25/08/2011 - 14:04

محصلة هذا السلام../ جميل مطر

أعود فأسألهم: ماذا جنيتم أو جنت مصر على أيديكم خلال السنوات الثلاثين الماضية؟ أسأل العشرات وربما المئات، ومنهم قادة في النخب السياسية والإعلامية والثقافية، قضوا تلك السنوات يبشرون بسلام من نوع يفرض فرضاً، سلام ينفذ ولا يناقش، ينزل قضاء مبرماً وقدراً مكتوباً لا يحق لحاكم عربي أو لشعبه أن يغيره أو يطالب بتخفيفه

محصلة هذا السلام../ جميل مطر
أعود فأسألهم: ماذا جنيتم أو جنت مصر على أيديكم خلال السنوات الثلاثين الماضية؟ أسأل العشرات وربما المئات، ومنهم قادة في النخب السياسية والإعلامية والثقافية، قضوا تلك السنوات يبشرون بسلام من نوع يفرض فرضاً، سلام ينفذ ولا يناقش، ينزل قضاء مبرماً وقدراً مكتوباً لا يحق لحاكم عربي أو لشعبه أن يغيره أو يطالب بتخفيفه.
 
سألت الشبان، الجيل الذي ولد وعاش في ظل حملات مدروسة لغرس هذا السلام في نفوسهم البريئة، سألتهم عن السلام. ماذا يعني لهم وكيف وجدوه على أرض الواقع بعد أن نضجوا وخرجوا يبحثون عنه في ركام الكبرياء؟ عرفوه ذلاً ومهانة في كل مرة خرجت طائرات "إسرائيل" لتقتل أصحاب الأرض في فلسطين وأصحاب العزيمة في لبنان، ولم يخرج صوت مسؤول مصري ينطق بكلمة حق أو يذكّر بروح السلام العادل. لم تتحرك مصر لأنها اختارت جانب السلام وتركت "إسرائيل" تختار جانب الحرب، وكلاهما طرفان في اتفاق سلام واحد. حرب هناك وسلام هنا يعملان معاً في تناغم ورضاء متبادل لصنع سلام إقليمي، بينما الحقيقة الناصعة تشي بهدف أوحد هو ضمان أمن شعب "إسرائيل" ولو تطلب هذا الأمن سحق كرامة شعوب المنطقة كافة وفي مقدمها كرامة شعب مصر.
 
يجيب الشبان بسخرية صاخبة. قال لنا كبار كتاب مصر وعلماء السياسة فيها وأولو الأمر، إن السلام الذي وقعنا عهداً بالتزامه يعادل الرخاء. تلفتنا لنبحث حولنا في بيوتنا ومحالنا وأعماق ريفنا فلم نجد الرخاء. عرفنا بعدها أن السلام الذي غرسوه فينا يعني الفقر والذل والجهل والمرض والهجرة، وربما كان يعني أيضاً الموت غرقاً في البحر. قالوا لنا كذلك عن سلامهم، إنه يعكس حبهم للوطن وتقديسهم للوطنية المصرية إلى أن جاء يوم اكتشفنا فيه أن الوطن المحبوب سرقوه، وأن الوطنية المصرية التي ادعوا تقديسها داسوها بأقدامهم وطرحوها في أسواق الرهانات والمزادات. وقالوا إن السلام حضارة وتقدم فوجدناهم في ظل السلام وباسمه يمارسون تعذيب خصومهم بأساليب العصور الوسطى وبعقلية المتخلفين والأقدمين.
 
زعموا أنه بالتطبيع تكسب مصر عطف شعب "إسرائيل"، وهو حسب رأيهم الشعب المحب للسلام بحكم ما قدم من تضحيات عبر التاريخ، وهو أيضاً الشعب الديمقراطي الطبع والمزاج. هؤلاء، مثل كثيرين بين من نعرف من العاملين في بعض مراكز البحوث الأمريكية، يعيشون حالة إنكار دائم. لن يعترفوا لأنهم تطبعوا بطباع "الإسرائيليين"، وتفهّموا أغراضهم ويعيشون معهم آلام المحرقة وذكرياتها، متجاهلين أو ناكرين وقوع محارق أخرى ارتكبها قادة الحركة الصهيونية والدولة "الإسرائيلية" عبر العقود. لا تكدر مزاجهم حقيقة أن الشعب المحب للسلام ينتخب ويدعم حكومات تنفذ عمليات إبادة وقتل وتشريد، أو أن هذا الشعب الديمقراطي الطبع يميز ضد المواطنين من أصول غير يهودية في التعليم والصحة والإسكان، وها هو يطلب منهم الآن ما لم يطلبه أدولف هتلر، عدو اليهود اللدود، من الشعوب التي أخضعها لحكم الرايخ أو هيمنته.
 
قالوا وقالوا، إلا أن أهم وأخطر ما قاله المقتنعون بنوايا "إسرائيل" السلمية، وأصبح البعض منا يردده بألم شديد والبعض الآخر يردده بيأس مُتناهٍ، هو أننا لا نقوى الآن ولن نقوى في المستقبل، ولم نمتلك الشجاعة في الماضي ولن نمتلكها في المستقبل، حتى نطلب بوضوح وإصرار تغيير بعض مواد الاتفاقية اللعينة. نقول الآن وتردد معنا الملايين، إننا قادرون بفضل هذه الثورة على تحدي العقلية الصهيونية العدوانية وقادرون على قهر الذل والمهانة.
 
ما زال يعيش بيننا دبلوماسيون وعسكريون عظام حذروا قبل ثلاثين عاماً أو أكثر من عواقب وضع قيود على السيادة المصرية في سيناء. سمعت أحدهم يقول وقتها، إن الجيل القادم لن يقبل بهذه القيود وسوف يثور مطالباً بإزالتها، واستطرد قائلاً، وفي حال لم تُلغَ أو تعدّل أو تصحح، سيأتي جيل آخر لن يكون أقل بأساً وعزيمة ومزوداً بأدوات أخرى غير التظاهر السلمي مطالباً بتمزيق الاتفاقية. أتطلع حولي فأرى الجيل الذي انتظره صديقي يعلن بكل صرامة أنه لن يقبل باستمرار القيود على السيادة المصرية، ولن يقبل بأقل من استعادة كبرياء هذا الوطن.
 
يدرك المسؤولون عن إدارة مفاوضات مصر في المرحلة الراهنة حق الإدراك، ضخامة العقبات الدولية والإقليمية التي يمكن أن تعقّد مهمتهم، ولكنهم يدركون أيضاً حق الإدراك ضخامة الرصيد الذي يمكن أن يعتمدوا عليه في التخطيط لمفاوضاتهم وسياساتهم الخارجية والتغلب على هذه العقبات. هذا الرصيد هو الثورة الناشبة في مصر وهذه الغضبة الرهيبة التي كشف عنها جيل جديد. لقد قالت مصر على مدى الأيام الأخيرة وبأعلى صوت فيها، صوت الشباب، إنها لن تعود إلى الاتفاقية إلا بعد أن تعود سيادة مصر قولاً وفعلاً إلى أرض سيناء.
 
وأقول للذين وعدوا مواطنيهم بأن التصديق على الاتفاقية سيعقبه عصر سلام ورخاء اقتصادي واستقرار سياسي وتحضّر ثقافي وتقدم علمي وتكنولوجي، أقول لهم انظروا حولكم ثم اعتذروا لشعب مصر، فالاتفاقية جاءت بعكس كل ما بشّرتم به.
"الشروق"

التعليقات