12/01/2012 - 11:59

فصل المقال فيما بين الحقيقة والخيال من قطيعة واتصال../ د. عمر سعيد

جملة من الثوابت يجب أن تظل محل إجماعنا سواء معارضة كنا أم موالاة، تتمثل برفضنا القاطع للقمع الدموي وسياسة القبضة الأمنية وإزهاق أرواح المحتجين، وضرورة التنفيذ الفوري والملموس للإصلاحات الموعودة وتحقيق المصالحة الجذرية ومعاقبة المجرمين والفاسدين مهما كانت صفاتهم ورتبهم، ورفض التدخل الأجنبي بكل أشكاله ومبرراته..

فصل المقال فيما بين الحقيقة والخيال من قطيعة واتصال../ د. عمر سعيد
لست أدري لماذا كلما أطلت التأمل بخصائص ومضامين حراك ساحتنا السياسية، فان أول ما يرتسم أمام ناظري هي قولة معمر القذافي الشهيرة: "الأحزاب هي قبائل العصر الحديث". فالقبيلة، وعدا عن كونها تؤمن الحماية لابنها ظالما أو مظلوما، وحيث ثقافتها العصبية والغزو والفخر والانصياع، فإنها ترى الآخر فقط بعين النقيض، وتتعامل مع فضائنا الاجتماعي الفسيح والمتنوع بمنطق القطيعة والتشرذم. أقول هذا الكلام الذي قد يبدو للبعض ينضح تشاؤما عامدا متعمدا، لأن تتالي الأحداث يؤكد يوميا أن المتغير الوحيد في سلوكها السياسي لا يتعدى نبرة صوتها ودقة سهامها، فيما تبقى البنية العقلية للخطاب السياسي الحزبي شديدة الثبات وغير قابلة للتجاوب الفعلي حتى مع أهم الأحداث التاريخية التي تجتاح منطقتنا، وحالها بهذا كحال الثقب الأسود الذي يبتلع ولا يشبع، أو كقول شاعرنا "كما الإسفنجة، تمتص الحانات ولا تسكر".
 
 مع تسجيلها لانتصارها الأول في تونس، وتماما كما كان متوقعا، فقد تعطلت لغة الكلام وخاطبت نسائم الثورات شوقنا العروبي الدفين، وغمزت بأناملها الدافئة أجساد مشاريع لفها الهزال والاعتلال لعقود طوال، حتى بدت وكأنها مجرد أحلام وردية داعبت مرة مخيال عشاق الحرية والتغيير. ولأن هذا هو التوقع المنطقي بل القانون الطبيعي لكيفية تفاعل قطاع أصيل تحول إلى أقلية في وطنه المغتصب، فإن رياح الثورات من المفترض أن تجد لها عندنا حقولا واسعة قد اعترى بعضها القحط والاصفرار وأنهكها كثر الاجترار، وتنتظر ملاقاتها بأذرع مفتوحة وممارسة واعية بدءا من التضامن الأخوي وإعادة الحياة إلى النقاش الفكري الرصين.. وصولا إلى النقد الحازم والمسؤول لتجربتنا النضالية الخاصة.
 
وفعلا تعايشت وقتها قبائلنا بسلام ووئام وتظاهرت وتصاهرت وخلفت البنات والصبيان...لحين زوال لذة الصدمة وعودة الفطنة، وبعد أن بدأت توابل الثورة الليبية تفسد نكهة الطعام وأخبار سوريا تنغص الحال...فانفض الجمع من حول المائدة الاحتفالية.. ثم عادت حليمة لعادتها القديمة، فجاءت الغزوة الأولى شديدة البأس، حيث دارت رحاها في ساحات المدن اليهودية الكبرى، وعلى تخوم المعازل العربية، بما عرف بالحراك الاجتماعي الإسرائيلي أو "المعركة الاجتماعية المتدحرجة" كما سماها البعض، وقد استخدمت الأطراف المعنية كافة صنوف الأسلحة الاعتراضية والقنابل الايديولوجية... والمقالات المسيلة للدموع على اختلافها، في مواجهة عبثية محزنة تذكرنا بالمثل الشعبي البليغ: "الجنازة حامية والميت كلب"، ولم تهدأ ثورة المشاعر تلك إلا بعد إتمام مراسم الدفن التي جرت فصولها بهدوء وتحت جنح الظلام على مدار أسابيع معدودة كانت، وعلى قصرها، كافية لإثبات عقم الرهان وتعاسة الارتهان.
 
 لن تجدي الأفكار الساذجة والمضللة بتغييب حقيقة أنه بحكم النشأة الاقتلاعية العنصرية للدولة العبرية وبحضور الفعل الوطني التحرري لأصحاب الأرض الشرعيين، سيظل المجتمع اليهودي في هذه الديار فعلا خارج السياق التقليدي لقوانين النضال الطبقي المشترك، وإن لاحت فرصة للتعاون فهي لحظية وطارئة ولا تحتمل التعميم، بينما سيستمر قانون خلق المصداقية لمجتمع الاحتلال وجرائمه متسارعا ومغرقا في عدائه لداخله ومحيطه العربي.
 
ليست المشكلة بالاختلاف، فذلك أمر طبيعي بل ومطلوب، ولكن الطامة تكمن في أمرين، أولهما انعدام ثقافة الاختلاف، وثانيهما التعمية والتبرير التلفيقي الذي يرافق أحيانا كثيرة حملات المناقشة السياسية والفكرية، والتي لا تحظى عادة بفرصة النقد الذاتي وإعادة التقييم بعد انهيارها وإنما تبقى تتوارث وتضاف إلى السجل الحزبي الكفاحي على مبدأ "عنزة ولو طارت".
 
إن تضخيم الآمال المعقودة وتحميل معان متخيلة على ذلك الحراك الاجتماعي الإسرائيلي بلهجة الوصاية الأبوية العارفة، والتقهقر عن مكتسبات الوعي الجمعي في مواجهة النفس والخطاب المتأسرل، ودفعنا مجددا إلى حصون صراعات الماضي، قد أعاد النقاش المبدئي بين تيارات الحركة الوطنية إلى مربعه الأول، وهو أمر يحتاج بذاته إلى معالجة مسؤولة ومعمقة في سياق منفصل أخر قريبا. ذات القيادات التي حملت لواء نصب خيام الاحتجاج في بلداتنا العربية تواصلا مع "الاختراق العظيم" وغير المسبوق للوعي الطبقي في الشارع اليهودي، وأصمت آذاننا بتنظيراتها المستهلكة بنفس العبارات (مع بعض التحليلات الاقتصادية في ظل العولمة) التي بررت بها تحالفها وقتها مع "حركة الفهود السود" أيام "الثوري الكبير" شارلي بيطون، قد انبح صوتها خلال إضراب الأمعاء الخاوية الذي نفذه أسرانا البواسل في السجون، واختفت تماما بعد تحرر أسرى الداخل، لولا وطنية بعض العناصر الجبهوية الشابة التي حفظت لها ماء الوجه.
 
 الأنكى من ذلك أن بعض تلك القيادات حسمت موقفها إزاء الأحداث في سوريا انطلاقا من اعتبارات تنافسية مع التجمع بغرض الإحراج والمزاودة نظرا للعلاقة التاريخية التي ميزتهما، وأحدهم لا يكاد يضيع فرصة إلا وأشار إلى "مبدئيته" بهذا الصدد مقارنة مع التجمع. وما دمنا في الشأن السوري فيمكن القول: إذا جاز لنا اختصار أسباب الانتفاضة الشعبية السورية بكلمات قليلة، فهي ومن دون مواربة: الاستبداد والفساد والعناد. وتحت هذه العناوين العامة ألف سبب وقصة تذكي نارها، غير أنه يستحيل اختزال طابع الصدام هناك على أنه " صراع بين الأسلمة والقومية العربية" كما صرح بذلك الرئيس السوري بشار الأسد.
 
لا شك أن توصيف الحالة السورية على هذا النحو ينطلق من دواع معروفة وفي مقدمتها مخاطبة الرأي العام الغربي من جهة، وتحقيق فرز جماهيري مساند داخل وخارج سوريا، من ناحية أخرى. بيد أن فرزا كهذا ليس بوارد أحد، ولو تحقق على أساس هذه القاعدة فسينطوي على نتائج مأساوية لسوريا ولمجتمعاتنا عامة، ومن شأنه أيضا أن يحدث خللا خطيرا في التعاطي مع الملف السوري، إذ من المعروف أن معسكر المؤيدين للنظام داخل وخارج سوريا ليسوا على نسق واحد، حيث تتشابك هوياتهم الايديولوجية ومرجعياتهم الفكرية ومن ضمنها الإسلامية، والعكس أيضا صحيح، لا بل إن أبرز رموز المعارضة الخارجية هم من المحسوبين على النخب العلمانية.
 
في ذات الوقت لا ينكر احد أن التيار الإسلامي الرئيسي عندنا، وبالحكم على سلوكه السياسي، يتبنى ضمنا هذه المقولة دون أن يفصح عنها كلاما وإنما يمارسها واقعا على الأرض. فبينما تشهد الأحزاب والحركات العلمانية "التجمع، أبناء البلد، الجبهة.." نقاشا عاصفا داخل صفوفها حول الموقف من الأحداث السورية دون أن يغفل كلا الطرفين الأيدي الخارجية العابثة والدور القومي البارز لهذا البلد حكومة وشعبا، وعلى رأسه حماية ودعم حركات المقاومة ونهج الممانعة، نرى أن الإسلامية تُجمع بكل أجنحتها على المعاداة المطلقة للنظام السوري، وتجرمه وتبدي رفضا قاطعا حتى لمجرد الإصغاء للتحذيرات حول الأخطار المترتبة عن سقوطه بمساعدة أجنبية كما حصل في العراق.
 
لا تخلو مواقف الإسلامية تلك من نزعة ثأرية واضحة ترتبط بالقمع الدموي الذي تعرض له الإخوان المسلمون... بما يعيد إلى الأذهان عداءهم المزمن لنظام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
 
إن غياب الصوت والرأي الآخر في صفوف الإسلامية حول المسألة السورية، يشي بأمر أكيد أن البنية التنظيمية لهذه الحركة تحول دون المقدرة على تنمية كوادر مستقلة ونقدية كما هو حاصل في الأحزاب الأخرى، والتي تجيز وتثقف على ممارسة النقد في مؤتمراتها وأدبياتها بشكل لا يقارن، وعليه لا تكون المواقف من نصيب القيادة فقط، وإنما انعكاسا للجدل القائم داخل الحزب والذي يحسم بشكل ديمقراطي. هذه ظاهرة معروفة ولا أسوقها هنا بهدف المس بإنجازات القيادات الإسلامية ودورها، بل اعتراضا على الاستنتاجات والتصريحات المستهترة التي أطلقت في أعقاب الفوز اللافت للحركات الإسلامية في تونس ومصر. فمن المعروف أن النخب العلمانية الثورية تمتاز بوعي وجهوزية عالية في مقاومة الاستبداد واستعدادها الدائم للانخراط الفوري في مواجهة القمع السلطوي الغاشم، وهو أمر كنا جميعا شهداء عليه في الثورات العربية دون أن يعني ذلك امتلاكها عمقا جماهيريا مطابقا. بكلمات أخرى، فإن المفارقة البائسة تتمثل في أن الفعالية الاحتجاجية والفكرية لهذا القطاع تلعب دورا طليعيا في الفتوحات السياسية، غير أنه لا يضمن لها ذلك بالضرورة قطف ثمار تضحياتها كونها تعاني، وفقا لرأيي الخاص، من الاغتراب شبه الكامل عن البنى الاجتماعية التقليدية والثقافة الشعبية والدينية السائدة.
 
إن النزعة الثأرية تلك التي تستحوذ على عقول قادة الإسلامية تحجب عنها أيضا إمكانية رؤية وتقدير الدور الذي لعبته سوريا في حماية الحركات الإسلامية المقاومة وعلى رأسها حركة حماس، والتي تتبنى موقفا عقلانيا مغايرا تماما في هذه المسألة، لهذا وإذا أردنا أن نتعمق أكثر في تفسير موقف الإسلامية الحازم ضد النظام السوري، فيمكن أن نجد لنا عونا إضافيا من خلال تتبع النقد المبطن والصريح الذي تبديه قياداتها تجاه حزب الله، حيث تعيب عليه في أكثر من مناسبة وواقعة التزامه موقفا مساندا للنظام السوري، ولا يخطئ الأنف غير المزكوم اشتمام بعض رائحة للتنافس المذهبي السني الشيعي، وقد يكون هذا مربط الفرس خاصة وأن تصريحات أكثر وضوحا صدرت عن الشيخ القرضاوي بكل ما يعنيه من ثقل ديني وجماهيري في العالم السني، حيث كال اتهاماته بضلوع عناصر من حزب الله في قمع الاحتجاجات الشعبية في سوريا، وهو أمر لا يحتاج منا إلى تعليق.
 
وبالمناسبة، فإن كثيرا من الأوساط في ساحاتنا المحلية والعربية المساندة للنظام السوري تنطلق بموالاتها بوحي من هوياتها الطائفية والمذهبية (وأحيانا لأهداف تخريبية مقصودة) ولا تفعل ذلك انعكاسا لوعي قومي أو قلقا على مصير سوريا، وإنما تحسبا من وصول الإسلاميين للحكم أو حفاظا على امتيازات مختلفة أغدقها النظام. اللافت للنظر أننا بتنا مؤخرا نسمع نغمة مشابهة في مقارعة المقاومة اللبنابية أيضا على لسان بعض نشطاء أحزابنا الوطنية تحت دعاوى تارة فكرية وتارة إجرائية.. وغيرها من التعليلات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
 
لا يحتاج حزب الله لمن يدافع عنه، فسجله الوطني الناجز لم ترق إليه أي حركة إسلامية كانت أم علمانية، وبالذات لأن انجازاته جاءت في حقبة الهزائم العربية الشاملة، وقد يعود لها فضل أكيد في تنمية الكرامة الجمعية للأمة والتمهيد لانطلاق الثورات العربية نفسها.
 
ومن يعيب على هذا الحزب تأييده الواضح والمتوازن للنظام السوري، الذي شكل ظهيره الصادق ورئته الوسيعة، فعليه أن يرينا موقفا معلنا حازما، ولو لمرة واحدة، في نقد النظام السعودي أو الأردني (اللذين يتحكمان بطرق وبوابة الحجيج لبيت الله الحرام) وهما في وضع يربأ أي شريف أن يوازي بينهما وبين النظام السوري في كافة المستويات.
 
ولكي أوضح مقصدي من وراء هذا الكلام أقول: من حق أي طرف وطني وإسلامي صادق أن يختار موقفه الخاص حول الصراع في سوريا، ذلك لأن الحالة السورية فعلا شديدة التعقيد وتعوم على بحر من التناقضات والاحتمالات، وتنطوي على تشابك استثنائي لتجاور الشيء وضده في ذات اللحظة على أقل تقدير. لكن علينا جميعا أن نتذكر أن تأييد النظام السوري لا يجعل من ذاك الطرف أكثر وطنية وعروبة من المؤيدين للثورة، مثلما لا يجوز للطرف الثاني أن يعتبر نفسه أكثر إنسانية وإحساسا ووعيا.
 
فضلا عن ذلك، بل وقبل كل هذا يتعين الإقرار أن أي تحليل موضوعي لصياغة موقف فردي تجاه هذه المسألة، فهو بلا شك يعكس طبيعة الأولويات والقناعات المستقرة في وعي صاحبه ويخضع لآلية مزاجه المنطقي بحيث يرى المهم والأهم وفقا لطرائق تفكيره، لهذا فلا مكان للمزايدات النزقة والمفاضلات البائسة. بعد هذا، وحتى وإن كنا نبلور مواقفنا من ساحة الداخل ولسنا هناك، وما نشاهده من هنا ليس دائما هو نفس ما يشاهده المواطن السوري، إلا أن جملة من الثوابت يجب أن تظل محل إجماعنا سواء معارضة كنا أم موالاة، تتمثل برفضنا القاطع للقمع الدموي وسياسة القبضة الأمنية وإزهاق أرواح المحتجين، وضرورة التنفيذ الفوري والملموس للإصلاحات الموعودة وتحقيق المصالحة الجذرية ومعاقبة المجرمين والفاسدين مهما كانت صفاتهم ورتبهم، ورفض التدخل الأجنبي بكل أشكاله ومبرراته..

التعليقات