29/09/2011 - 11:58

الفساد والأزمة العالمية والثورة: ثلاثية العصر../ جميل مطر

نعود لنؤكد أن التطوير أو التثوير بجب أن يبدأ بالرأس، أي بالأمم المتحدة. ليس فقط لأنها تثبت كل يوم عجزها عن مواكبة طموحات الشعوب الفقيرة والواقعة تحت الاحتلال، ولكن أيضاً لأنها جزء من نظام دولي تجاوز عمره الافتراضي وفقد الكثير من صلاحيته، ويبدو من ملاحظة عديد تصرفاته أنه صار مستعداً للرحيل

الفساد والأزمة العالمية والثورة: ثلاثية العصر../ جميل مطر
جلست على امتداد ساعات أستمع إلى نقاش يحتد حيناً ويهدأ حيناً. دار النقاش عن العلاقة، إن وجدت، بين المكانة المتميزة التي يحظى بها القطاع الخاص وبين تفاقم ظاهرة الفساد في المجتمعات العربية. كان بين المشاركين أصدقاء ومعارف يمثلون قوى اقتصادية واجتماعية متنوعة. كان هناك بعض قادة الرأسمالية الجديدة ورموز يسارية بينهم من كان حتى عهد قريب لا يطيق سماع تعبير قطاع خاص، ومنهم واقعيون صاروا يقبلون التعامل مع القوى الممثلة لهذا القطاع وإن على مضض. حضر أيضاً من الجنسين عدد لا بأس به يمثل الإدارة الحكومية وأغلبهم لا تنقصه كفاءة المواءمة والقدرة على تأجيل الحسم وإبطال مفعول معظم البدائل التي تأتي في النقاش أو في التوصيات النهائية.
 
حرمني الزكام الشديد من المشاركة في أعمال اليوم الأول، وإن لم يقوَ على حرماني من متابعة النقاش رغم ضعف التركيز. استرعت انتباهي حقيقة أن الخلاف على دور القطاع الخاص في تحقيق التنمية المستدامة، استحوذ على جانب كبير من النقاش. انشغل المشاركون بالجانب الأيديولوجي ناسين أو متناسين أنهم اجتمعوا للبحث في قضية استفحال ظاهرة الفساد وعلاقة هذا الاستفحال بالنفوذ المتصاعد للقطاع الخاص.
 
كان مفيداً بشكل خاص متابعة الدفاع المستميت من جانب أكثرية ملموسة عن قطاع خاص بعينه، تارة هو القطاع الخاص الوطني وتارة يكون القطاع الخاص الصغير، ومن جانب تيار يفصل تماماً بين رأسمالية عاقلة ورأسمالية متوحشة، ويرفض إطلاق تعبير القطاع الخاص على هذا النوع الأخير من النشاط الرأسمالي. تيار آخر كان يتعمّد طول الوقت أن يضع في سلة واحدة الشركات العظمى متعددة الجنسيات مع صاحب محل البقالة الصغير في أفقر حي بأي مدينة عربية. أنصار هذا التيار أساءوا أيما إساءة إلى جو النقاش وهدف الاجتماع، وفي الوقت نفسه لم يخدموا قضيتهم. المثير بالنسبة إليّ أنني اكتشفت شبهاً كبيراً بين أساليب استخدموها في النقاش وأساليب أرى أعضاء مصريين ينتمون إلى هذا التيار يستخدمونها على مستوى النقاش الكبير الدائر في مصر هذه الأيام. رأيت التعالي والاستهتار والاستكبار على الثورة والثوار وإضرابات المقهورين والمظلومين.
 
كان واضحاً أن قطاعات في الجماعة الفكرية العربية مازالت تستوحي استنتاجاتها ورؤاها من تدفقات الدعاية التي تبثها أبواق الشركات المتعددة الجنسيات ومراكز الفكر المحافظ في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. لقد تابعت بآذان واعية كيف تسربت بين الحاضرين والحاضرات حتى سيطرت على جو المناقشات فكرة "المسؤولية الاجتماعية" للشركات الكبرى والأثرياء والقشرة التي استفادت من فورة عصر النيولبرالية كما يطلقون عليه في الغرب، أو عصر النهب الفاحش كما نطلق عليه في العالم العربي وفي مصر خاصة.
 
لست متبرماً بالطبيعة ولا شاكياً، ولكني أعترف أنني لم أستسغ سماع قصص التبرعات المالية التي يتكرم أغنى الأغنياء في أمريكا بالإعلان عنها كهبات من أجل أعمال خيرية تنفق في مكان أو آخر، وأحياناً كثيرة في لا مكان على الإطلاق. سمعنا عن تبرعات غيتس وبعده تسابق العشرات في سرعة مشبوهة للتخلص من ضرائب قدرت بعشرات البلايين. ولعل كلاً منا يذكر الحملة التي قادتها سيدة النظام الراحل لحث رابطة الأغنياء وأكثرهم مدين للنظام بما وصل إليه، على التبرع لصناديقها تحت عنوان المسؤولية الاجتماعية. كلنا يذكر أيضاً سيل التدفقات النقدية ذات الأرقام الأسطورية التي تبرعت بها لشعوبها حكومات عربية معيّنة في أعقاب نشوب ثورات في دول مجاورة. كانت على ما أظن، المرة الأولى التي أسمع فيها عن حكومة تتبرع لمواطنيها.
 
لا يحتاج المرء إلى خبرة خاصة في شؤون الفساد وظروف تفاقمه ليدرك أن صلة ما قامت بين تطورين مهمين شهدهما العالم في السنوات القليلة الماضية. هناك أولاً الاستهتار الشديد الذي تعاملت به قوى رأسمالية هائلة مع مصالح دولها، وفي حالات بعينها مع المصالح التقليدية المتعارف عليها للنظام الرأسمالي والاقتصاد العالمي. لقد تجاوزت مؤسسات مالية معروفة الحدود غير المسموح بتجاوزها كافة واستهانت بمدخرات وممتلكات المساهمين والمتعاملين معها. أضرت ضررًا جسيماً بالاقتصادات الوطنية وبخاصة الاقتصاد الأمريكي، وتسببت في زعزعة الثقة بين الشعب من جهة، وقطاع التمويلات والمصارف وطبقة الأغنياء عموماً من جهة أخرى. وقد بات واضحاً، ويكتب عنه اقتصاديون كبار، أن هذه المؤسسات المالية والمصرفية، وبخاصة العاملة في قطاع الرهن والعقارات، قد أسهمت في إفساد الحياة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة خاصة، ودول الغرب عامة.
 
كان هذا هو التطور الأول، أما التطور الثاني فهو الحالة الثورية التي تسود في دول في جنوبي أوروبا والشرق الأوسط. لا مبالغة أو تسرّعَ في التحليل القول إن هذه الثورات، في جانب منها على الأقل، ليست منبتة الصلة بالأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها السياسية والاجتماعية، بل لعلها جاءت رداً عليها. جاءت أيضاً بمرتبة شعبي حاسم على تفاقم الفساد في الأنحاء كافة وعلى كل المستويات. لم تنخدع الشعوب بحملات المسؤولية الاجتماعية للشركات الكبرى والممولين الكبار ومن في ركابهم من الناهبين العظام. الآن نقرأ لإصلاحيين رأسماليين الرأي السديد في شعار المسؤولية الاجتماعية. فالشعار في نظرهم يهدف إلى "تزويق" الوجه الرأسمالي الذي "تبشّع" في العقود الأخيرة أو هو بالأحرى جزء من عملية تجميل في وجه شوهته عوامل الفساد والحروب الإمبراطورية وعصر السرقات العظمى.
 
ضمن هذا الإطار أستطيع أن أفهم المحاولات المستميتة لتبريد ثم تبديد قضايا الفساد الشهيرة في دول الربيع الثائر. يلفت النظر أنه بالرغم من أن مصر مازالت في ثورة أو هكذا نزعم ونتمسك بزعمنا، فإننا لا نسمع عن قضايا فساد جديدة كما لو كانت الثورة في حد ذاتها أداة فعالة وحاسمة في مكافحة الفساد. ظاهر الأمر أن للثورات مفعول السحر ضد الفساد، أو أن المسؤولين يخجلون من الإعلان عن ضبط قضايا فساد نشبت تحت سمع الثورة وفي وجودها. ربما لا يريد أحد تشويه صورتها النظيفة، وإلا كيف يمكن تفسير الاختفاء المفاجئ للفساد في مجتمعات عاش فيها كالوباء مستفحلاً. قال لي أحد خبراء الفساد، إنه يعتقد أن القمم الفاسدة قررت مع غيرها من أوبئة عهد الظلام الدخول في مرحلة كمون في انتظار أن تضعف مناعة الثورة فتخرج مجتمعة للإجهاز عليها!
 
يبقى رغم ذلك ما يطمئن، فالجهود البرلمانية والشعبية متواصلة في اليونان وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وغيرها للحد من نفوذ قوى الفساد. إنه دليل آخر على أن الثورة "العالمية"، وثورتنا جزء أصيل فيها، مازالت فاعلة ومشتعلة رغم استماتة قوى الفساد.
 
يتعين على ثورة مصر لتحقّق ثمارها وتصون ما حققته حتى الآن، أن تسارع بالاتصال بالثورات الأخرى في العالم العربي وأوروبا وبالقوى المناهضة للفساد في كل مكان. يتعين أن تتوحد جهود الثوار في كل مكان لإحداث تغيير جوهري في أنظمة وقواعد ومبادئ العمل في المؤسسات الدولية كافة، وبخاصة الاقتصادية والمالية التي لعبت دوراً فاعلاً لفرض "استقرار اقتصادي فاسد" في عديد الدول النامية، وترسيخ علاقات تجارية دولية غير عادلة.
 
نعود لنؤكد أن التطوير أو التثوير بجب أن يبدأ بالرأس، أي بالأمم المتحدة. ليس فقط لأنها تثبت كل يوم عجزها عن مواكبة طموحات الشعوب الفقيرة والواقعة تحت الاحتلال، ولكن أيضاً لأنها جزء من نظام دولي تجاوز عمره الافتراضي وفقد الكثير من صلاحيته، ويبدو من ملاحظة عديد تصرفاته أنه صار مستعداً للرحيل. 

التعليقات