02/10/2011 - 10:26

عصبيات الفلسطينيين واستقطاباتهم السياسية../ ماجد كيالي

على أية حال فقد أنجبت هذه العقلية الفصائلية، التي تصادر الشعب، وتختزله، وتطمس أصواته المختلفة، نوعا من التشوّه في الثقافة السياسية، التي باتت مبنية على ثنائيات من نوع من هو ليس معي فهو ضدي، يا أبيض يا أسود، ياوطني ياخائن، وهي عقلية لاتوصل أحداً إلى مكان، كما علمتنا التجربة، لأنها مبنية على التبسيط والاستسهال، وليس على حثّ التفكير لوعي التناقضات والتعقيدات والإشكالات الكامنة في العملية الوطنية الفلسطينية

عصبيات الفلسطينيين واستقطاباتهم السياسية../ ماجد كيالي
راجت عند الفصائل الفلسطينية عبارات تقوّل الشعب ما لا تتوافّر له الظروف والإطارات والإمكانات لقوله حقاً، من مثل: "إن جماهير الشعب ترفض أو تطالب..."، أو "إن شعبنا يتمسّك أو يدين..." أو "إن الشعب يرى أو يعتبر..."، وهي عبارات يجرى استسهال إطلاقها جزافاً في المهرجانات والمؤتمرات والخطابات الحماسية والبيانات السياسية، التي تستدعي الإنشاءات والعواطف، دون أي اهتمام للاستحقاقات التي تفترضها، أو للمتطلبات التي تنبثق عنها. طبعا ثمة مشكلة هنا في تحديد المعنى، فالشعب ليس كائنا محدّدا إزاء ذاته، وإنما يعرّف كذلك بالقياس لشعب آخر، أما إزاء ذاته فتدخل في هذا المفهوم مختلف الطبقات والفئات والأفراد ذوي الإرادة الحرة، وتمثيلاتهم.
 
حتى إذا تجاوزنا ذلك فإن الاعتراض هنا ليس على مفهوم الشعب، ولا على ما يريده الشعب حقا، وإنما على الجهة التي تصدر عنها مثل هذه العبارات. فبينما تقوم الأحزاب أو الفصائل (في الحالة الفلسطينية) بادعاء تمثيل الشعب، فإن هذه الكيانات السياسية تقوم من ناحية فعلية بمصادرة رأي شعبها، أو حجبه، والوصاية عليه، لاسيما أن أغلب هذه الكيانات لا تمثل حيّزا مجتمعيا معينا، أو لا تمثل كتلا اجتماعية وازنة في أحسن الأحوال.
 
ثمة مشكلة أخرى هنا وهي أن هذه الكيانات، باستخدامها مثل هذه العبارات، إنما تحوّل الشعب إلى كتلة صماء، لا حياة لها خارج مايريده هذا الحزب أو ذاك الفصيل، الذي يدّعي احتكار الحقيقة، مثلما يدعي أنه هو الذي يمثل الشعب حقا، كأن ليس ثمة أصوات أخرى، مغايرة أو مختلفة، في الشعب!
 
وإذا أخذنا الوضعية الفلسطينية كحالة نموذجية عن ذلك فإننا سنلحظ أن أصغر فصيل بإمكانه الادّعاء بسهولة بأنه الأكثر تعبيراً عن طموحات الشعب، وعن الموقف الذي يريده، أكثر من أي تنظيم آخر! علماً أن ثمة مشكلة كبيرة للفلسطينيين، تؤثّر سلباً على حراكاتهم السياسية وعلى أولوياتهم الوطنية، وتتمثّل في تمزّق مجتمعهم، وتوزّعهم على بلدان عديدة، ما يجعلهم يعانون من سلطات مختلفة ومتباينة، ومن غياب المجال السياسي المستقل.
 
عدا ذلك فإنه لمما يثير الدهشة أن يدّعي كل فصيل من هذه الفصائل أنه هو الممثل الحصري والوحيد للشعب الفلسطيني، لضميره، ولما يجيش به صدره، ولما يريده من أولويات وأهداف آنية ومستقبلية، مع الانقسام السياسي الحاصل، ومع تراجع فعالية الفصائل، وترهّل بناها، ومع هذا التهمّش للإطارات الشرعية الجمعية، وهذا كله ونحن نتحدث عن نظام سياسي فصائلي يتأسّس على نظام المحاصصة ("الكوتا") وليس على الانتخابات والتمثيل.
 
الأنكى من ذلك أننا لن نعدم حتى وجود أشخاص (أفراد) يعتقد كل واحد منهم أنه هو الذي يعبّر عن رأي الشعب، وأن الحقيقة إنما تنبع من بين يديه هو فقط، والأمثلة على ذلك باتت كثيرة، في هذا المدى الإعلامي المفتوح، من الفضائيات إلى صفحات "الفايسبوك"!
 
إزاء ذلك ثمة سؤال يطرح نفسه، وهو: ما الضير في اعتبار أن ثمة أراء مختلفة عند الفلسطينيين ناتجة عن هذا العامل أو ذاك؟ ثم هل يقلّل من قيمة حركة فتح أو حركة حماس، أو غيرهما من الفصائل، اعتبار أن كلا منهما يمثل قطاعا بنسبة ما من الفلسطينيين، لا سيما وأن الانتخابات التشريعية، والتي اعترف الجميع بنزاهتها، بيّنت حقيقة موازين القوى الفصائلية في المجتمع؟ ألا يمكن اعتبار هذه النتيجة أنموذجا أو بمثابة وحدة قياس لتوجهات الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، وحيث لايمكن إجراء انتخابات مماثلة؟
 
بدوري أستطيع أن اجزم بأن النسبة الأكبر من الفلسطينيين، داخل الأرض المحتلة وخارجها، هي خارج الخريطة الفصائلية السائدة، لكنني أدرك أيضا بأن ذلك لا يعني أن هؤلاء يمثّلون رأيا واحدا، أو صوتا واحدا، أو حزبا واحدا.
 
على أية حال فقد أنجبت هذه العقلية الفصائلية، التي تصادر الشعب، وتختزله، وتطمس أصواته المختلفة، نوعا من التشوّه في الثقافة السياسية، التي باتت مبنية على ثنائيات من نوع من هو ليس معي فهو ضدي، يا أبيض يا أسود، ياوطني ياخائن، وهي عقلية لاتوصل أحداً إلى مكان، كما علمتنا التجربة، لأنها مبنية على التبسيط والاستسهال، وليس على حثّ التفكير لوعي التناقضات والتعقيدات والإشكالات الكامنة في العملية الوطنية الفلسطينية.
 
وفي الاستقطابين الحاصلين في الساحة الفلسطينية في هذه المرحلة، تطرح ثنائية حركتي فتح وحماس، ولابتزاز قوامه إما أن تكون مع هذه أو تلك وبالجملة. وبالمثل، فإما أنت مع المقاومة، كما حصلت في التجربة في الخارج والداخل، أو ضدّها! إما أن تكون مع التسوية الآن أو مع تحرير كل فلسطين الآن؛ مهما كانت الظروف والإمكانيات والتداعيات، وحتى لو كان الأمر محض لفظي فقط!
 
هكذا، وفي ظل سيادة ثقافة الخنادق والمعسكرات هذه، بات كثيرون لا يستطيعون تصوّر إمكان أن يكون ثمة فلسطينيون كثر خارج أسر هذين الاستقطابين، وأن الحالة الوطنية يمكن أن تستوعب معهما اتجاها ثالثا ورابعا وخامسا وسادسا.
 
ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الوضع يفرض نبذ التعصّب الأعمى لفصيل، وتجنّب ادعاء احتكار الحقيقة، ورفض العقلية المرضية والمضرّة، عقلية الثنائيات والتنميطات الجاهزة والمسبقة والنهائية، وتعلم قبول المختلف، وتفهّم أن تعقيدات القضية الفلسطينية يمكن أن توجد أصواتا وألوانا أخرى، مغايرة.
 
وهذا يعني، في ما يعنيه، أنه عندما يكون ثمة موقف أو سلوك إيجابي من حركة ما (بغض النظر عن الموقف منها) ينبغي تشجيعه مع الدعوة للبناء عليه وتطويره، وبالمقابل فعندما تتّخذ حركة ما موقفا سياسيا سلبيا، أو مضرا، ينبغي نقده والوقوف ضده ومواجهته. ففي كل الأحوال ينبغي اعتماد معيار واحد، وأداة قياس واحدة، وهي مصلحة الشعب والقضية الوطنية.
 
أيضا، هذا يعني أنه يمكن للفلسطيني من داخل هذا الفصيل أو ذاك، أو من خارج أي فصيل، أن يرى إيجابية في هذا الفصيل أو ذاك، تماما مثلما يرى السلبيات والثغرات، ويبقى في ذات الوقت خارج الحسابات الفصائلية، هكذا يمكن للفلسطيني أن ينحاز لقضيته الوطنية ولمصالح شعبه، وهكذا يمكن خلق كتلة ضاغطة تسهم في إخراج الفصائل من عصبويتها، وانغلاقها على ذاتها.
 
القصد من ذلك لفت الانتباه إلى ضرورة إدراك حقيقة أن الاختلاف والتباين والتعددية والتنوع إنما هو انعكاس لتباين أوضاع الفلسطينيين، واختلاف همومهم، وتعدد خلفياتهم السياسية ـ الفكرية. وأيضا إدراك أن هذا الوضع هو شيء عادي وطبيعي ينبغي تفهّمه واحترامه وإيجاد الصيغ التي تكفل استثماره بما يخدم العملية الوطنية.
 
هكذا فقط يمكن اعتبار واقع الاختلاف والتعددية والتنوع بمثابة دليل عافية وحيوية لأي شعب، وعامل إغناء له، شرط معرفة إدارة هذه الخلافات والتباينات، وحلّها بالطرق الديمقراطية والقانونية وبالانتخابات والاستفتاءات والتمثيل.
 
هذا لا يضير البتّة مفهومنا عن وحدة الشعب، فما يضير فعلا هو ضعف الارتكاز على تمثيلات سياسية حقيقية منبثقة من صناديق الاقتراع، وغياب المشاركة السياسية وتهمّش الإطارات الشرعية، وعدم وجود مراكز لصنع القرار، واحتكار الرأي، وعدم تقبّل المختلف.

التعليقات