27/02/2012 - 12:02

بين "بسمة" و"موناليزا" و"وليد"../ د. عبد الله البياري

ولعل أكثر ما يؤكد، محاولات الدولة الممأسسة لنفي الفلسطيني رمزياً ومادياً من حيز المكان، بل ونفي الفلسطيني منه، هو رفض المحكمة الإسرائيلية في الناصرة طلباً مقدماً من الأسير وليد نمر دقة في الحصول على حقه في الإنجاب، و الأبوة، وبالذات أن وليد أمضى من سنين عمره الـ52 مايزيد عن الـ26 عاما في الأسر. وقد عللّت المحكمة رفضها لطلب وليد بأن الطفل حينها سيمثل "خطراً على أمن الدولة"، وهنا تكمن المفارقة، فقوة دولة الترسانة النووية، وجيشها الدفاعي، ومؤسساتها، وسماءها التي إختارت شعبها، تهاب من وليدٍ حلم، لم يأت بعد

بين
من منّا لم تستوقفه عبارات السيدة بسمة قضماني، عضو المجلس الوطني السوري في حديث لها تناول -فيما تناول- فلسطين وإسرائيل في سياق إنساني يتدثر بالأمومة و البنوة، في لقاء متلفز جمعها مع بعض الكتاب المدافعين عن "واحة الديموقراطية" في المنطقة. حيث تصف رغبة الطفل الإسرائيلي في أن يحادث "ابنها" عن السلام، وحاجتنا –كعرب- إلى "هدم الجدران"(عنوان كتابها) عن طريق "الثقافة اللاقرآنية"، تلك الجدران التي تعتبر مرآة للغيتو، والتي ترى قضماني أنها تمنعنا عن مقاربة حتميات لابد منها، كـ"وجود دولة إسرائيل في المنطقة".
 
ولعل التعامل مع ذلك الخطاب، وكأنه غير مرتبط بسياق يعطيه حيزه الوجودي كنموذج للخطاب النيوليبرالي المعولم، و القائم على تذرير القيمة الإنسانية تحت نفس المسمى: القيمة، ولا قيمة أعلى من الأمومة و البنوة والطفولة، وبالذات في بلادنا التي عانت وتعاني من إرث من الطغيان و القهر والاستبداد، تبدو معه تلك "الواحة" جنةً، لا يجب أن تخفى عن أهداف الثورات وسياسات مجالسها الوطنية.
 
إلا أن منطق قضماني، لا نراه بعيداً عن رؤية عميد المستشرقين الجدد برنارد لويس بشأن الحراك الثوري العربي في مقالة له في "جيروزاليم بوست" (25 شباط 2011)، يعزو فيه الحراك العربي إلى الظلم الواقع على المواطن، ويضيف عليه عاملين آخرين: الأول انتشار وسائط الاتصالات والإعلام، و اللذين أديا إلى نمو الوعي بحجم الفارق بين الأوضاع "العربية" وأوضاع سائر العالم، والعنصر الثاني هو "الكبت الجنسي"، لتصبح حينها "الشعب يريد إسقاط النظام" عبارة أريد بها، فقط، الزواج للشباب العربي الثائر، وكبح جماح ذلك الـ"كبت الجنسي"، وبالذات إذا كان الأمر سينتهي بهذا الحراك إلى بيت يعي أطفاله الحاجة الإسرائيلية الطفولية "للسلام"، ولا يرى لويس أن الديموقراطية حاجة مهمة الآن وبالذات أن العرب "ليسوا جاهزين بعد لانتخابات نزيهة" (برنارد لويس وليس عمر سليمان!!!)، وأن انتحار البوعزيزي لم يكن إلا لأسباب "بيروقراطية".
 
وعلى هذا المنوال في الخطاب السياسي إعلامياً، هذا الجذر المادي في تناول "المواطن العربي"، جاء تقرير تلفزيوني آخر على محطة عربية (إم بي سي) منذ ما يزيد عن الشهر و نصف الشهر، بعنوان: "أول فلسطينية تخدم في الجيش الإسرائيلي"، كانت "موناليزا عبده"، التي قدمها التقرير باعتبارها من "عرب إسرائيل".
 
التقرير لا تتعدى مدته الدقيقتين، إلا أن ريحاً استشراقية تفوح من حروفه، بداية من توصيف الفلسطينيين بأنهم "عرب إسرائيل" وهي متلازمة لم يسلم منها خطابنا العربي في أغلبه، وصولا إلى وصف جيش إسرائيل أنه جيش "نظامي" وليس فقط "دفاعيا"(!!!)، مهمته كأي جيش "نظامي" في العالم حماية حدود "واحته" من المتسللين من الصحراء القاحلة المحيطة به والمخدرات، لا بأنه جيش عصابي منظم لم يترك قاعدة أخلاقية ولا قانونية ولا حقوقية، إلا وكسرها، ولا جريمة إلا وغرتكبها، ومنطق "العدو" لديه لا يعي الفارق بين الطفل و المقاتل.
 
هو جيش تلك "الواحة" التي يعد كل مواطنوها جنود إحتياط، سواءا بالمنطق العسكري أو المدني (جيش المستوطنين بحماية مؤسسات الدولة)، ولكن يغفل التقرير طبعا مقاومة الفلسطينيين لمحاولات تذويت هويتهم الوطنية واللغوية وحتى المكانية في الدولة، بأن قدم "موناليزا عبده" على أنها الشاذ من القاعدة، العائد إلى حظيرة منطق القاعدة، وكأن التقرير يعلن بداية عودة الخارجين عن نظامية الدولة ومؤسساتها وجيشها، لحضن "دولتهم"، فيستحقون حينها كموناليزا أن يكونوا "محاربين"، بكل ما تحمله الكلمة من استيهامات وشحنات استشراقية، تستظل بظل لغة "صراع الحضارات"، وكان من الطبيعي أيضاً، أن تكون "موناليزا" أقدر على تخطي ما أسمته بسمة قضماني في حوارها "الثقافة القرآنية"، فغدت أقرب لنظامية الدولة منها لـ"عرب إسرائيل"، خاصة وأن الدولة الإسرائيلية لا "تجبرها على الخدمة في الجيش"، بل هي التي التحقت بإرادتها حسماً لإشكالية هوياتية يضطهدها "الجميع" بسببها(!!!) متعللين بأن الجيش الإسرائيلي هو جيش "احتلال" وليس جيش "دفاع"، أو هكذا يقولون".
 
إن البنية الاستشراقية في خطاب "قضماني" وتقرير "موناليزا عبده" لا وظيفة له إلا التستر على النقطة المقتل في البنية الكولونيالية في الدولة الإسرائيلية. نقرأ مثلاً من الموسوعة الكولونيالية الغربية: "الجنس مركز الهشاشة في قلب الكولونيالية، فهو يزعزع تصنيفات العرق، والطبقة، والتراتبية التي يؤسس عليها المستوطنون الهوية الفردية و الحقوق و الواجبات".
 
لذا كانت عملية إنشاء الحدود وحمايتها الهاجس الأول للدولة الإسرائيلية التي "نحتاج إليها" بحسب قضماني، ومن هنا يمكن تفسير الكثير من الإجراءات التي تقوم على أساسها الدولة الإسرائيلية، فالطرق الالتفافية الخاصة بالمستوطنين في الضفة الغربية، والجدار العازل، وإغلاق المناطق المحتلة في الأعياد اليهودية، وهدم البيوت وترحيل الفلسطينيين، والسجن الإداري، وسجن المراهقين، ومنعهم عن مدارسهم، لا باعتبار ذلك ممارسات أمنية، بل هي ممارسات مادية ورمزية تقوم على الاقصاء والنفي، إذ تخلق حدوداً فاصلة بين الجماعة اليهودية المهيمنة و الفلسطينيين لحمايتها، وضمان "طهارة" "الفضاء العام" للجماعة المهيمنة، والتعبير عنها مكانيا، فالهوية الاجتماعية تنشأ في سياق الانتماء لجماعة معينة، ويزداد ميل الأفراد المنتمين لتلك الجماعة في سياق هيمنتهم للحط من قيمة الجامعات الأخرى، عن طريق توظيف بنى وصور نمطية تشرح الآخر، وهي بنى استشراقية في حالتنا هنا، وذلك كوسيلة لتحقيق التماهي وتعزيز الاحساس بالانتماء للمجموعة، وغالبا ما تنتج ديناميات نفسية واجتماعية تتحول إلى رهانات حقيقية كلما أصبح قانون الجماعة المهيمنة هو المرجع والحكم في الفضاء الجامع، وبرعاية الدولة ومؤسساتها.
 
لذا يبدو أن "قضماني" و "موناليزا"، وهنَّ يحررنَّ أنفسهنَّ بالاستعارات، لم يفكرنَّ في غيرهنَّ ممن فقدوا حقهم في أن "يكونوا" (بحسب منطق الشاعر م.درويش)، ولم يتوقفنَّ كثيراً أمام شواهد إسرائيلية تعري ادعاء إسرائيل أنها دولة وجدت لتخلص يهود أوروبا من تبعات الفاشية و النازية، فأصبحت تماهيا. فالعريضة التي وقع عليها مجموعة من الحاخامين اليهود، و التي تطالب بعدم بيع أو تأجير بيوت اليهود للعرب، وأيضاً تلك العريضة التي قامت بضع حاخامات (سيدات زوجات حاخامين) بإصدار نداء يدعو الفتيات اليهوديات إلى الامتناع عن إقامة أي علاقة بالشبّان العرب، في تحقيق لجملة استير فوكس "حدود الأمة منقوضة على أجساد النساء"، تلك العريضة التي صاحبها مظاهرات، وظهور ملصقات على الحوائط في مدينة بيت لحم كُتب عليها: "لن أسمح لهم بمغازلة أختي، ماذا ستفعل أنتَ لو غازل عربي أختك؟"، فأصبحت تلك العرائض تماهيا مع قوانين نقاء العرق، وقوانين حظر العلاقات الجنسية بين البيض والملونين في زمن نظام الابارتايد في جنوب أفريقيا.
 
ولعل أكثر ما يؤكد، محاولات الدولة الممأسسة لنفي الفلسطيني رمزياً ومادياً من حيز المكان، بل ونفي الفلسطيني منه، هو رفض المحكمة الإسرائيلية في الناصرة طلباً مقدماً من الأسير وليد نمر دقة في الحصول على حقه في الإنجاب، و الأبوة، وبالذات أن وليد أمضى من سنين عمره الـ52 مايزيد عن الـ26 عاما في الأسر. وقد عللّت المحكمة رفضها لطلب وليد بأن الطفل حينها سيمثل "خطراً على أمن الدولة"، وهنا تكمن المفارقة، فقوة دولة الترسانة النووية، وجيشها الدفاعي، ومؤسساتها، وسماءها التي إختارت شعبها، تهاب من وليدٍ حلم، لم يأت بعد.
 
ملاحظة: لعل الحراك الثوري السوري الخارجي في أمّس الحاجة، لتطهير خطابه السياسي من وجوه ورموز لا تملك الحسم اللازم لقضية حيوية وهامة بالنسبة للجسد السوري والعربي الثوري ككل، ألا وهو القضية الفلسطينية، بعيدا عن نبض الشارع السوري الحاسم في علاقته مع فلسطين والجولان المحتليّن.

التعليقات