19/09/2011 - 10:46

جدل الثقافة والسياسة في الساحة الفلسطينية../ ماجد كيالي

مع انطلاقة حركة التحرر الوطني الفلسطيني (أواسط الستينيات) بات يمكن الحديث عن نشوء حيز ثقافي فلسطيني خاص (بالمعنى النسبي)، لكن مشكلة هذا الحيّز أنه نشأ و"اصطنع" على هامش الفصائل المسلحة في هذه الحركة

جدل الثقافة والسياسة في الساحة الفلسطينية../ ماجد كيالي
مع انطلاقة حركة التحرر الوطني الفلسطيني (أواسط الستينيات) بات يمكن الحديث عن نشوء حيز ثقافي فلسطيني خاص (بالمعنى النسبي)، لكن مشكلة هذا الحيّز أنه نشأ و"اصطنع" على هامش الفصائل المسلحة في هذه الحركة.
 
هكذا أحاطت بعملية تخليق هذا الفضاء الثقافي مشكلات وسلبيات ناجمة عن طغيان الطابع العاطفي/الشعاراتي/العسكري على الفصائل، على حساب طابعها العقلاني /السياسي/الجماهيري، وهيمنة العلاقات الأبوية والمزاجية فيها بدل العلاقات المؤسسية والديموقراطية، وتفشي روح الوصاية الفصائلية على القضية والشعب.
 
وقد فاقم من هذه المشكلات سيطرة الاتجاه المحافظ في الساحة الفلسطينية ما حدّ من إمكان تخليق ثقافة حداثية فيها؛ برغم أنها كانت تعجّ بالشعارات والأيدلوجيات (الوطنية والقومية والدينية واليسارية)؛ بما هي شعارات وأيدلوجيات رغبوية وإرادوية لا نقاش فيها.
 
وفي الممارسة العملية فقد استخفّت الفصائل، التي تخضع لسلطة "الأبوات"، بالثقافة، وبالعاملين في حقلها (بأنواعه الفكرية والأدبية والبحثية والفنية)، وهي التي لطالما روّجت لمقولات من نوع: "اللقاء في أرض المعركة"، و"النظرية تنبع من فوهة البندقية"! وكان عدد أجهزة الأمن، وموازناتها أكثر وأكبر بكثير من عدد مراكز الأبحاث والمراكز الثقافية، وكان للأبوات وقادة الأجهزة العسكرية والأمنية الدور المقرر في صياغة الساحة الفلسطينية بشعاراتها وبناها، وأشكال عملها، حتى ان بعض هؤلاء باتوا مقررين بشؤونها وبمؤسساتها الثقافية!
 
وبرغم تمكن الفصائل في تلك المرحلة من استقطاب وإنتاج عدد كبير من المثقفين والباحثين والصحافيين والفنانين بفضل الصحف والمجلات والكتب التي أصدرتها، إلا أنها لم تنجح في نسج علاقات تفاعلية وتداولية وتوليدية معهم، فهذه العلاقة ظلت مشوبة بنوع من التوجس والاستخفاف أو من الكره والحذر، في آن معا.
 
بالنتيجة فقد تموضعت الثقافة والعاملون فيها، في ظل هذه الأوضاع، ضمن قوالب معينة، بحيث تحددت وظيفتها مسبقا في الدعاية والتحريض، ما جعلها، بالنسبة للفصائل، مجرد ملحق للتبرير والتجميل، وليس للفحص والنقد والتدبير. وبات المثقفون في الفصائل، في معظم الأحوال، مجرد ديكور أو تابع، بدل أن يكونوا قلبها وروحها الحيّة والمجدِّدة.
 
أما خارج علاقات الامتثال والتماثل فكانت علاقة المثقف الفلسطيني بالقيادات الفصائلية علاقة متوترة، ومتنابذة، ولم تكن علاقة تكامل وتعاضد. وأمثلة ذلك كثيرة، في علاقة القيادة الفلسطينية بمركز الأبحاث ورئيسه أنيس صايغ، وبالأمين العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين ناجي علوش، وبإدوارد سعيد، مثلا، كما في علاقة هذه القيادة الفوقية بكل المؤسسات الثقافية والبحثية، التي عملت على تهميشها، على الرغم من أنها كانت تعمل تحت رعايتها.
 
وبالنسبة للعلاقة بالثقافة والمثقفين خارج الفضاء الفصائلي فهي لم تكن ايجابية البتة، إذ هيمن المجال الثقافي الفصائلي على المشهد الثقافي الفلسطيني العام، بفضل تمتع العاملين فيه بموارد سلطوية معنوية ومادية، وليس بفضل المواهب والإبداعات، وهي وإن لم تكن قليلة عموما، إلا أنها لا تمنحها الحق باحتلال كامل المشهد الثقافي الفلسطيني، أو حجب واستبعاد المشهد الثقافي غير الفصائلي.
 
في كل الأحوال فإن الثقافة الفلسطينية التي ارتكزت على الشمولية، وقدست السلاح والقضايا، على حساب الناس وتطور المجتمع، أدت إلى طمس الصوت الخاص والمتفرد للمثقف، بدعوى ثقافة "الالتزام"، على حساب ثقافة الإبداع، وثقافة التطوير والتغيير والتحديث.
 
وفي هذه الحال لم يكن ثمة مجال للمثقف المستقل عن الفصائل لتوليد حالة ثقافية خاصة، فليس ثمة سلطة البتة لهكذا مثقف، ليس له صحيفة ولا منبر ولا جامعة، وهو بالأصل ليس له مجتمع محدد في حيز جغرافي خاص به.
 
الأنكى من ذلك أن الثقافة الجمعية أو الجماهيرية للمجتمعات الفلسطينية، التي تأسست على استعادة الماضي والعواطف والثأر، تغذّت من ثقافة "الأبوات" (من قادة الفصائل)، التي كانت تفتقر لثقافة المسؤولية والعقلانية والنقد والمحاسبة، في وضع احتلت فيه الفصائل، ومارست (كل بحجمها)، مواقع وسياسات سلطوية وشمولية في المجتمع الفلسطيني، ما أدى إلى استبعاد النخب والفاعليات الثقافية والاقتصادية عن التقرير بالشأن الفلسطيني، وهمشت المجتمع المدني، ما يتناقض مع الثورة التي يفترض أنها تعتمد على استنهاض قوى المجتمع.
 
بعد قيام كيان السلطة لم يختلف المشهد السلبي لعلاقة المثقف والثقافة بالسياسة، ذلك أن أفول مشروع التحرر الوطني أدى إلى تنامي النزعات والعصبيات السلطوية/الفصائلية، مع نزعات الفساد والمحسوبية والزبائنية، في التعيين والتوظيف، في كيان يعتمد على الخارج أكثر بكثير مما يعتمد على موارد شعبه. أيضا فإن اختزال القضية بمجرد كيان في الضفة والقطاع أدى إلى ضمور مشروعها الوطني/السياسي والثقافي، وقاد إلى استبعاد الفلسطينيين "الآخرين" (المبدعين والمثقفين والأدباء والشعراء والكتاب والفنانين والباحثين والصحافيين)؛ من خارج خريطتها الكيانية او السلطوية.
 
هكذا فإن علاقة الثقافة والمثقف بالسياسة وبالسلطة عند الفلسطينيين لم تكن أحسن من مثيلاتها في البلدان العربية، بالنسبة لارتهانها لعلاقات القوة والهيمنة والسلطة، وللتحيّزات السياسية، والشعارات الجمعية.
 
وإضافة إلى ما تقدم فإن هذه العلاقة كانت على درجة كبيرة من الهشاشة، بحكم حرمان المجتمعات الفلسطينية من الفضاء الثقافي الخاص بها، وغياب الحيّز الاجتماعي الموحّد لها، وخضوعها لفضاءات وسلطات ثقافية مختلفة ومتباينة، في مناطق اللجوء والشتات.

التعليقات