20/01/2012 - 09:09

هكذا أضاعت "فتح" ذاتها وضيّعت مشروعيتها الوطنية../ ماجد كيالي

تمكّنت حركة "فتح"، طوال العقود الماضية، من فرض هيمنتها وقيادتها على المجال الوطني الفلسطيني بحكم تمتّعها بعدد من الميّزات. فهي التي صنعت الوطنية المعاصرة للفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، وهي التي أعادت الاعتبار للبعد الفلسطيني في الصراع ضد إسرائيل، وكرّست استقلالية قراره عن تجاذبات النظام الرسمي العربي وتوظيفاته. وهذه الحركة هي التي بادرت إلى إطلاق المقاومة المسلحة التي ألهبت مشاعر الفلسطينيين، وغذّت مخيّلتهم في شأن مستقبلهم المشترك وفي شأن إمكانية استعادة وطنهم المسلوب

هكذا أضاعت
تمكّنت حركة "فتح"، طوال العقود الماضية، من فرض هيمنتها وقيادتها على المجال الوطني الفلسطيني بحكم تمتّعها بعدد من الميّزات. فهي التي صنعت الوطنية المعاصرة للفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، وهي التي أعادت الاعتبار للبعد الفلسطيني في الصراع ضد إسرائيل، وكرّست استقلالية قراره عن تجاذبات النظام الرسمي العربي وتوظيفاته. وهذه الحركة هي التي بادرت إلى إطلاق المقاومة المسلحة التي ألهبت مشاعر الفلسطينيين، وغذّت مخيّلتهم في شأن مستقبلهم المشترك وفي شأن إمكانية استعادة وطنهم المسلوب.
 
فوق ذلك تميّزت "فتح" بصوغها على شكل حركة تحرّر وطني، أيّ على شكل حركة سياسية/ جبهة، تعدّدية تكفل التنوّع السياسي والفكري في داخلها، ما جعلها أكثر حركة تشبه شعبها.
 
لكن مشكلة "فتح"، وهي مشكلة كل الحركات السياسية، في اختبارها لمجمل الميّزات التأسيسيّة التي قامت عليها، في معمعان التجربة والممارسة والزمن، إنها لم تستطع أن تبقى هي ذاتها، أي أن الزمن والتحدّيات والتجاذبات ومسارات الواقع، فعل كل منها فعله في هذه الحركة، وأثّر فيها كثيراً، وربّما يكون غيّرها تماماً، ومن نواحٍٍ عدّة.
 
طبعاً لا يمكن توقّع أن تبقى حركة سياسية هي ذاتها، لا سيّما كحركة "فتح"، لها كل هذا المقدار من العمر، وعانت من كثير من المصاعب والتعقيدات والتحدّيات، أي على طبيعتها، أو أن تنأى بنفسها عن التأثر بالتحولات الجارية في محيطها. ذلك أن الحركات والظواهر السياسية والمجتمعية تتغير وتتأثّر بالزمن، وبدخول عوامل جديدة مغايرة عن التي شهدت تأسيسها، لكن الأمر بالنسبة إلى "فتح" لم يكن يقتصر على ذلك.
 
في الواقع، التغيّرات التي حصلت في "فتح" لم تكن كلها استجابة لسياقات التطوّر الطبيعي ولا في إطار التكيّف الاضطراري مع التحوّلات الحاصلة فيها أو المحيطة بها، وإنما هي تغيّرات من طبيعة نكوصيّة، أو تراجعيّة، وهي تطوّرات لم تحصل بضغط العوامل الخارجية/ الموضوعية فقط، وإنما حصلت أيضاً بفعل قوّة دفع ذاتية، ناجمة عن ثقافة معينة وبنى وعلاقات قامت عليها هذه الحركة.
 
لذلك، وللإنصاف، ربما ينبغي لنا تمييز التحوّلات التي طرأت على "فتح" نتيجة تعبها أو ضعفها إزاء موازين القوى المستديمة لمصلحة إسرائيل وإزاء المعطيات الدولية المواتية لها، وإلى جانبها التعقيدات والضغوط الناجمة عن الوضع العربي؛ وضمن ذلك استحقاقات نشوء هذه الحركة خارج أرضها، وتمزّق البنية المجتمعية لشعبها الذي يفتقد لإقليم خاص ومستقلّ وللوحدة المجتمعية.
 
في المقابل، ينبغي أن نلاحظ أنه إضافة إلى العوامل الخارجية/ الموضوعية، ثمة عوامل دفع ذاتية ساهمت في إضعاف هذه الحركة وفي تغيير طبيعتها، تتمثّل في ضعف المبنى المؤسّسي لهذه الحركة، وتكلّس حياتها الداخلية، وغياب المبنى الديموقراطي في العلاقة بين مكوّناتها.
 
مثلاً، إذا كـان بـــناء هــــذه الحركة على شكل جبهة وعلى شكل حركة جماهــيرية عامل قوّة واستقطاب لها، في بدايتها، فإنه لم يبق كذلك، إذ تحوّل إلى نقطة ضعف لها كونها لم تشتغل على تقنين وضعها الجبهوي، ولا على صوغ القواعد التي تمكّنها من تنظيم التفاعــــل بين تياراتها، حتى إنها لم تستطع تحويل نفسها إلى حركة منظّمة، بهيكلية واضحة، من حيث العضوية والعلاقات الداخلية.
 
في المحصلة، هذه الحركة التي لم تحافظ على كونها حركة جبهوية متنوّعة وتعدّدية، ولم تتحوّل حزباً، باتت بمثابة حركة من دون ملامح تنظيمية ومن دون هوية سياسية محدّدة ومن دون مرجعية قيادية. وهذه الحركة التي انبنت أيضاً بطريقة "أبوية" (بطركية)، وطغت فيها ظاهرة الزعيم الذي يحتكر القرارات والقيادة، لم تستطع أن تجدّد شبابها، من ناحية تنظيمية ولا من ناحية الأفكار السياسية، فباتت حركة تدبّ فيها الشيخوخة في مبناها ومعناها. واللافت أن هذه الحركة التي لم تتحوّل إلى حركة مؤسّسية، أضعفت نفسها، وأضعفت المؤسسات التي كانت قائمة قبلها، وهو ما حصل في منظمة التحرير وهيئاتها ومؤسساتها وما حصل مع الاتحادات والمنظمات الشعبية، التي تكاد أن تدخل النسيان.
 
باختصار، مشكلة "فتح"، أو أزمة "فتح"، إنها فقدت روحها كحركة وطنية تعدّدية متنوّعة تشبه شعبها، وإنها أضاعت هويّتها كحركة تحرّر وطني، بعدما تحوّلت إلى حزب للسلطة، في ظل علاقات الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية، مع كل ما في هذه الكلمة من معنى واستحقاقات، ضمنها تسيّد علاقات الفساد والمحسوبية، وضعف الروح الوطنية وغياب العقلية النقدية.
 
طبعاً ثمة جذر سياسي لمشكلات "فتح" وتحوّلاتها فهي لم تعد حاملة للمشروع الوطني وللهوية الوطنية الجامعة للفلسطينيين، مثلما كانت في مراحل صعودها، بسبب اختزالها هذا المشروع في مجرد إقامة دولة لجزء من الشعب على جزء من الأرض، وفي قبولها تحويل الصراع ضد إسرائيل الاستعمارية والعنصرية، والمتأسّسة على أسطورة دينية، إلى مجرد صراع على جزء من الأرض فقط.
 
هكذا، ففي كل ذلك أضاعت "فتح" ذاتها وروحها وهويتها ومشروعها، هذا ما يفسّر انحسار مكانتها في الانتخابات التشريعية وخسارتها مكانتها التمثيلية في المجتمع وتضعضع مركزها القيادي، وتراجع دورها في مواجهة عدوّها، وهـذا ما يفسّر صعود "حماس" (بين عوامل أخرى)، في الحقل السياسي الفلسطيني.
 
لكن كل ذلك لا يعني أنه لم تعد ثمة مشروعية فلسطينية لحركة سياسية كالتي مثلتها "فتح" في بداياتها، بعد الاستفادة من عِبر ودروس التجربة الماضية، بل يعني أن الفلسطينيين هم أحوج ما يكونون إلى حركة وطنية كهذه، حركة تحمل وتتمثّل حقاً مشروعهم التحرّري الديموقراطي الذي يتأسّس على الحقيقة والعدالة والكرامة والمساواة للجميع؛ باعتباره المشروع النقيض لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية. الفلسطينيون بحاجة إلى تجديد حركتهم الوطنية.

التعليقات