قد يكون من أغرب المفارقات المعبرة، أن عام 2010 الذي شهد آخره اندلاع أولى الثورات العربية، كان منتصفه شاهدا أيضا على وفاة ثلاثة من أبرز المفكرين الذين أثروا ساحاتنا الثقافية بمساهمات نقدية علمية مميزة، شكلت بدورها ركيزة معرفية هامة لمثقفينا في فهم تاريخية العقل والأحكام والمرجعيات الفكرية التي صاغت أنماط التدين، وقولبت مفاهيم العقائد، وحددت بالتالي قسمات وخصائص موروثنا الثقافي العربي الإسلامي، وهم على التوالي: محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون.. مات هؤلاء الفرسان حتف أنفهم، وما في أجسادهم شبر إلا وفيه طعنة من خنجر مسموم، وسط صمت مريب من تجاهل وجهل غالبية المثقفين العلمانيين، وضجيج تشفي ولعنات الأصوليين والسلفيين؛ هذه الحقيقة تؤكد أن علاقة فعالياتنا وأحزابنا بالفكر الحقيقي واهية، وهو الميدان التي صالت وجالت في ربوعه تلك الكوكبة المتألقة، ودفعت جراءه أبهظ الأثمان.
في ظل أجواء معتمة بكثير من الإنكار والتنافس والنفي وتقديس الذات، يقتنع كل مركب من طيفنا السياسي أن ما لديه من رؤى وأفكار موروثة أو مستعارة تكفيه وتغنيه ثقافيا ووطنيا وسياسيا، لدرجة لا يستمع لغيره ولا يحاور إلا نفسه، بل وينسى معها أن البحث والنقد والجدل هي شروط ضرورية لتفجر ينابيع المعرفة ولتجدد عقله السياسي والاجتماعي.
عزمي بشارة من صنف هؤلاء المفكرين الكبار، وقد يكون الشخصية الأوفر تأثيرا في بلورة الخطاب السياسي الراهن لفلسطينيي الداخل، ومن أميز المنظرين العرب في مجال المواطنة والمجتمع المدني وإصلاح وتطوير الفكر القومي بعلاقته بقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولأنه كذلك، فقد أثار، بطبيعة الحال، كثيرا من المنازلات الفكرية الهامة وجذب باتجاهه نيران النقد، والتي لم يسلم بعضها من تأثيرات الغرائز البدائية التي اشتعلت حسدا لدى رهط متنوع من مختلف المدارس والتوجهات؛ مع هذا، لن يستطيع أحد أن يسلبه ذاك التميز النوعي أو ينكر عليه إنجازاته تلك، رغم ما يتعرض له هذه الأيام من نقد لموقفه من الشأن السوري، حيث أن بعضه مبرر ومفهوم بل ومطلوب، وبعضه الآخر منسوج من خيوط نظرية المؤامرة التي يستخدمها بعض الكسالى والمشبوهين تعبيرا عن عقمهم الفكري وعوضا عن البحث والتمحيص، ولذا لا يعدو ذاك بنظرنا كونه مجرد تقولات مخزية من المزايدات البائسة والرعناء ولا تستحق التوقف عندها.
لا شك أن المحنة السورية الملتهبة وتناقضاتها قد أحدثت انقساما غير مسبوق في صفوف أبناء التيار القومي والحركة الوطنية، لا بل في الشارع الجماهيري ونخبه السياسية والمثقفة، تستلزم منا جميعا التعامل العقلاني الرصين للإحاطة بتفاصيلها وتداعياتها الناجزة والمتوقعة، ولعل النقد الموجه من أبناء الحركة الوطنية لعزمي بشارة يمثل تعبيرًا صارخًا عن هذا الانقسام، وهو بغالبه يأتي بحجم التوقع الطبيعي من شخص بثقله ارتباطا بوطنيته ودوره المعهود في الثورات العربية.
أحيانا، لا أستطيع تلمس الحد الفاصل بين تحليلات عزمي بشارة المهنية عندما يحل ضيفا على قناة "الجزيرة"، وبين موقفه الشخصي في الموضوع السوري المطروح، فتارة تبدو ملاحظاته استشرافية محايدة وتقع في دائرة التحليل والتوقع، وتارة تلقى بوصفها انعكاسا لقناعاته مما ينبغي أن يحصل.
عندما واكب عزمي بشارة الثورات العربية إعلاميا، وقدم لمشاهديه أروع اللحظات الذهنية والعاطفية عبر تعقبه للحلقات المركزية في خضم المشهد التاريخي المتبدل، مترافقا مع جدلية تصوراته تجاهها بارتباطها عضويا برفض الاستبداد، والتهميش الاجتماعي، والسحق الأمني، مع بداية انطلاقها، فقد كان كالمشارك فعليا في صنعها ومصيبا حتى النخاع، ومع ذلك لم يكتف وقتها بدور المنظّر، وإنما تعداه إلى مواقع التوجيه السياسي النضالي، وهذا ما شهدنا عليه بحالتي تونس ومصر، حيث كانت إطلالاته عبر الجزيرة مصدر إلهام ثان للثائرين، وبهذا استحق عن جدارة لقب منظر الثورات.
الجماهير التي تابعت بشوق وتوق مداخلات بشارة المتلفزة، اعتادت منه على هذا النمط والروحية التي مزجت بين المعرفة التفصيلية والخبرة السياسية والنزعة الثورية الواضحة، وبالتالي انطبعت تلك الصورة في مخيلتهم لعزمي بشارة الناشط الوطني، الذي يسبر غور الحدث ويقدم مقارباته وتوقعاته بشكل عقلاني والتي غالبا ما تصيب.
في الحالة السورية ظهر عزمي بشارة، بداية، مسكونا بكثير من التحفظ على الحراك الجماهيري، حيث أبدى في أكثر من مرة تخوفه من تحولها إلى مصيدة لسوريا البلد ولمعسكر المقاومة، ذلك لأنه من أكثر العارفين بحقيقة وتفاصيل الواقع السوري الداخلي. فمن ناحية أولى، ظهر مؤيدا ومدافعا شرسا عن سياسة النظام الخارجية الممانعة والقومية، وتعرض لقاء ذلك لهجوم وتطاول عجيب من بعض النخب الليبرالية واليسارية، إذ صور داعما لنظام استبدادي ومساندا لحزب ديني ذي نزعة شمولية (حزب الله)، ومن ناحية ثانية مطالبا مزمنا في ندواته الأكاديمية هناك، وخلال لقاءاته وعبر قنواته مع قادة النظام، بضرورة تنفيذ إصلاحات جذرية في بنية النظام وطريقة تعاطيه مع المجتمع وتشكيلاته، وهي عينها الانتقادات التي خلقت توترا تراكميا شديدا، وباعدت بين عزمي بشارة والنظام السوري في السنة التي سبقت اندلاع الانتفاضة (التلكؤ بتنفيذ الإصلاحات الموعودة، اعتقالات عشوائية لرموز المعارضة الوطنية، العقلية الأمنية والفساد الممأسس الذي أفضى برأي بشارة لاغتيال عماد مغنية، أضرار الانفتاح الاقتصادي غير المتوازن مع تركيا وملاحظاته عن التوريث...)، لذلك كان بشارة الأول في تقديم النصح للنظام السوري وتذكيره بضرورة التجاوب الفوري والسريع مع مطالب الشارع المنتفض، وهو ما فسره أقطاب النظام وبعض المثقفين المتعصبين والمتصيدين على أنه تخل عن صديق في محنته.. وباقي القصة معروف.
باعتقادي أن هجمة تلك المجموعة من المثقفين القابع أغلبهم في بيروت، والذين كانوا أصدقاء الأمس، وعلى تناغم كامل مع مواقف بشارة في قضية الإصلاح، وانفلاتها بشكل جنوني ضده... كل ذلك دفعه إلى مزيد من التشدد في قضية موقفه لصالح المنتفضين، وهنا وجب أن نقول لعزمي بشارة الملاحق والبعيد قسرا عن وطنه، إن عليه أن يمضي بعطائه وتجاهل كافة أصناف التشكيك الهابط والمتاجرة المريضة رغم قسوتها، تماما كما يفعل السيد حسن نصر الله، الذي يتهمه بعض الصغار بتنفيذه مشروعا إيرانيا فارسيا وحاميا لحدود إسرائيل!
من الواضح أن انحياز بشارة لجانب الفعل الجماهيري جاء منسجما مع توجهاته المعروفة، كمثقف طليعي، بتقديم قيم الحرية والديمقراطية والمواطنة...، ولهذا كان انتقاله مع المنتفضين من مرحلة المطالبة بالإصلاح إلى الموافقة على سقوط النظام أمرا متوقعا، غير أن ما يتبلور الآن أمام ناظرينا من تكتل فعال ومتساوق مع المشروع الأمريكي وملحقاته في المنطقة، من شأنه أن يدعو عزمي بشارة إلى إعادة النظر في مفرداته وملاحظاته وأولوياته وخطابه بشكل عام بهذه المسألة تحديدا.
قطع العلاقة مع برهان غليون والتماهي مع موقف المعارضة الوطنية السورية
في لقاء "الجزيرة" الأخير، كرر بشارة رفضه المطلق للتدخل الأجنبي، ولكن بصورة سريعة، باعتباره ذلك أمرا مفروغا منه (في أكثر من مرة اعتبرت بعض قيادات المعارضة ذاك تآمرا وتوجها معاديا لها)، إلا أن هذا الرفض الراسخ يجب أن يحظى بأعلى قدر من الاهتمام من طرفه، وأن يكون في صدارة الموقف ليفعل فعله في الوعي الجماهيري، ويحشد ويستقطب الناس من حوله كموضوع مركزي وخط أحمر لا ينبغي لأحد تجاوزه.
التدخل الأجنبي ليس بالضرورة أن يكون عسكريا أو مباشرا في هذه المرحلة، إذ يمكن له أن يبدأ على هيئة مبادرات ومشاريع عربية بتنسيق وتوجيه غربي وأمريكي، ظاهرها وقف العنف المتبادل وحماية المدنيين وحل الأزمة سلميا، بينما جوهرها تعقيد فرص المصالحة وعسكرة الصراع بهدف إطالة أمده، وإنهاك البلد وضرب الوحدة المجتمعية لخلق الشروط اللازمة لإسقاط النظام، ثم تتدحرج بصفتها قرارات تحظى بدعم "المجتمع الدولي" لشرعنة تدخله لاحقا، تدخلا ناعما أو خشنا.
فهؤلاء إما مجرد أدوات وإما أصحاب مطامع، غير أن ما يعني المحور الأمريكي الصهيوني ليس أقل من تحويل سوريا لعراق ثان واستعارها بنار الحرب الأهلية والطائفية، وكسر ظهر ثقافة الممانعة، وتهيئة الظروف للإجهاز الكامل على تيار المقاومة، والتفرغ لضرب إيران وإعادة ترسيم المنطقة من جديد، وبالتالي تسفير الملف الفلسطيني إلى غياهب الأدراج المظلمة إلى أن يشاء الله غير ذلك.. لهذا كله نتوقع من عزمي بشارة أن يستفيض أكثر في تحليل الأطماع والسيناريوهات المحتملة إذا ما سقطت سوريا، وإسماع نقد واضح للتيار الإسلامي حول موقفهم من أمريكا والقضية الفلسطينية، ولا يكتفي بالتعامل معها على أنها تصريحات تعكس عقلية برغماتية.
لا بد لنا أن نبقي سيف النقد مشهرا بوجهه العقلية الأمنية والإنكارية للنظام السوري من جهة، وفصل الحب عن الزوان في مشهد المعارضة السورية، ليس فقط على قاعدة لاءات حسن عبد العظيم الأربع (لا للاستبداد الداخلي، لا للتدخل الخارجي، لا لرد العنف بالعنف ولا لإثارة النعرات المذهبية)، وإنما من باب عدم التسليم بسيناريوهات معلومة النتيجة والتي تفضي في كل الأحوال إلى انهيار الدولة أو النظام السوري والدخول إلى غابة من المجاهيل.
الشعب السوري هو صاحب الشأن فعلا، بيد أنه لم يقل كلمته النهائية حتى الآن، وتتعرض حساباته لضغط ماكينة إعلامية محكمة ومتبادلة لا ترحم ولا تحترم وعيه، هذا فضلا عن الأضاليل المدروسة التي يروجها بعض قادة المعارضة المغالين بانحرافهم من جهة، وتداعيات نزيف الدماء البريئة جراء قمع النظام المفرط، وممارسات العصابات المندسة العميلة أو الظلامية من ناحية أخرى.
"يتعين على من هم من عيار عزمي بشارة، أن يدلوا بدلوهم ويسهموا في اجتراح الحلول والمبادرات المبتكرة"
"أخي ورفيقي عزمي.."
التعليقات