30/01/2012 - 12:13

لمصلحة من تجري تصفية شركة كهرباء القدس؟../ راسم عبيدات

إن نسب التيار الفاقد (أي المسروق) مرعبة، ففي مخيم كمخيم عقبة جبر تصل النسبة الى 92%، والدهيشة 57.40%، ومخيم شعفاط 76.64%، ودير عمار67.19 %، والأمثلة تطول، وتكثر في القرى والأرياف والمدن، وبالملموس فنسب التيار الفاقد (المسروق) حسب معطيات شركة كهرباء القدس للمحافظات الواقعة تحت امتيازها هي لعام 2011 على النحو التالي: القدس 34.62 %، رام الله 24.60 %، بيت لحم 24.05 %، أريحا 23.27 %

لمصلحة من تجري تصفية شركة كهرباء القدس؟../ راسم عبيدات
شركة كهرباء محافظة القدس ليست فقط صرحاً مقدسياً عريقاً، بل هي رمزً من رموز السيادة الوطنية الفلسطينية في مدينة القدس، فهذه الشركة هي الأعرق في المدينة، حيث عاصرت ومر عليها أكثر من احتلال ونظام حكم. ويعود تأسيسها للعهد العثماني، وعاصرت الانتداب البريطاني، ومن ثم أصبحت تحت السيادة الأردنية بعد توحيد الضفتين، وبعد عام 1967 خاضت معركة شرسة وقاسية ومريرة مع الاحتلال الإسرائيلي الذي احتل مدينة القدس، وأعلن سيادته عليها وضمها لدولته بعد ثلاثة أسابيع من الاحتلال، وبالتالي كان يريد السيطرة على الشركة ويلحقها بشركة الكهرباء القطرية الإسرائيلية. ولكن بصمود القدس وأهلها وحركتها الوطنية ومؤسساتها، تم الحفاظ على استقلالية الشركة كجسم مقدسي مستقل، ولكن تراجع الاحتلال كان مؤقتاً، ومع تنامي الاستيطان في مدينة القدس والضفة الغربية الواقعة تحت امتياز شركة الكهرباء، بدأ الاحتلال هجمة شرسة مرة أخرى من أجل السيطرة عليها وعلى مناطق امتيازها، وكانت هناك معارك قانونية وجماهيرية شرسة وقاسية دفاعاً عن هذا الصرح المقدسي. ورغم النجاح في الحفاظ على الشركة كجسم مستقل، إلا أن الشركة خسرت جزءا من امتيازها، حيث جرى تزويد المستعمرات المقامة على الأرض الفلسطينية من قبل شركة الكهرباء القطرية الإسرائيلية، كما تم منع الشركة من استخدام مولداتها في إنتاج الكهرباء، وفرض عليها شراء الكهرباء من الشركة القطرية وبتعرفة عالية، وبما لذلك من مخاطر وتكاليف باهظة تتحملها الشركة في حالة التأخر في الدفع، كغرامات تأخير وديون متراكمة، الناتج في جزء كبير منه من عدم تسديد السلطة الفلسطينية للمبالغ المستحقة عليها، وسرقات التيار الكهربائي الكبيرة وكذلك تخلف المؤسسات الكبرى عن الدفع في المواعيد مثل مستشفى المقاصد وجامعة القدس ومستشفيات ومؤسسات رام الله وبيت لحم وأريحا الواقعة ضمن امتياز شركة كهرباء القدس.
 
ومن باب الموضوعية وعدم التجني فقد يقول قائل بأن هناك تضخما إداريا وبطالة مقنعة وتوظيفات على أسس فئوية في الشركة، وقد يكون هناك بعض نماذج الخلل الإداري، ولكن في المقابل فإن عمال وموظفي وإدارة الشركة يعملون في واقع وظروف على درجة عالية من التعقيد والصعوبة، فهم في قلب الحدث والمواجهة ليس فقط مع الاحتلال، بل ومع الجمهور الفلسطيني والمشتركين، فالشركة واكبت التطورات العلمية والتكنولوجية وأجرت تحديثات على شبكاتها، رغم كل القيود التي يفرضها عليها الاحتلال، وهي حاصلة على شهادة الجودة الايزو ISO من شركة SGS السويسرية والمرخصة عالمياً لمنح هذه الشهادة.
 
 ومن هنا فالمسؤولية الوطنية والواجب تتطلب من الجميع دعم هذه الصرح وتقويته وتطويره وحمايته والدفاع عنه، وبالذات من قبل السلطة الفلسطينية والقوى والأحزاب الفلسطينية، ولكن بكل ألم وأسف فإن وضع الشركة قبل مجيء السلطة وأوسلو أفضل مئة مرة من بعد مجيء أوسلو وقيام السلطة. وهذا ليس في إطار التجني أو التجريح أو الشماتة في سلطة لا سيادة لها، رئيسها يتحرك بتصريح إسرائيلي مؤقت، رغم المنع الأمني، فالجميع يذكر ومدير عام شركة كهرباء القدس الحالي الصديق هشام العمري يذكر أيضاً، بأنه في الانتفاضة الأولى، إنتفاضة الحجر- وعندما كانت أمور الشعب الفلسطيني موكلة للقيادة الوطنية الموحدة، فإن حجم السرقات للتيار الكهربائي والاعتداءات على موظفي ومقرات الشركة وخطوط امتيازاتها، نقطة في بحر لما يحدث بعد مجيء أوسلو وقيام السلطة.
 
 والغريب هنا ليس في اختلال المعايير وانهيار منظومة القيم والأخلاق بفعل أوسلو، بل معادلة لا أجد لها أي تفسير علمي أو عقلاني، فعندما يوصف مجتمع كمجتمعنا بأنه مجتمع متدين، فكيف يستقيم الأمر مع من يؤدون الشعائر والفروض الدينية وبالمقابل القيام بسرقة التيار الكهربائي أو أعمال أخرى لا تتوافق مع العقيدة والتدين. ولعل الكاتب المصري علاء الأسواني أصاب كبد الحقيقة عندما كتب: "أخلاق بلا تدين أفضل من تدين بلا أخلاق"، حيث نشهد حالة من الانفصال بين العقيدة والسلوك، التدين والأخلاق. وهناك سؤال محير كيف نكون أكثر تديناً وأكثر انحرافا في نفس الوقت؟، أم أننا امام مشاكل اجتماعية عميقة، ونتاج وعي وتربية وثقافة مشوهة ومتخلفة، يغيب فيها الانتماء للوطن والمصالح العامة ويقدم فيها الانتماء القبلي والعشائري والجهوي؟ وهل الاحتلال هو المشجب الذي نعلق عليها مثل هذه المسلكيات والظواهر والمظاهر؟ من سيادة مفردات البلطجة والزعرنة والاستزلام والفهلوة والاستجداء والشحدة واعتبار السرقة نوعا من الشطارة؟ ولماذا نعلق عليه كل مشاكلنا وظواهرنا السلبية، والتي في جزء كبير منها متعلق بوعينا وثقافتنا وتربيتنا المشوهة.
 
فما معنى أن هناك صرحا وطنيا ورمزا ومعلما من رموز ومعالم سيادتنا ووجودنا الوطني في مدينة القدس، يوفر فرص عمل لمئات العائلات الفلسطينية في القدس والضفة الغربية، يتعرض للذبح والتدمير بأيدينا نحن، حيث أنه تجري عمليات سرقة للتيار الكهربائي، سرقات من شأنها أن تطيح بأكبر شركة، والأخطر رغم كل ذلك فإن العديد من عمليات السرقة التي تجري تتستر عليها جهات نافذة وفي مستويات عليا أمنيا وسياسيا، وأبعد من ذلك فهناك من يتبناها ويتستر عليها، والبعض يقوم ليس بالسرقة لبيته أو مصلحته، بل يعمل على بيع التيار المسروق لجيرانه أو أقاربه. فأين مصلحة الوطن والوطنية مما يجري؟ وهل هناك من هو على رأسه ريشه، أو كونه لاجئا أو نافذا في هذه الجهة أو تلك، مبرر له لكي يقوم بسرقة التيار الكهربائي؟ إن نسب التيار الفاقد (أي المسروق) مرعبة، ففي مخيم كمخيم عقبة جبر تصل النسبة الى 92%، والدهيشة 57.40%، ومخيم شعفاط 76.64%، ودير عمار67.19 %، والأمثلة تطول، وتكثر في القرى والأرياف والمدن، وبالملموس فنسب التيار الفاقد (المسروق) حسب معطيات شركة كهرباء القدس للمحافظات الواقعة تحت امتيازها هي لعام 2011 على النحو التالي: القدس 34.62 %، رام الله 24.60 %، بيت لحم 24.05 %، أريحا 23.27 %.
 
كل عمليات السرقة والبلطجة والزعرنة والاعتداء على موظفي الشركة ومقراتها وخطوط امتيازها وشبكاتها، تجري في ظل غياب المساءلة والمحاسبة وسيادة القانون، فكثير من تلك الاعتداءات تجد طريقها للحل، بفنجان القهوة السحري والكرم العربي الأصيل، حيث العديد من موظفي الشركة دفعوا حياتهم لأنهم أرادوا حماية الشركة والدفاع عن حقوقها وتنفيذ واجباتهم، وحقوقهم ذهبت أدراج الرياح، والقانون المعمول به في المحاكم الفلسطينية منذ عام 1962، والخاص بمعاقبة سارقي التيار الكهربائي، لا يغني ولا يسمن من جوع، بل يشجع على التمادي في السرقة، فهو يحدد عقوبة سرقة التيار الكهربائي بـ45 ديناراً أردنياً، وهي كانت تساوي قيمة كبيرة جداً في تلك الفترة، وهذا القانون البالي أعطى المبرر لحيتان السرقات التمادي في سرقاتهم، فهم عند ضبطهم بالسرقة من قبل الشركة، يرفضون دفع أثمان التيار الذي سرقوه ويتوجون إلى المحاكم، والقرار يكون دفع 45 ديناراً أردنياً ومعاودة السرقة من جديد. وأنا أتساءل عن عدم إقرار وتطبيق قانون الكهرباء الذي أقره الرئيس أبو مازن؟ فهل هناك ما وراء الأكمة ما وراءها؟ وأتساءل أيضاً عن تناخي العرب والمسلمين للدفاع عن الأقصى وحمايته ونصرته، ومجموع الديون المتراكمة عليه تصل مئات آلآف الشواقل لشركة الكهرباء؟ وأيضاً التأخيرات في الدفع للكثير من المؤسسات الكبرى المرتبطة بالسلطة الفلسطينية، وبما يراكم ديوان وغرامات باهظة على الشركة، والتي لم تكلف الخزينة الفلسطينية فلساً أحمر؟ وأتساءل أيضاً عن من يقومون بسرقة التيار وبيعه لآخرين رغم معرفتهم، ومراجعات الشركة لأجهزة السلطة المتكررة بشأنهم، لماذا لم تجر محاسبتهم أو حتى وقفهم، أم أن هناك مصالح مشتركة؟ وأيضا من قاموا بقص 18 عشر عموداً للضغط العالي لتغذية منطقة أريحا والمارة من المستوطنات، هل هي عملية عفوية أم أن هناك مخططا خلف ذلك، هذه مسألة بحاجة الى إجابة من قبل السلطة وأجهزتها المختلفة.
 
وبعد.. نحن من يذبح شركة كهرباء القدس، ونعطي الفرصة للاحتلال للسيطرة عليها، ونتشدق ليل نهار بعروبة القدس والدفاع عن عروبتها وهويتها ومؤسساتها ووجودنا فيها، من يسرق التيار مشارك، من يتغاضى عن ذلك مشارك، من لا يسدد قيمة فواتيره مشارك، من لا يطبق القانون مشارك، من يحمي ويوفر الغطاء مشارك، والسلطة المتهم رقم واحد في ضياع الشركة وسيطرة الاحتلال عليها، فمعظم امتياز الشركة واقع في حدود صلاحياتها، وعليها أن تطبق القانون.
 
لا يجوز ترك الحبل على غاربه، وترك "حرامية" التيار الكهربائي يتزايدون، حتى وصل الأمر حد أن يقول أحد المشتركين للجابي الذي أحضر له فاتورة الكهرباء، "ليس لدينا ورق تواليت في الحمام، وورقة الفاتورة مفيدة لذلك".. فهل بعد هذه الوقاحة وقاحة؟ وأيضاً عندما أرادت الشركة أن توسع خط امتيازها في منطقة من المناطق، أجمع وجهائها وكبارها على أنهم يرحبون بالشركة، ولكنهم لن يدفعوا مليماً أحمر..

التعليقات