28/01/2012 - 11:45

رفضت أن تسامح../ نواف الزرو

فهذه الصورة التلقائية في توريث ذاكرة النكبة استطاعت غرس إيمان جيلين وأكثر عاشوا وتربوا في المخيمات الفلسطينية بعد النكبة، إيمان بحق العودة إلى ديارهم الأم في فلسطين المحتلة عام 48

رفضت أن تسامح../ نواف الزرو
تعرض منزل عائلتها لقصف شديد من قبل 3 طائرات إسرائيلية، أسفر عن استشهاد زوجة شقيقها وابنها وزوجة عمها، وجدتها، وأولاد عمها الأربعة، وزوجة خالها وابنتها...
 
أما هي فتم إنقاذها من تحت الردم، ونقلت إلى لبنان حيث عولجت هناك وعادت واستردت عافيتها لكنها بقيت مشلولة...
انتقلت الى رحمته تعالى وشيعها أهالي قريتها الثلاثاء الماضي عن عمر يناهز 83 عاما..
 
أربعة وستون عاما أمضتها من عمرها مقعدة نتيجة إصابتها خلال قصف جوي لمنزلها في 28 تشرين أول من عام النكبة 1948!
لقبها أهل القرية برمز النكبة والتهجير...
حفرت معنى النكبة والعودة والتسامح معا...
 
زارها أحد الطيارين الذين شاركوا بقصف ترشيحا، كان من يسمى بـ"داعية السلام ايبي ناتان" قبل وفاته بعدة سنوات طالبا أن تسامحه، فقالت له "لو سامحتك أنا، فماذا أقول للموتى والمطرودين من ترشيحا، أسامحك عندما يعودوا"...
وردا على قوله إنه لا يعرف ماذا يقول، قالت "أنا اعرف، لن أسامحك قبل أن يعود الحق لأصحابه"..
إنها المرحومة فاطمة هواري...
 
تلخص لنا المرحومة سيرة ومسيرة الصراع والنكبة والصمود والتماسك والإصرار على العودة إلى الأرض الطيبة والحقوق المغتصبة..
 
أربعة وستون عاما مقعدة كان هاجسها الصمود حتى ترى العودة...كانت طوال عمرها رمزا للنكبة والتهجير ونموذجا حيا لما جرى آنذاك..
أربعة وستون عاما ترفض النسيان أو التسامح..
وكأنها كانت ترد على على قادة الصهاينة الذين زعموا "أن الكبار يموتون والصغار ينسون"...
 
وفي هذا الصميم، كان موشيه ديان قال في مقابلة أجرتها معه مجلة "دير شبيغل" الألمانية في تشرين الأول 1971: "في تشرين الثاني عام 1947 رفض العرب قرار التقسيم (الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) وفي عام 1949 (بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة) عادوا إلى المطالبة بتنفيذه"، وفي عام 1955 كانت جميع الدول العربية المعنية ترفض اتفاقيات الهدنة، وبعد حرب حزيران 1967 عادوا إلى المطالبة بانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران".
 
"ولن افاجأ - يؤكد ديان - بعد حرب أخرى تسيطر فيها إسرائيل على مناطق عربية جديدة في الأردن أو سوريا إذا ما طالبوا بالعودة إلى الحدود الحالية"..
 
في الصميم والجوهر يتحدث ديان عن ضعف الذاكرة العربية وحالة عدم الاكتراث واللامبالاة، بينما يمكننا أن نستشف من أقواله أن الصراع الحقيقي ليس فقط على الأرض المحتلة والمغتصبة وإنما أيضاً على الذاكرة والوعي الجمعي والثوابت القومية العربية.
وإن كانت المرحومة تمسكت ورفضت وأصرت.. فإنها تشكل المثل الحي الساطع على إجماع الفلسطينيين وراء العودة وإحياء الذاكرة الوطنية والوعي الجمعي...
 
يتماسك الفلسطينيون اليوم أكثر من أي وقت مضى على التمسك بالقضية والحقوق وفي مقدمتها حق العودة لملايين اللاجئين، معتبرين أن من أهم وأخطر الأسلحة في مواجهة بلدوزر التجريف والتهويد هو سلاح الذاكرة الجمعية للشعب العربي الفلسطيني وللشعوب العربية معا، لذلك يحرصون على توارث هذه الذاكرة الوطنية على مدار الاجيال على عكس مراهنات المؤسسة الصهيونية المعروفة على فعالية عامل النسيان في طي وتلاشي واضمحلال هذه الذاكرة!
 
فحسب تقرير فلسطيني فإن "كبار السن" من اللاجئين المخضرمين "يسابقون الزمن لإيصال ما تبقى لهم من ديارهم المسلوبة حروفا لأبنائهم وأحفادهم"، وذلك "رغم إيمانهم العميق بالعودة حتى لو آخر يوم في العمر"، وكما يقول أبو محمد اللفتاوي:" أمي عاشت 107 سنوات ورغم ذلك كانت قبل وفاتها تتصرف كأنها ستعود إلى لفتا يوم غد، كانت تقول لبناتي عندما نعود إلى لفتا ستخرجن إلى بيت أزواجكن من بيت جدكن في وسط البلد".
 
والجدة ماتت قبل ثلاث سنوات والحفيدات تزوجن من منزل أبيهن في مخيم قدورة إلا أنهن يحلمن الآن بتزويج بناتهن من منزل جدهن في لفتا، تطبيقا لوصية الجدة "اللاجئة"...
 
وكما والدة "أبو محمد" وبناته حكاية آلاف الأمهات والجدات اللواتي يحلمن بالعودة حتى لو كان من خلال الأحفاد: "إذا لم نعد نحن يعود غيرنا، إنا خرجت من عنابا –قضاء الرملة- وسيعود إليها أكثر من ثلاثين حفيدا وحفيدة" قالت أم راتب، الحاجة آمنة والتي استقرت بها رحلة اللجوء في مخيم الأمعري القريب من مدينة البيرة.
 
فهذه الصورة التلقائية في توريث ذاكرة النكبة استطاعت غرس إيمان جيلين وأكثر عاشوا وتربوا في المخيمات الفلسطينية بعد النكبة، إيمان بحق العودة إلى ديارهم الأم في فلسطين المحتلة عام 48.
وكأن لسان حال أهل فلسطين من البحر إلى النهر يقول:
 "سأبقى دائما أحفر
جميع فصول مأساتي
وكل مراحل النكبة ..
من الحبة ..الى القبة..
 على زيتونة في ساحة الدار"..

التعليقات