30/01/2012 - 15:00

تحولات السلفية السعودية: الديمقراطية حرام لا بد منه أو رجس فاجتنبوه../ فؤاد إبراهيم*

لم تكن السلفية جزءاً من الحراك الشعبي في أي ثورة عربية منذ بدء الربيع العربي، وفي لحظة ما سانحة قرّرت أن تقاسمه وعيه، ثم امتطاء منجزه الديمقراطي. ولكنّها في لحظة النشوة، تعيش قلقها الخاص، إذ كفّت أن تكون كائناً انتقائياً، يختار نموذجه في التغيير ويفرضه، كما تطلّعت جماعات سلفيّة متشدّدة

تحولات السلفية السعودية: الديمقراطية حرام لا بد منه أو رجس فاجتنبوه../ فؤاد إبراهيم*
لم تكن السلفية جزءاً من الحراك الشعبي في أي ثورة عربية منذ بدء الربيع العربي، وفي لحظة ما سانحة قرّرت أن تقاسمه وعيه، ثم امتطاء منجزه الديمقراطي. ولكنّها في لحظة النشوة، تعيش قلقها الخاص، إذ كفّت أن تكون كائناً انتقائياً، يختار نموذجه في التغيير ويفرضه، كما تطلّعت جماعات سلفيّة متشدّدة.
 
سؤال التموضع يشغل بال السلفي السياسي، وينجم الجواب عن شكل في البراغماتية الرثّة، بالجمع بين نقيضين: انحباس في النص القديم بكل إشاراته الإسكاتولوجية، ونفرة غرائزية نحو الغوص في الآني بكل لوثاته.
 
مكافأة مجانية حصدتها السلفية السياسية في مصر، وهنا يكمن الشعور المختلط لدى السلفية السعودية بإثنينية التقليدي والحركي، فاللانهاية في الحلم السلفي تبعث هواجس ضامرة منذ أمد، فتلك الجماعات السلفية العاملة في المجال الحيوي للربيع العربي لا تقتفي سنن السلفية التقليدية السعودية. ولا شك في أن هناك تياراً سلفياً حركياً في السعودية يتناغم مع نظرائه في الخارج، ويميل اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الى ترسيخ مفهوم (ولاية الأمر) المقتصرة على العلماء دون سواهم.
 
مثّل الربيع العربي امتحاناً عسيراً وجدّياً بالنسبة للتيار السلفي السعودي، فهو من جهة مدجج بفتاوى تملي (تحكيم الشريعة)، في مقابل كتلة فتاوى تحظر (الخروج على الحاكم/ الأمير/ الإمام) ما لم يظهر منه كفر بواح يخرج من الملّة وعليه برهان واضح للعيان، وبلغ الحال بإسهاب المدرسة السلفية في إغلاق الباب بإحكام على فكرة الخروج مطلقاً، أن أبرمت زواجاً كاثوليكياً مع الأمير المتغلّب، صاحب المنعة، وإبطال فكرة الخروج مطلقاً.
 
ولكن للربيع العربي أحكامه في الفقه الديني كما في الفعل السياسي. هكذا بدا بجلاء التناقض في فتاوى وآراء السلفيين تقليديين وحركيين. وقد يومىء ذلك، في لحظة ما، إلى عجز عن المواكبة، والقدرة على خلق مفاهيم جديدة مستمدة من النصوص الأصلية، ولذلك، كان واضحاً أن الواقع غائب في الادراك السلفي التقليدي، وحين جرى إحضاره، فقد الصلة بالنص الأصلي.
 
الصدمة الأولى في الربيع العربي، حدثت حين صدرت فتاوى من كبار علماء المملكة تحرّم التظاهر في تونس ومصر، من أبرزها ما جاء على لسان مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ في خطبة الجمعة في 4 شباط (فبراير) 2011 وقال ما نصّه إن (مخططات مثيري المظاهرات إجرامية كاذبة لا هدف لها إلا ضرب الأمة والقضاء على دينها وقيمها وأخلاقها وتفريق كلمتها وتشتيت شملها وتقسيم بلادها والسيطرة على خيراتها)، معتبراً نتائجها سيئة وعواقبها وخيمة (لما فيها من سفك الدماء وانتهاك للأعراض وسلب الأموال والعيش في رعب وخوف وضلال).
 
وكان موقف الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً، من مظاهرات تونس ومصر وليبيا بقوله في 21 شباط (فبراير) 2011 واضحاً بما نصّه أن (المظاهرات من الفتن غيرالمحمودة شرعاً). وقال في تسجيل صوتي (كرّرت التأكيد على أن المظاهرات غير شرعية لما يترتب عليها من المفاسد من إتلاف الأموال، أو سفك الدماء، أو الترويع، إلى غيره، وإذا لم يحصل من هذا شيء أبدًا، فإنه يحصل فيها تعطيل الناس عن القيام بأعمالهم، وفتح متاجرهم، وكل ذلك لا يجوز). وفي تأصيل لرأيه أوضح قائلاً (لم يعرف عن أحد من أئمة الإسلام - من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة - أن أحدًا منهم يحثّ الناس عند الإستنكار أن يقوموا بمظاهرة ومغالبة)، مذكّراً (بالسمع والطاعة حتى إذا كان الوالي غير مرضي عنه من الناس ما دام لم يكفر).
 
وعلى أية حال، فهذه الفتوى وما سبقها لا تخرج عن نسق الفتاوى الصادرة في عقود وسنوات ماضية. فقد اتفق أعضاء اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء في السعودية على تحريم (المظاهرات والاعتصاماتِ والإضرابات..) ويشمل ذلك: تحريمَ المقاصدِ وتحريمَ الوسائلِ. ولكن الجديد المربك هو ما ظهر في فتاوى بعض أعضاء هيئة كبار العلماء. فقد انتشرت فتاوى صادمة للشيخ اللحيدان حيال التظاهرات في سورية واليمن.. وفي تسجيل صوتي نشر على موقع يوتيوب في 22 نيسان (إبريل) 2011 دعا (للجهاد) لإسقاط الرئيس بشار الأسد، ودعا أيضاً إلى تنحي الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وتسليم سطاته. ودعا الشعب السوري (للجدّ والاجتهاد في مقاومة النظام السوري حتى لو ذهب ضحايا)، وأضاف: (يرى في مذهب مالك أنه يجوز قتل الثلث ليسعد الثلثان، فلن يقتل من سوريا ثلثها إن شاء الله)!. من جهة ثانية، دعا اللحيدان الرئيسَ اليمني للتنحي وتسليم سلطاته، ودعا الله (أن يرينا في المجرمين عجائب قدرته، وأن يعاجل علي عبد الله صالح عن التخلّي عن منصبه، أو أن يعاجله بالإزالة، وأن يكون ما بعده خيراً لليمن ولمن يجاوره ممن كانت الحال عليه قبله..)، محذرًا في الوقت نفسه (من سيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن)!.
 
انتقائية الشيخ اللحيدان، وعلماء السلفية عموماً، إزاء الثورات العربية تسبّبت في انقسام داخل التيار السلفي العام، سواء لجهة تحريم الخروج وانخراط التيار السلفي في أنظمة ما بعد الثورة، بعد أن أفتى العلماء في المدرسة السلفية بتجريم التظاهر على النظام مهما بلغ جوره، أو لجهة التحريض على الجهاد ضد أنظمة أخرى، يرى فيها علماء سلفيون أفضل من البديل المحتمل. فقد ردّ الشيخ السلفي اليمني يحيى بن علي الحجوري، مدير معهد (دار الحديث) في دمّاج بمحافظة صعدة، على فتوى الشيخ صالح اللحيدان بتغيير نظام علي عبد الله صالح، وقال بأنها (ليست بصواب، ففيها تهييجٌ ومعاضدةٌ لأناسٍ هو يبغضهم، فأصحاب هذه الثورة هم (الاشتراكيّون) و(البعثيّون) و(الناصريّون) و(الروافض) و(الإخوان المسلمون). وتحفّظ الحجوري على ما نقله اللحيدان عن الإمام مالك، وقال (هو نقلٌ فيه نظر).
 
عموماً، إن ثمة مانوية سلفية تسعى نحو تكييف نفسها مع تحوّل كبير يتطلب أكثر من توضيح ثقافي، فالنص السلفي يوضع أمام تحد تأويلي (هيرومنطيقي) مع صلاحية حضوره القادم. نعم، قد تقبل جماعة سلفية لعبة تدجين هابطة للخروج من مأزقها في انسداد الأفق النصي، على طريقة حزب النور السلفي الذي أظهر المتحدّث باسمه يسري حماد في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي مرونة ناكصة. فقد نشرت وكالة فرانس برس في 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي مقتطفات من المقابلة غير المسبوقة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي، منها أن حزب النور السلفي سيحترم اتفاقية السلام الموقعة مع اسرائيل عام 1979. وقال حماد (نحن لا نعارض الاتفاقية ومصر ملتزمة بالمعاهدات التي وقّعتها الحكومات السابقة)، وأضاف (نحن نحترم جميع المعاهدات)، ورحّب بالسيّاح الإسرائيليين. إشارة عابرة: وضع أحد المشاكسين على صفحته في (تويتر) سؤالاً برسم مشايخ السلفيين المهووسين بنظرية المؤامرة الوهمية بين اليهود والشيعة (تخيّلوا لو أن هذه التصريحات صدرت عن قائد في حزب الله؟!ّ).
 
على المقلب الآخر، ينزع التيار الصحوي السعودي إلى موضعة نفسه بصورة عاجلة في سياق موجة التحوّلات الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من عام. فقد أجرى الشيخ سفر الحوالي، الرمز الصحوي العائد ببطء، لأسباب صحيّة، مراجعة خاطفة لمواقف سالفة من الديمقراطية.
 
أهمية التحوّل في موقف الحوالي ينبع من الدور الذي كان يضطلع به بعد موجة العنف الدموية التي ضربت السعودية خلال عامي 2003 ـ 2004، حيث أسّس الحوالي جمعية من 70 عالماً للتوسّط بين عناصر الجماعات المسلّحة المحسوبة على (تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية) والحكومة. وقام الحوالي ورفاق دربه في تيار الصحوة بلعب دور الوسيط بين القاعديين والنظام السعودي بإشراف وزارة الداخلية.
 
عود على مراجعة الحوالي بتأثير واضح من الربيع العربي، بدا مؤتمر تونس في 17 كانون الأول (ديسمبر) الماضي الذي نظّمته (الحملة العالمية لمقاومة العدوان) برئاسة الشيخ الحوالي كما لو أنه مناسبة لرفع الستار عن خطاب سلفي ديمقراطي، وبدا الحوالي كما لو أنه قادم برؤية جديدة حيال الديمقراطية، والانتخابات، وتأسيس الأحزاب والنقابات، التي كانت توصم باعتبارها محرّمات، بل وكفريات.
 
في رؤيته الفقهية القبلية، المثبّتة على موقعه الرسمي حتى الآن، سئل الحوالي عن مفهوم الديمقراطية وهل في الإسلام ديمقراطية فنفى أن يكون في الاسلام ديمقراطية بما نصّه: (الله عز وجل رضي لنا الإسلام.. فما رضي لنا الإشتراكية ولا الديموقراطية ولا القومية، ولا أي تسمية أخرى..)، وقال في جواب على سؤال عن حكم الإسلام في الديمقراطية ما نصّه (بالنسبة لنا نحن في دين الإسلام: الديمقراطية كفر، الديمقراطية شرك..)، لأنها لا تحكم بما أنزل الله (فالتحكيم الديمقراطي هو اتباع لأهواء الذين لا يعلمون..).
 
ولكن في المؤتمر الأخير بدا الحوالي في كلمة الافتتاح الموسومة (ولدنا أحراراً) ديمقراطياً من الطراز الرفيع، فقد دعا الأنظمة التي لم تصلها رياح الثورات (أن تأخذ العبرة مما جرى، وأن تتصالح مع شعوبها والقيام بإصلاحات شاملة وفتح المجال لقيام أحزاب سياسية، ونقابات مهنية، وإقامة انتخابات حرة ونزيهة).
 
وكان موقفه منسجماً مع رفيق دربه الشيخ سلمان العودة الذي أثنى على التطوّر الكبير في تونس وقال عن شعبها أنه (تحرّك من أجل الحريات، ولذا يجب أن يحصل على حريته، بما في ذلك حرية العمل السياسي وتنظيم التجمعات والأحزاب)، فيما اعتبر ثورة 25 يناير في مصر بأنها ( ثورة سلمية هادئة.. ثورة عفوية صادقة مباشرة..)، ونقل مؤيّداً مشاهدات الناشط البريطاني جون رييز، خصوصاً وصفه ثورة شباب ميدان التحررير بأنها (ثورة ضد الاستبداد والظلم..)، وكذا قول المفكر الأميركي نعوم تشومسكي عن ثورة مصر بأنها (ثورة منطقة.. وليست ثورة شعب)، هل يلمح العودة إلى حلم ما في بلاده؟ ربما، كما بدا من الأسئلة اللاحقة من قبيل: (كيف تتعرف على مشاعر الآخرين تجاهك؟ أيها الحاكم..). ويطالب بإلحاح بالاستماع الى الصوت الآخر ـ الشعب.
 
على الضد، هناك من المشايخ الكبار في المدرسة السلفية التقليدية من يرفض المقاربة الجديدة والجريئة للحوالي ـ والى حد ما العودة رغم غموضه المعتاد ـ ويتمسّك بما كان يؤمن به الحوالي فيما مضى من تحريم للديمقراطية والأحزاب والنقابات (على طريقة ناصر العمر الذي مازال يمسك العصا من منتصفها فهو مع آثار الديمقراطية وليس مع عنوانها). فقد رفض الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، أن يمنح دعمه لحزب النور السلفي وقال بأن الواجب على المسلم (وقت الفتن أن يتجنبها وأن يبتعد عنها حتى تهدأ، ولا يدخل فيها..)، وأوضح بأن (الأحزاب والتكتّلات قد تجر إلى شر وفتنة واقتتال فيما بينها، فالمسلم يتجنب الفتن مهما استطاع).
 
إن النزوع الى التمييز بين نوعين من السلفية: سلفية تقليدية/ عقدية وأخرى سلفية حركية/ سياسية تشي بانقسام في المجتمع السلفي السعودي قبل غيره، فالتماهي مع السلفية العقدية يعني العودة الى خط الدفاع الأول عن العقيدة التي شكّلت الأيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية، وإن ظهور سلفية سياسية تحاول بخجل، حتى الآن، الإنفتاح على أدوات ومفاهيم الديمقراطية (الأحزاب، النقابات، والاتحادات، الانتخابات، الدستور، التشريعات القانونية..)، قد يبطن تهديداً وجودياً للسلفية التقليدية.
 
في استشراف ديناميات السلفية، ثمة أشكال متنافرة ستحكم المشهد السلفي العام 2012، حيث سنجد تجاذباً بين التيار التقليدي في السلفية الذي يرفض التعاطي مع المفاهيم الحديثة والقبول باللعبة الديمقراطية لناحية التماهي مع الواقع السياسي الجديد، والحفاظ على ما يعتبره النواة الأصلية التي قام عليها المذهب، وبين تيار سياسي سلفي يميل إلى (الانتقال) الى ميدان المنافسة، وإن تخلى عن بعض حمولة المعتقد، ولذلك، فإن حزب النور السلفي في مصر، على سبيل المثال، سيبقى منبوذاً من قبل السلفية التقليدية في السعودية.
 
بطبيعة الحال، لا يمكن حسم الرأي في السلفية السياسية، التي لا تزال غير واضحة فيما يرتبط بموقفها من الآخر، سواء داخل المجال الإسلامي (أتباع المذاهب الأخرى)، أو المجال الديني (المسيحيين على وجه الخصوص) أو في المجال الإنساني (من يسمونهم العلمانيين والليبراليين وغيرهم)، خصوصاً ما يترتب على ذلك من التزامات، بالنظر الى حق الآخر، مهما يكن، في المشاركة في سن التشريعات، التي قد تتعارض جزئياً أو كلياً مع مبدأ (تحكيم الشريعة)، إذ بحسب الفتوى السائدة لدى علماء السلفية التقليدية عدم جواز العمل في حكومة لا تحكم بغير شريعة الإسلام، ولا المشاركة في الانتخابات فيها إلا بهدف (دفع ضرر أكبر) أو (درء فساد محتمل). وإلا فإن الأصل السلطاني السلفي يقضي بحرمة الانتخابات، والأحزاب وغيرها، لأنها من البدع المحرّمة، كونها لم ترد في الكتاب والسنة أو سيرة السلف الصالح، أو في فتاوى أهل العلم الشرعي من الماضين. من إرهاصات السلفية المحدّثة، ما ظهر منها في فتوى عضو مجلس الشورى الشيخ السلفي حاتم الشريف.
 
بإزاء هذا التنوع الثري في أشكال السلفية التي لن تقتصر على بلد دون سواه، سيدخل التيار السلفي السعودي بشقيّه التقليدي والحركي مرحلة تجاذب جديدة، قد تفضي الى تطوّرات هامة مع تطلّع الشق الحركي إلى لعب دور مماثل لنظرائه في بلدان عربية شهدت تحوّلات كبرى وسمحت لقوى سلفية حركية بالمشاركة بأدوار فاعلة، فيما سينافح التيار التقليدي من أجل الحفاظ على موقعه كحارس للعقيدة، وما يتطلبه من دفاع عن النظام السياسي الذي يؤويه.
"السفير"

التعليقات