13/02/2012 - 10:19

ما يشبه أوطان السود.. في ما تبقى من فلسطين../ فرجينيا تيلي

من كتاب يصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية "حل الدولة الواحدة للصراع العربي الاسرائيلي ـ بلد واحد لكل مواطنيه

ما يشبه أوطان السود.. في ما تبقى من فلسطين../ فرجينيا تيلي
من كتاب يصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية "حل الدولة الواحدة للصراع العربي الاسرائيلي ـ بلد واحد لكل مواطنيه
 
شعبان في أرض واحدة. شعب له دولة تامة تدعى إسرائيل، وآخر يعيش في معتقلات بلا فلسطين. جنوب أفريقيا العنصرية قدمت نموذجاً: دولة صافية للبيض، وأوطان مسوّرة للسود، لتسع "أمم أفريقية". مسمّوا هذا التدبير، نظام الفصل العنصري.. الولايات المتحدة الأميركية، لم يعترفوا بالسكان الأصليين، أو بمن تبقى منهم، إنما، في أواخر القرن التاسع عشر تم تحويل الشعوب المحلية الأميركية إلى أمم محلية تابعة... وجوه الشبه كثيرة، بين هذه الأنماط، وحكم ذاتي فلسطيني محصور في كانتونات مسوّرة بمناطق يهودية صافية، يسكنها أناس يتسلحون بحقد عنصري، وأمن ذاتي، وجدران العزل والفصل... هنا قراءة للمشهد الاستيطاني كما تراه الباحثة فرجينيا تيلي، أستاذة العلوم السياسية ورئيسة بحوث متخصصة في مجلس العموم لجنوب أفريقيا.
 
تُظهر فلسطين الانتداب وجنوب أفريقيا تشابهات قوية في الدراسات المقارنة، مع أن هذه المقارنة حساسة ومثيرة للجدل بسبب تبعاتها المعيارية على إسرائيل. ففي كلا المشهدين، وعلى رغم أُطر زمنية مختلفة (نحو 350 عاما في جنوب أفريقيا وزهاء قرن واحد في فلسطين)، ثمة مجتمع استيطاني أوروبي طالب أولا بحكم جميع الأراضي، ولم يعترف للمجتمع المحلي بحقوق سياسية وحقه في الحكم إلا بصورة مؤقتة، ريثما يقضي عليه. في كلتا الحالتين، وفيما كانت دولة المستوطنين تتعزز، كان يجري انتزاع ملكية الأراضي المحلية وإبطالها بالتدريج. في جنوب أفريقيا المعاصرة، حاولت الجمهوريات الافريكانية أولا (دولة أورانج الحرة وترانسفال) ثم النظام العنصري الجنوب الأفريقي في فترة لاحقة، حل التحديات الأيديولوجية والسياسية لمفهوم الدولة المعاصرة التي أثارتها الأغلبية الأفريقية السوداء، من خلال تقسيم سكان البلاد قانونياً إلى فئتين: "الشعب" (volk) الأفريكاني/ الأبيض مع منحه المواطنة والحقوق السياسية، وغير البيض (معظمهم من السود) من دون حقوق موازية. وفي فلسطين، قامت الصهيونية السياسية بالمثل، بأن قسمت السكان المتعددي الطوائف في فلسطين الانتداب إلى "شعب يهودي" له حقوق السيادة، وغير يهود (معظمهم من العرب) بدون مثل هذه الحقوق.
 
الاختلافات والتعقيدات موجودة هنا أيضا، فعلى سبيل المثال، منح النظام العنصري في خاتمة المطاف التمثيل (في مجالس برلمانية منفصلة) للمواطنين الهنود و"الملونين" (العرق المختلط)، لكنه أنكر حق التصويت والحقوق المتساوية للمواطنين السود حتى النهاية، في حين أن إسرائيل منحت في النهاية المواطنة والتمثيل السياسي للفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل، لكنها استبعدت فلسطينيي الضفة والقطاع. وهكذا، وفي كلا الحالين، استخدمت الدولة نقل السكان الإجباري والتشريع التمييزي لضمان أغلبية إثنية والقدرة المطلقة لهذه الأغلبية على السيطرة على العملية الديموقراطية لتثبيت كل من الرضوخ السياسي والضعف الاقتصادي الدائمين للسكان المحليين.
 
بيد أن نظام جنوب أفريقيا، الذي تعرض في الستينيات لضغوط دولية متنامية، حاول إحداث نقلة لحفظ ماء الوجه من خلال الاقتراح بأن السود في جنوب أفريقيا لا يعانون في الواقع أي تمييز مستند إلى منطلقات عنصرية، بل هم عملياً يشكلون أمما منفصلة، يتم تحديدها جغرافياً، وتمحضها الدولة الاعتراف والحقوق الجماعية. في مثل هذا النموذج، كان سكان جنوب أفريقيا يتشكلون من أمة بيضاء أفريكانية في معظمها (وهم المستوطنون الهولنديون)، وتسع أمم أفريقية من السود. وبعدها كان يمكن لنظام الفصل العنصري أن يقرر بأن المناطق الجغرافية التي يُنقل إليها السكان السود حيث يحجزون هناك، هي في الواقع "أوطان" للسود تستطيع في إطارها الأمم السوداء ان تُعبّر عن حق تقرير المصير.
 
في فلسطين أيضاً، اعتبر المخططون الصهيونيون اليهود منذ البداية شعباً أو أمة، ولم يعترفوا سوى لاحقاً بأن الفلسطينيين يشكلون شعباً. وكما في جنوب أفريقيا، اقترحت هذه المناورة مساواة فعلية في الوضع القانوني والحقوق في الأراضي لكل "الأمم" (التي فبركها الصهيونيون): وبالتالي برز شعار "شعبان على أرض واحدة". وعلى غرار "الفصل العنصري الكبير" في جنوب أفريقيا، يقال إن حل الدولتين في فلسطين الانتداب يوفر وضعاً متساوياً عبر تلبية حق تقرير المصير القومي اليهودي والقومي العربي الفلسطيني. وفي كلتا الحالتين، تم تغييب مسألة القوة الطاغية للدولة التي تُملي بنوداً مثل هذه الترتيبات في هذه الرواية المتساوقة، بيد أن الاختلاف في هاتين الحالتين برز أساساً في رد فعل السكان المحليين: فحزب المؤتمر الوطني الافريقي، الذي تشكل في أوائل القرن العشرين رداً على خضوع السود لحكومة واحدة، واصل رفض الفصل، وأسند حملته السياسية إلى شعارات الحقوق المتساوية في دولة واحدة غير عنصرية. أما منظمة التحرير الفلسطينية، التي تشكلت في الستينيات ـ في أوج نضالات التخلص من الاستعمار، فقد تبنت عباءة القومية العربية الفلسطينية، وهو موقف أدى إلى رفض الاندماج مع الإسرائيليين، فيما كانت الحركة الصهيونية تعزز قوتها في إسرائيل.
 
في كلا الحالين، حافظت الدولة الإسرائيلية على سيطرة مطلقة على عملية توزيع الأرض وحكمها، بوصفها أداة رئيسية لفرض السيطرة الديموغرافية وضمان إدارة الشؤون العامة لمصلحة الجماعة المهيمنة. وقد تحققت هذه السيطرة في إسرائيل بثلاث وسائل رئيسية:
 
الأولى طرد غالبية الفلسطينيين في العام 1948 من الأراضي التي أصبحت إسرائيل، ومنع عودتهم؛
الثانية احتلال بقية فلسطين الانتداب في العام 1967، وفرض الحكم العسكري الذي نقل سلطة التخطيط المدني في الأرض المحتلة إلى سلطة الاحتلال؛
الثالثة مشروع الاستيطان، المصمم صراحة لضمان انعدام إمكانية نقض سيطرة إسرائيل على الأرض المحتلة، وانعدام إمكانية انتزاع السيادة المحلية منها.
 
وهكذا، باتت المستوطنات الآن تشكل مرحلة متأخرة في نمط الدورات الكلاسيكية التي تعكس معضلة الحدود الشهيرة: مع تقدم المستوطنة إلى أراض جديدة، تثور مقاومة محلية يتم تهدئتها دورياً عبر اتفاقات سلام، فتسود فترات من الاستقرار التي تجذب المزيد من الاستيطان، الذي يُولّد حينها نزاعاً جديداً واتفاقاً جديداً، في دورة تُسفر عن انحسار مستمر لحدود السيادة المحلية. وفيما قاعدة الأرض المحلية المتقلصة تزيد التفاوت في القوة، تتقلص في خاتمة المطاف الأرض المحلية لتصبح مناطق حكم ذاتي محاصرة ضمن أراض أوسع تُسيطر دولة الاستيطان عليها كلياً. والمثل البارز هنا هو نظام المحميات للسكان الأصليين الأميركيين، الذي تشكل في أواخر القرن التاسع عشر، (حيث تم تحويل الشعوب المحلية الأميركية من عناصر خارجية إلى "أمم محلية تابعة" لأهداف تتعلق بـ"القانون الفدرالي"). النمط نفسه تكرر في الهزيمة التدريجية للشعوب الأفريقية السوداء التي توّجت في تقييد الدولة لملكية الأرض الافريقية السوداء في إطار "المناطق السوداء" في أوائل القرن العشرين، وهي جغرافيا سيقوم حكم الفصل العنصري بتشكيلها في نظام "الأوطان" السوداء.
 
وبالمثل، أقامت اتفاقات أوسلو مناطق للحكم الذاتي الفلسطيني في داخل جغرافيا كانت، وفق المظاهر كافة، تعزز بوصفها أرض سيادة إسرائيلية. ظاهرياً، نصت الجغرافيا التي تم تقسيمها لمصلحة طرف واحد في اتفاقات أوسلو إلى مناطق "أ"، و"ب"، و"ج"، على إعادة انتشار اسرائيلية على مرحل. لكن تبلورت خلال الأعوام الـ17 منذ توقيع الاتفاق الأول، المنطقة "أ" كأرخبيل من الجيوب داخل أراض تسيطر عليها إسرائيل بالكامل، حيث الحكم الذاتي الفلسطيني محصور في كانتونات مسورة بمناطق يهودية صافية. وفي رقعة فلسطين الجغرافية الصغيرة نسبياً، حيث لا تبعد المنازل اليهودية عن المنازل العربية سوى أمتار قليلة، لا تكفي المسافة لعزل المجتمع المحلي وحصره. ولذا، تطلب الأمر إقامة الأسوار، وحواجز الطرق، ومواقع الحدود العسكرية، ونظام طرق عامة مزدوجة، وجداراً سيئ السمعة لإبقاء السكان معزولين بشدة بعضهم عن بعض.
 
في هذا السياق، لا تُفهم المستوطنات جيداً إذا ما اعتبرت مجرد بُنى مدنية تدافع عنها بُنى أمنية، كما كان الحال في سياقات استيطانية أخرى، حيث كان الاستيطان في غالبيته عفوياً (وإن مدعوماً غالباً). عوض ذلك، وكما بيّنت خطة دروبلس، تم زرع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية زرعا إستراتيجيا لتنمو من مجرد مخافر أمامية لتصبح مرتكزات نظام كامل من الكنتنة (من كانتون). وللقيام بهذه الوظيفة، يصبح الطابع المدني ضروريا لأنه يضمن ألا يتمكن الفلسطينيون من اختراق المناطق اليهودية بدون استنفار الترسانة الدفاعية الكاملة، وكذلك استنهاض روح الدولة والمجتمع اليهوديين. بكلمات أخرى، المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، وعلى عكس نمط الاستعمار الاستيطاني في أماكن أخرى، ليست عملية عفوية تخلق ثانوياً معضلة حدودية، بل هي مشروع مصمم لخلق إطار معياري لإجراءات عسكرية وغيرها تعتبر ضرورية لضم إسرائيل الأراضي بصورة نهائية.
"السفير"

التعليقات