26/10/2011 - 09:30

آن لهذا أن ينتهي!../ بسام الهلسه

قصة مشابهة سمعتها منذ سنين طويلة من "مظفر النواب"، الشاعر العراقي المعروف، رواها عن والدته، التي قال إنها بكت على الملك "فيصل الثاني"، ثم بكت على الزعيم "عبدالكريم قاسم" من بعد

آن لهذا أن ينتهي!../ بسام الهلسه

نفرت أمي، ذات الخمسة والسبعين عاماً من العمر، من الطريقة الهمجية في التعامل مع العقيد القذافي وتصفيته، رغم أنها كانت تنتقد إهماله لشعبه واستئثاره وعائلته بالحكم. وتذكرت بتأثر ما جرى لآخر ملوك العراق "فيصل الثاني بن الملك غازي" في العام 1958، وكيف بكته آنذاك نساء قرية "صويلح" الواقعة شمالي عمّان، حيث كنا نقيم. قصة مشابهة سمعتها منذ سنين طويلة من "مظفر النواب"، الشاعر العراقي المعروف، رواها عن والدته، التي قال إنها بكت على الملك "فيصل الثاني"، ثم بكت على الزعيم "عبدالكريم قاسم" من بعد.

 

"العرب ما بيتعلموا" قالت أمي وهي تشيح بوجهها عن رؤية المناظر المؤلمة. و"خطيَّة" قالت أم مظفر، بلهجتها البغدادية، حسبما روى لي.

 

                              *     *     *

 

ربما نحتاج لمشاعر الاُمهات وحساسيتهن، لندرك أنه لا بد لهذه الدورة المتوالية من التصفيات أن تتوقف، وتنتهي من حياة العرب وفي بلادهم. نحن أمام ذهنية قبلية تتناسل وتتغذى بالثأر والانتقام، حيث الدم يستسقي الدم ويستدعيه. وهذا لا يعني أننا ندعو إلى التساهل، بل إلى أن تأخذ العدالة مجراها، بالاحتكام إلى القضاء وتطبيق القانون واعتماد المحاسبة المؤسسية لا الكيفية المزاجية.

 

وللأسف، يبدو أننا لم نتجاوز التقاليد الثأرية لحرب "البسوس" التي امتدت لأجيال بين فرعي وائل: تغلب وبكر، إثر مقتل "الملك كليب" الذي طغى.

 

لكن الاحتكام إلى العدالة، يتطلب في الأصل قيامها على أسس راسخة، لا تستقيم بدون وجود أنظمة حكم سياسية عادلة تنبع من الشعوب، وتعبر عن إرادتها الحرة التي تتجسد في قيم وتشريعات ومؤسسات عامة، تعيِّن الحقوق والواجبات، وتنظم العلاقات بين الجميع: السلطات، والشعب، والافراد. فلم يعد مقبولا التستر وراء حداثة شكلية ماكرة تخفي أنظمة متخلفة تنتمي إلى عالم القرون الوسطى الزائل الذي شرعت الأمم بكنسه والإطاحة به منذ زمن بعيد، لتقيم على أنقاضه اجتماعا سياسياً جديداً ينطلق من حقيقة أن الأمة هي مصدر السلطات، وهي صاحبة الولاية العامة على نفسها في مختلف شؤونها. وهو ما يعني أن لا وصاية لأحد مهما علت منزلته على الاُمة، سواء كان فرداً أو حزباً أو عائلة أو طائفة أو قبيلة. وبالطبع، لا حصانة له خارج القانون الذي ينبغي أن يطبق على الجميع دون تمييز أو استثناء.

 

                             *     *     *

 

لنبدأ من هنا إذا كنا نريد حقاً للصراع الدموي على السلطة أن ينتهي. فإزالة حاكم مستبد لا تعني بالضرورة أن الذين سيأتون من بعده سيكونون ديمقراطيين بشكل تلقائي. فلطالما شهد التاريخ مستبدين حلوا محل من أطاحوا بهم باسم الحرية. فالسلطة- والحكم- كما الثروة والمعرفة، لا يجب السماح باحتكارها أو أن تترك من غير رقابة الشعب الدائمة وسيطرته. وإلا، فإن الاستئثار بها سينشأ كلما واتت الظروف. وفي سياق الكلام على حرية الشعوب، لا يكفي أن يكون النظام ديمقراطياً منتخباً حتى تتحقق الحرية. فلا بد أن تكون الدولة التي ينتمي إليها الشعب المعني، مستقلة غير تابعة أو خاضعة لهيمنة دول أو مؤسسات أو شركات دولية، تسلبها سيادتها وتملي عليها سياساتها وتوجهاتها. وبالقدر نفسه من الأهمية، يجب أن تتوفر للشعب مساواة حقيقية- لا قانونية شكلية فقط- حيث تتحكم قلة من أصحاب الثروة والنفوذ، ممن يملكون المال والإعلام والعلاقات، في مسارات الانتخابات ونتائجها، وتفرض على أغلبية الأمة الخيارات التي تراها مناسبة لمصالحها. والحديث، فقط، عن "المواطنة"- بوصفها تعبيراً عن المساواة- هو تلاعب مخادع لإخفاء التمييز والتفاوت القائم في الواقع  بين طبقات الشعب وفئاته وأفراده.

 

إن هذا هو ما يحدث في البلدان الرأسمالية، حيث تتلخص مهمة عامة الشعب في انتخاب من ترشحهم الشركات الكبرى، وجماعات الضغط المتنفذة، وتمول تكاليف حملاتهم الانتخابية.

 

لا حرية بدون مساواة، ولا مساواة بدون عدالة. ولا حرية ولا عدالة، بدون سيادة واستقلال حقيقيين. إن هذه المبادىء مطلوبة لكل الأمم، لكنها مطلوبة بشكل مضاعف للأمم المستضعفة فيما يعرف بالعالم الثالث: أي البلدان المتخلفة، التي تواجه استبدادا مركباً محلياً واجنبياً،  وبعضها يعاني احتلالاً مباشراً يغدو معه الحديث عن الحرية والديمقراطية، ضرباً من المساخر المأساوية الجديرة بالمهرِّجين.

 

فإذا كنا نريد لشعوب أمتنا أن تنتهي من حالة البؤس التي تعيشها، وأن لا تعود لإنتاجها من جديد، فلا بد لنا من تجاوز "ما لا نريد"، إلى وعي وتعيين "ما نريد"، والمثابرة على بلوغه.

                              *    *     *

من هنا نبدأ...

التعليقات