22/02/2012 - 10:45

"إعلان الدوحة" بين القانوني والسياسي../ علي جرادات

مِن فِرْطِ ما عاشته لسنوات من التباسات، بات طبيعيا أن لا يكون منتقَداً كما يجب كل ما تعانيه الحالة الفلسطينية من سياسات تحويل المبتدأ إلى خبر، وتقديم الذات على الموضوع، بعد أن صار هذا التحويل وذاك التقديم ثقافة لنظام سياسي سائد، يعكس أنواعاً وأنواعاً من المصالح الضيقة، ويتجلى في أشكالٍ وأشكال من تسيُّد الفئوي والشخصي على الوطني، ويتوسد ما لا يحصى من شعارات باذخة، يطلقها ناطقون معتمدون وغير معتمدين، (وما أكثرهم)، من هذا الطرف السياسي أو ذاك، من على شاشات فضائيات عربية، جلُّها، وأكثرها نفوذاً، خليجية، صار الخبر الفلسطيني، والمتعلق منه بجرائم الاحتلال تحديداً، آخر أخبارها، بل، ومع تعليقٍ لمستضافين إسرائيليين، رسميين وغير رسميين، تفادياً لتهمة الانحياز "الأعمى" لـ"قضية العرب الأولى"، قضية فلسطين، وكل ذلك تحت غطاء، (كلمة حق يراد منها باطل)، حق المواطن العربي في الاطلاع على كافة وجهات النظر

مِن فِرْطِ ما عاشته لسنوات من التباسات، بات طبيعيا أن لا يكون منتقَداً كما يجب كل ما تعانيه الحالة الفلسطينية من سياسات تحويل المبتدأ إلى خبر، وتقديم الذات على الموضوع، بعد أن صار هذا التحويل وذاك التقديم ثقافة لنظام سياسي سائد، يعكس أنواعاً وأنواعاً من المصالح الضيقة، ويتجلى في أشكالٍ وأشكال من تسيُّد الفئوي والشخصي على الوطني، ويتوسد ما لا يحصى من شعارات باذخة، يطلقها ناطقون معتمدون وغير معتمدين، (وما أكثرهم)، من هذا الطرف السياسي أو ذاك، من على شاشات فضائيات عربية، جلُّها، وأكثرها نفوذاً، خليجية، صار الخبر الفلسطيني، والمتعلق منه بجرائم الاحتلال تحديداً، آخر أخبارها، بل، ومع تعليقٍ لمستضافين إسرائيليين، رسميين وغير رسميين، تفادياً لتهمة الانحياز "الأعمى" لـ"قضية العرب الأولى"، قضية فلسطين، وكل ذلك تحت غطاء، (كلمة حق يراد منها باطل)، حق المواطن العربي في الاطلاع على كافة وجهات النظر.
 
 وبما يشي بتسيُّد ثقافة سياسة تحويل المبتدأ إلى خبر، وتقديم الذات على الموضوع، فإنه، وفور صدور "إعلان الدوحة"، هرب البعض من الجدل المطلوب حول المضمون السياسي لهذا الإعلان، ولم يجدوا حجة عليه سوى حجة عدم "قانونية" تولي الرئيس الفلسطيني لرئاسة حكومة "انتقالية" "تكنوقراطية"، يناط بها إعادة اعمار غزة، والإعداد لإجراء انتخابات "رئاسية" و"تشريعية" للسلطة الفلسطينية، وكأن المعضلة الداخلية الفلسطينية مجرد معضلة قانونية، وليست سياسية من ألفها إلى يائها، بل، وكأن هنالك معنىً للحديث عن الاحتكام للقانون، واعتماده أساساً لبناء المؤسسات الوطنية وشرعية تداول سلطتها سلمياً، بعد سنوات من ممارسات الاقتتال الداخلي عليها، بل، وحسمِ سلطتها السياسية بوسائل عسكرية، وبعد كل ما أفضت إليه هذه الممارسات من نتائج وطنية كارثية، أولها تمزيق القانون، وثانيها تقسيم المؤسسات الوطنية وسلطتها، بل، وتقسيم الوطن والشعب أيضاً، مع كل ما يعنيه ذلك من عقمِ توسُّدِ الجدل القانوني، على أهميته كمبدأ، سبيلاً للخلاص من هذه النتائج، التي يصعب معها حتى على الإمام مالك، (الذي "لا يفتى وهو في المدينة")، أن يجد فتوى قانونية للفكاك منها.                            
 
أجل، إنه من المُضحك المبكي أن تبلغ ممارسة سياسة تحويل المبتدأ إلى خبر وتقديم الذات على الموضوع، هذا الحد من "استهبال" الناس وتضليلهم، عبر إثارة زوبعة جدلٍ حول "قانونية" تولي الرئيس الفلسطيني لرئاسة الحكومة وفقاً لـ"إعلان الدوحة"، بينما يعلم مثيرو هذه الزوبعة قبل، وأكثر، من غيرهم، أنها، على الرغم من أهميتها كمبدأ، ليست أكثر من زوبعة في فنجان، يختبئ خلفها ما يختبئ من مصالح فئوية وشخصية ضيقة، تقفز بخفة النمر عن استحقاقات الخوض في الجدل المطلوب حول المضمون السياسي لـ"إعلان الدوحة"، يشكِّلُ تكليفهُ للرئيس الفلسطيني برئاسة حكومة "تكنوقراطية" "انتقالية"، "تخريجةً" سياسية ارتضاها، وتقاطع حولها، طرفان سياسيان، توافقا، رغم خلافهما واختلافهما، على مواصلة ممارسة سياسة الانتظار وتقطيع الوقت، تتطلبها، من وجهة نظرٍ مشتركة بينهما، وكل لأسبابه، ظروف سياسية فلسطينية ودولية وعربية وإقليمية محددة، أهمها وصول المفاوضات مع إسرائيل النظام، وليس الحكومات فقط، إلى طريقٍ مسدود، لم يعد ثمة خيار معها، سوى خيار الاتفاق أو التوافق على، بديل سياسي وطني لهذه المفاوضات، يحجم الطرفان، كما أحجما لسنوات، وكلٌ منهما لأسبابه، عن تقديم تصوراته الإستراتيجية لهذا الخيار المفروض، بل، وجاء متغير الحراك الشعبي العربي، (وفي مصر وسوريا تحديداً)، ليرفع درجات هذا الإحجام لدى كل منهما، (وكل لأسبابه أيضاً)، حدَّ التوافق عليه واتخاذه سياسة وطنية معتمدة، يصعب معها، رغم نعتها بالانتقالية، التنبؤ بكيف، ومتى، تنتهي، بعد أن جرى ربطها بالحسم المستقر والنهائي لنتائج هذا الحراك، الذي بات في غنىً عن الشرح تحوُّله، (صيرورة ومسيرة)، إلى عملية صراع معقدة ومركبة وشائكة وطويلة، تتداخل فيها فواعل سياسية داخلية وخارجية على نحو استثنائي، يعكس، ويعبِّر عن، ما للمنطقة العربية وغلافها الإقليمي، من أهمية إستراتيجية استثنائية في حسابات الدول العظمى للسيطرة على العالم، وأولها حسابات الولايات المتحدة، حليف إسرائيل الإستراتيجي الثابت، المشغول معها، ومع بقية حلفائه، ومنهم العرب، والخليجيين منهم بخاصة، في احتواء ما يواجهونه من تحولات سياسية دولية وإقليمية عاصفة وأزمة اقتصادية حادة، قادا، بتشابكهما، إلى تبلوُرِ ملامح أولية تشي بارتخاء قبضة تفرد الولايات المتحدة في السيطرة على العالم ونهب ثروات شعوبه، وأولها الشعوب العربية.   
 
 لكن، وبعد زوبعة الجدل حول "قانونية" تولي الرئيس الفلسطيني لرئاسة هذه الحكومة "الانتقالية" "التكنوقراطية"، جاء التوضيح بأن هذه الحكومة، إنما هي "حكومة تلتزم باتفاقات منظمة التحرير الفلسطينية"، كما أعلن الرئيس الفلسطيني باسم قيادة المنظمة، الطرف الأول في "إعلان الدوحة"، بينما ردَّ ناطقون باسم قيادة "حماس"، الطرف الثاني في هذا الإعلان، بل، إنها "حكومة بلا برنامج سياسي"، ما يثير أسئلة:
 
1: كيف تكون حكومة بلا برنامج سياسي، بينما يناط بها إجراء انتخابات "رئاسية" و"تشريعية" للسلطة الفلسطينية، يعلم الجميع أن إجراءها مرهون بموافقة إسرائيلية ذات اشتراطات وأهداف سياسية معلنة وصريحة وواضحة، خلاصتها وجوهرها، التزام أي حكومة للسلطة الفلسطينية بالتعاقد السياسي، (تعاقد أوسلو)، الذي نشأت بموجبه، مع كل ما يفرضه هذا التعاقد من التزامات سياسية واقتصادية وأمنية.
 
2: كيف تكون حكومة بلا برنامج سياسي، بينما يناط بها إعادة إعمار غزة، يعلم الجميع أنه أمر غير وارد من دون موافقة من دمرها، إسرائيل، ويهدد بتدميرها ثانية، ومن دون موافقة جهات تمويل هذا الإعمار، التي تتبنى الشروط السياسية الإسرائيلية له.
 
   كلا ليس ثمة منطق يمكن تصديقه في القول إن تكليف الرئيس الفلسطيني برئاسة هذه الحكومة جاء دون توافقِ طرفي "إعلان الدوحة"، وإن مؤقتاً، وكل طرف لأسبابه، على خيار سياسي، اسمه خيار سياسة الانتظار وتقطيع الوقت، التي تقضي بالتركيز على بند تشكيل الحكومة من بنود "اتفاق المصالحة"، مع إجراء تعديل على بند إجراء انتخابات لمجلس وطني جديد لمنظمة التحرير الفلسطينية، ليصبح إعادة تشكيله.
 
   قصارى القول، "إعلان الدوحة"، تخريجة سياسية، يحيل التوافق عليها، بين طرفين مختلفين، إلى تمسكِ كل منهما، (أحدهما بصراحة، وآخر بمداورة)، بما يملك من "سلطة" انتقالية منقسمة، انتهى عمرها الزمني في أيار 1999، وما زال سؤال ما العمل تجاهها معلقاً ينتظر إجابة إستراتيجية، لم يشأ كلا طرفي "إعلان الدوحة"، كل لأسبابه، تقديم تصوراته لها.                       

التعليقات