كما في إنكلترا حيث تتولى الملكة رئاسة الكنيسة). وهذا الالتباس حاصل أيضا في فهممصطلح الليبرالية الذي يحتمل تأويلات عدة، تتراوح بين حرية الرأي والتسامح معالآخر، وبين الدفاع عن الشذوذ الجنسي. المشكلة الأخرى أن ساحة ذلك التيار تزدحمبالأصوات والرؤى المتعددة. للعلم عقد اجتماع في مقر رابطة الجامعات الإسلامية قبلأيام لممثلي الأحزاب الإسلامية الذين بلغ عددهم 17 شخصا يمثلون أحزابا بعضها تمإشهاره (اثنان فقط هما حزب الحرية والعدالة المتفرع عن الإخوان والثاني حزب النورالسلفي). أما الباقون فكانوا يمثلون أحزابا تحت التأسيس. وبسبب تعدد الأصواتواختلاف الرؤى، فإن الآراء التي تعبر عنها تلك الأحزاب تتراوح بين الاعتدال والشططوالتشدد. من ثم فليس مستغربا أن نجد بينها من يؤمن بالديموقراطية ويدافع عنها ومنهامن يكفر الديموقراطية والعلمانية. والحاصل أن المتصيدين والمتربصين يسلطون الضوءعلى الأخيرين على قلتهم ويتجاهلون الأولين.

المشكلة الثالثة التي تعاني منهاالأحزاب الإسلامية أنها جميعا حديثة العهد بالعمل في ظل الشرعية والنور. وإذا كانوضع الإخوان المسلمين (المحظورين) أفضل بصورة نسبية، فإن الآخرين جميعا كانوايتحركون في الظلام، سواء كـانوا محجوبين أو محبوسين، وظلوا طوال الوقـت يحدثونأنفسهم أو جماعتهم. إلا أنهم منذ أشهـر قلـيلة ولأول مرة في تاريخهم خرجوا إلىالنور وبدأوا في مخاطبة الرأي العام. ولذلك فليس مستغربا ألا يحسنوا مخاطبة الناس،وألا يبالي بعضهم بتخويفهم أو تخوينهم أو تكفيرهم. وسوف يحتاجون إلى بعض الوقتلانضاج أفكارهم وتهذيب خطابهم وإحسان تواصلهم مع المجتمع الذي لم يتعاملوا معه منقبل.

المشكلة الرابعة أن النخب التي اعتادت أن تتبنى خطاب إقصاء الإسلاميين لاتزال تتعامل معهم بدرجات متفاوتة من الازدراء والاستعلاء، وأن الذين يلقنوننا دروسافي احترام الآخر ينكرون على الإسلاميين حقهم في الكرامة والاحترام. وهو قول يسريبحق العلمانيين أيضا، الذين يستسـهل بعض الإسلاميين تجريحهم والطعن فيهم. الأمرالذي يعـني أن قيـمة احترام الآخر المخالف لم تترسخ بعد فمن منظومة القيم الحاكمةلعلاقات الطرفين.

(4)

يوم الأحد 17/7 عُقد في دمشق المؤتمر العلماني الأول،الذي رفع شعار "العلمانية هي الحل"، حيث ارتأى بيانه أنها الصيغة الوحيدة لقيادةالمرحلة المقبلة، ولا أستبعد أن يكون ترتيب عقد المؤتمر له صلة بأجواء الاضطراباتالحاصلة في سوريا، التي يؤيدها الإخوان المعارضون للنظام. وفي تونس احتشدالعلمانيون فيما سمح بالتجمع الديموقراطي لمنازلة ومنافسة حركة النهضة الإسلامية فيالانتخابات التشريعية القادمة. وفى مصر احتشاد مماثل يحاول أن يرصّ صفوف العلمانينوالمتوجسين لمواجهة التيارات الإسلامية. وهذا ما عبرت عنه بعض الوثائق التي أعلنتمؤخرا، واجتمع لإعدادها نفر من هؤلاء تحت شعار حماية الدولة المدنية من تغول المدالديني.

حين يحدث هذا التحرك في مصر بالذات فإنه يصبح بالغ الضرر وشديد الخطورة. وحين أشير إلى مصر فإنني أنبّه إلى اننا نتحدث عن بلد يمثل الدين فيه قيمة عظمى،لدى المسلمين والأقباط، وحين يشيع بين المسلمين الذين يمثلون 94 في المئة من السكانأن ثمة تجمعا كان علو صوته وضجيجه أو بريقه الإعلامي يريد اقصاء الإسلام أو إضعافهفي البلد، فإن ذلك يعد بمثابة انتحار سياسي للذين أقاموا ذلك التجمع. ليس فقط لأنهيخلّ باستحقاقات السلم الأهلي، ولكن أيضا لأننا مقبلون على انتخابات تشريعية تفرضعلى الجميع أن يعملوا حسابا لمشاعر الناس وأصواتهم.

من ناحية أخرى، فإن من شأناستمرار التعبئة المضادة أن يعزّز من مكانة ودور جماعات التشدد الإسلامي، الأمرالذي يجعل مهمة قوى الاعتدال أكثر صعوبة. ومن خبرة ذاتية لم أكن الوحيد الذي مررتبها، فإن هناك حجة لا تخلو من منطق يرددها باستمرار كثيرون من المنتمين إلى تيارالتشدد، خلاصتها كما يلي: كيف تدعوننا إلى القبول بالآخر ومد اليد للتفاعل معه فيحين أن خطابهم يتراوح بين الاقصاء والاستئصال؟
لا مفر من الاعتراف بأن ثمة شريحةتتوزع على الجانبين لا أمل فيها ولا رجاء منها. إذ يرفض كل منهما وجود الآخرويكفّره إما بالدين أو بالديموقراطية. ذلك أن التفكير ليس مقصورا على الإسلاميينوحدهم، فالتكفير بالتعاليم يقابله تكفير آخر بقيم الديموقراطية.

وإذ أذكر بأنثمة قطاعا واسعا من الناس الحائرين، يمثلون الشريحة الأكبر في المجتمع لا ينتمونإلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهم يريدون أن يعيشوا في سلام وأمان مع دينهم ودنياهم،فإنني لا أجد حلا لتلك المشكلة ولا نهاية لتلك الحرب الأهلية الباردة والبائسة سوىأن يخاطب العقلاء والمعتدلون بعضهم بعضا على قاعدة من شقين أولهما الاعترافوثانيهما الاحترام. لكننا في الأجواء الساخنة التي يسودها الانفعال في الوقت الراهننجد صعوبة في العثور على أمثال هؤلاء، ليس لأنهم غير موجودين، ولكن لأن منابرالمتطرفين أكثر وأصواتهم أعلى وضجيجهم يكاد يسد الأفق، مع ذلك فينبغي ألا نفقدالأمل، وعزاؤنا في ذلك أنه لا يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف. وهو ما نتمنى أنندركه في حياتنا التي لم يبق منها الكثير.
 
"الشروق"

التعليقات