06/03/2012 - 11:34

رسالة مفتوحة إلى الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي../ د. مخلص الصيادي*

لقد كان مفجعا لي أن أسمع ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي في هذه الخطبة بشأن جريمة الانفصال التي أسفرت على فصم عرى الوحدة بين مصر وسوريا، وأجهضت أول وحدة عربية معاصرة ولدت من خلالها "الجمهورية العربية المتحدة". وحدة تجاوزت على حدود "سايكس ـ بيكو"، وخالفت طموحات ورؤى القوى الغربية للمنطقة، لذلك حوربت من لحظة ولادتها دون هوادة حتى تم تحقيق الانفصال

رسالة مفتوحة إلى الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي../ د. مخلص الصيادي*
أن تضع نفسك في هذا الموضعي حزنني
 
علمتني التجارب أن الناس علماءهم، ومفكريهم، وعامتهم، لا يلتقون على رأي واحد، وأن الخلاف في رؤية الوقائع من طبائع الأمور وسنن الحياة، بل وأن الصراع حول هذه الرؤى من تلك الطبائع والسنن، لذلك ما كان يؤلمني أن أرى المخالفين بالرأي وقد اشتط بهم الأمر لأبعد ما يحتمله الخلاف وقائعَ وأدبا، لكني كنت أشعر بالغبطة والتقدير الشديدين كلما رأيت ذا رأي وقد عرض رأيه على قواعد من الإنصاف، ومن احترام فكر وعقل المستمع، وكنت أشعر بالرثاء حينما أواجه عكس ذلك، لكن الغبطة والرثاء على السواء من حدود فهم ذاك الموقف قبولا أو رفضا.
 
من أمثلة ذلك :
 
** أنني كنت سعيدا حينما سمعت الدكتور "محمد سليم العوا" وهو يتحدث في ندوة دعي إليها في البحرين بمناسبة ثورة يوليو، وكان من محاور ما ذكره، أن الخلاف بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمون، الذي تفجر بُعيد الثورة، واستمر كذلك، لم يكن خلافا على الكفر والإيمان، وأن أحدا من الطرفين لم يرم الآخر بمثل هذه التهمة، وإنما الخلاف كان على السلطة، وعلى برامج في الحكم والتغيير متباينة حملها الطرفان، واصطرعوا حولها، ولم تكن سعادتي نابعة من أن رجلا يُعرف ويُحسب على التيار التاريخي للإخوان المسلمين اقترب من فهم طبيعة الصراع بين عبد الناصر وثورته من جهة وبين الإخوان المسلمين من جهة أخرى، وإنما سعادتي الحقيقية أن الرجل الذي أحببت دائما أن استمع لمحاضراته، ومساهماته، وفكره، وأن أتابعه، قدم لي دليلا إضافيا على امتلاكه الرؤية الصحيحة في فهم طبائع الأشياء على حقيقتها، وعند هذا الحد ما عاد مهما عندي ما قاله مدحا أو ذما لقائد ثورة يوليو وللثورة وما أنجزت، فذلك أمر آخر.
 
** ولقد كنت سعيدا وأنا أشاهد الدكتور يوسف القرضاوي مشاركا في المؤتمر القومي الإسلامي في دورته الأولى التي عقدت في بيروت في العام 1994، وكان ممن وافق على الوثائق الفكرية والسياسية التي نتجت عن المؤتمر، بعد أن قدم ممثلو التيارين الإسلامي والقومي رؤية كل تيار  لحال الأمة ومستقبلها، وقد حملت الورقة التي قدمت باسم التيار السياسي الإسلامي توقيعه، وكانت ورقة بالغة الوضوح في العرض، والتقدم في المضمون، وتضمنت نقاطا ستاً صارت من معالم المشروع الحضاري للأمة التي يتطلع إليه التياران.
 
وكنت قبل هذا المؤتمرـ ومن بعده ـ من المتابعين لما يكتب ويفتي ويصرح، وكان في العموم يقع في القلب موقعا إيجابيا، لأنه يكشف عن عالِم يحاول أن يرى العصر ومشاكله برؤية إسلامية متزنة، وأنا أعلم أن له موقفا شديد السلبية من جمال عبد الناصر وثورته وتجربته، وما كان ذلك مانعا من هذه المتابعة لحركة الشيخ وإنتاجه، ومن الإعجاب بهذا الإنتاج، فالقضية عندي ليست أن يوافق أو يعارض ما أعتقده، بل أن يملك إمكانية لإضافة ايجابية في حياة عربية بائسة، استمرت  وما تزال ـ من وجهة نظري ـ منذ أن هزمت ثورة عبد الناصر بانقلاب الرئيس المصري السابق أنور السادات، وانتقاله إلى الحاضنة الأمريكية الإسرائيلية.
 
وكان موقف الشيخ من استقدام القوات الأمريكية إلى المنطقة بدعوى مواجهة احتلال العراق للكويت من المواقف التي زادت من رصيد هذا الرجل في عقلي وقلبي، فالاستعانة بالعدو الخارجي الواضح العداء لا يبره شيء، ولا يستقيم معه شيء، ومواجهة القوى التي استدعت هذا العدو الخارجي، وهي قوى شديدة التأثير على من بمثل وضع ومكانة الشيخ القرضاوي يحتاج إلى شجاعة وقوة الفكر، وشجاعة وقوة الرأي والعزيمة، وقد كان.
 
** وكنت سعيدا وأنا أسمع مؤخرا عن فتواه بحرمة زيارة المسجد الأقصى المبارك ما دام تحت الاحتلال، ولم يكن في موقفه هذا يعبر عن رؤية دينية أو سياسية فحسب، وإنما يكشف عن وعي سياسي معياري، يميط اللثام عن زيف الدعوات، ويفرق بين العسل والسم، وهو ما حاولت أن تفعله السلطة الفلسطينية حينما ادعت أن زيارة المسلمين والعرب للمسجد الأقصى فيه دعم للفلسطينيين والقضية الفلسطينية ومساهمة في الحفاظ على هذا المسجد، في حين أنه سبيل من أخطر سبل التطبيع مع الكيان الصهيوني ومع الاحتلال، واستخدام ممقوت للدين وللمقدسات في دهاليز سلام الشرق الأوسط وما تجري فيه من مفاوضات.
 
** وكنت حزينا وأنا اسمع ـ إن صح ما سمعت ـ أن مرشد الإخوان المسلمين في مصر محمد بديع يكفر جمال عبد الناصر، ويعلل ذلك بقضايا منها أنه أتى بالاشتراكية. وما كان منبع حزني أن الرجل نعت من أعتبره أعظم قائد عربي في العصر الحديث، وممثل أهم وأشمل ثورة عربية معاصرة بهذه النعوت، أبدا لم يكن هذا منبع حزني، فقد كفاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هذه المواقف، وكفى غيري أيضا، وذلك حينما حدد أن من رمى مسلما بالكفر فقد أصاب الحكم أحدهما، يقول صلى الله عليه وسلم : أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه. وقال صلى الله عليه وسلم:"من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلكإلا حار عليه. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً، فإن كان كافراً، وإلا كان هو الكافر".
 
لقد كان منبع حزني أن ما لحظته ولحظه غيري من تقدم في فكر رجالات من الإخوان المسلمين لم يصل بعد إلى قيادة هذا التنظيم، وأن قدرة هذا التنظيم على المساهمة مساهمة فاعلة في صناعة مستقبل هذه الأمة، وهي صناعة تستوجب اجتماع تياري الأمة الرئيسيين " القومي والإسلامي"،  وفق ما جاء في بيان المؤتمر القومي الإسلامي ووثائقه، ما زالت دونه الكثير من العقبات، عقبات الفكر، وعقبات التاريخ، ويُخشى أن تكون أيضا عقبات الإخلاص.
 
** وكنت حزينا وأن أسمع فتوى القرضاوي والإتحاد العالمي لعلماء المسلمين،  وهو يجيز الاستعانة بالناتو للتخلص من نظام الزعيم "المتأله المستبد والفاسد" معمر القذافي، ويقدم التبريرات لذلك، ثم وهو يجيز للثوار في سوريا أن يأخذوا الطريق ذاته، إن مثل هذه الفتوى لا يبررها الظلم والقتل والجرائم التي يرتكبها هذا الحاكم أو ذاك، ولا نعرف واقعة في تاريخنا أجاز فيها العلماء المعتبرين مثل هذا الموقف، وإذا كان جائزا استدعاء الناتو لإزاحة حاكم مستبد طاغية فاسد، فلم أنكر الشيخ ذلك على المملكة العربية السعودية التي فتحت الجزيرة العربية لقوات الغزو الأمريكية وغير الأمريكية لتتخلص من نظام صدام حسين، لقد كان موقف المملكة العربية السعودية إزاء استدعاء القوات الأجنبية بشأن العراق وبشأن ليبيا، وبشأن سوريا ـ وهو موقف أعارضه بشدة وأدينه ـ أكثر تماسكا، وأقوى حجة، ويملك مرجعية افتقدتها هذه الفتاوى المضطربة، الصادرة عن الشيخ القرضاوي والهيئة التي يعمل من خلالها.
 
كل ذلك، الذي أسعدني والذي أحزنني، لم يكن يشكل دافعا لي لكتابة هذه الرسالة، فالأمر على وجهيه ـ ورغم كونه أمرا خطيرا ـ لا يعدو عندي أن يكون وجهات نظر، رؤى، نصادمها ونتقاتل حولها، أو نلتقي عليها، ومن حق أصحاب هذه الآراء أن نعاملهم على ظاهر الأمر، أي أن نفترض حسن النية والطوية، رغم موقفنا الحاسم ضد هذا الرأي، ومناصرتنا القوية لذلك الرأي.
 
ما دفعني لكتابة هذه الرسالة المفتوحة للشيخ القرضاوي أمر لا صلة له بالرأي، ولا صلة له باختلاف وجهات النظر إزاء أحداث بعينها، أو وقائع بذاتها، أو معارك وصراعات محددة، وإنما الذي دفعني إلى كتابة هذه الرسالة أني رأيت الشيخ قد وقف في مكان لا يجوز له أن يقف فيه:
 
** لا يجوز له أو لغيره أن يقف فيه لأنه يخرج صاحبه من ميادين الخلاف في الرأي، إلى ساحات الافتراء المظلمة الذي لم يرضه الله لأحد من عباده المؤمنين.
** ولا يجوز له على وجه التحديد أن يقف فيه لأن الله أعطاه سمة العلماء، وتفضل عليه بالكثير من العلم والمكانة والقبول، ولكل عند الله حساب يكافئ ما منحه من نعم.
** ولا يجوز له أو لغيره أن يقف فيه إذا كان موقع الوقوف هو منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متخذا خطبة الجمعة سبيلا لقول هذا الذي قال.
 
لقد نقل لي صديق أن الشيخ القرضاوي تحدث في خطبة الجمعة الماضية 2 / 3 / 2012 لزمن قصير عن سوريا، والثورة الشعبية فيها، وما يحدث في قلب العروبة النابض من مجازر، وما يسيل فيها من دماء، على يد نظام مستبد فاسد غاشم، ثم عاد في هذه الخطبة إلى مشوار الشعب السوري مع مقاومة الاستبداد، فإذا به يقول إن الشعب السوري الذي سلم سوريا إلى جمال عبد الناصر ليصنع الوحدة انتفض عليه، وأسقط استبداده، بثورته التي قام بها في 28 سبتمبر أيلول 1961، فاسترد بذلك حريته.
 
ورغم أن الناقل صديق صدوق، إلا أن مكانة الشيخ في قلبي، جعلتني أتشكك في صحة السمع، وبالتالي دقة النقل، لأن في هذا القول افتراء على الشعب السوري، وافتراء على التاريخ السوري، واستهانة بأرواح شهداء رووا تراب سوريا دفاعا عن الوحدة، وفيه إسباغ صفات على مجموعة من الخونة لا يجوز لأحد أن يبرر فعلتهم.
فاستعدت الخطبة على الشبكة العنكبوتية لأسمعها بهدوء، فإذا فيها ما قال صديقي وزيادة.
 
لقد كان مفجعا لي أن أسمع ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي في هذه الخطبة بشأن جريمة الانفصال التي أسفرت على فصم عرى الوحدة بين مصر وسوريا، وأجهضت أول وحدة عربية معاصرة ولدت من خلالها "الجمهورية العربية المتحدة". وحدة تجاوزت على حدود "سايكس ـ بيكو"، وخالفت طموحات ورؤى القوى الغربية للمنطقة، لذلك حوربت من لحظة ولادتها دون هوادة حتى تم تحقيق الانفصال.
 
في خطبته على منبر لا يجوز أن يقال عليه إلا الصدق، وصف جمال عبد الناصر بما أحب من أوصاف، هو حر في ذلك ـ وإن كنت أتمنى أن لا يفعل ذلك في المسجد وعلى المنبر فذلك استغلال غير محمود ـ  نخالفه ونصارعه على هذا الموقف، لكن بالنهاية هذا موقفه، وهذا رأيه.
يسوؤنا هذا الرأي لأنه يمثل انتكاسة لكل ما اعتقدنا أنه تحقق في دورات "المؤتمر القومي الإسلامي"، ويسوؤنا أن مثل هذا الرأي يهدم الكثير من عوامل القوة في الأمة التي يبنيها لقاء الحركة الوحدوية العربية مع تيار الإسلام السياسي، لكن في نهاية الأمر هذا رأيه، نعيد على أساسه تقييمنا له، ولطبيعة الفكر السياسي والاجتماع والقومي الذي يحمله.
 
لكن ما لا يمكن المسامحة فيه، ولا التغاضي عنه، وما لا يجوز تسميته إلا في نطاق الافتراء على الأمة هو قوله في هذه الخطبة: إن الشعب السوري انتفض ضد الوحدة وفصم بإرادته الحرة عروتها.
إنه افتراء على شعب بأكمله، على تاريخه، على شهدائه، على الوقائع التي لا يستطيع أن ينكرها عاقل.
 
نحن لا نتحدث هنا عن أسباب فصم الوحدة:
** هل هي جريمة بيتت بظلام، وقبض ثمنها في عواصم عربية وغربية.
** أم هي نتيجة طبيعية لأخطاء مرت بها دولة الوحدة.
** أم نتيجة طبيعة نظام الحكم وما كان يعتريه.
** أم أن ما حدث نتاج ذلك كله.
 
كل هذا ليس مجال حديث هنا، لأن هذا كله آراء وأحكام قيمة، نقبل الخلاف فيها، رغم أن الوقائع والوثائق والأسماء والاعترافات التي جرت في أجواء حوارات الوحدة الثلاثية، أو في محاضر لقاءات عبد الناصر مع الضباط السوريين الذين ذهبوا إليه يريدون إعادة الوحدة، تؤكد بما لا يدع مجالا للشكك أن ما تم مؤامرة، مدفوعة الثمن، لكن ذلك كله ليس مربط الفرس.
 
إن الحقيقة المجردة التي لا تحتمل تأويلا، ولا تقبل إلا قولا واحدا، تتمثل في أمرين اثنين:
 
** الأول: أن الانفصال قامت به قوة عسكرية في انقلاب نفذته بالقوة، أي أنه عمل عسكري وليس شعبي، وأنه نفذ بالقوة وليس بالإرادة الشعبية، مع العلم أن الوحدة نفذت وقررت بالإرادة الشعبية التي لا تشوبها شائبة.
 
الثاني: أن الشعب السوري ومنذ اللحظة الأولى وقف يقاوم الانفصال، المدارس، الجامعات، المعامل، قطعات الجيش، الريف، المدينة، وعلى مدى سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام هي عمر نظام الانفصال الرجعي، لم تكن هناك دراسة حقيقية في المدارس لكثرة الإضرابات والمظاهرات، لم يكن هناك دوام حقيقي في المعامل، شهدت سوريا عدة محاولات تمرد عسكرية استهدفت إسقاط هذا الانفصال ـ وكان وراء إجهاض هذه المحاولات جماعة البعث وتكتلاته في الجيش ـ، استخدمت الدبابات والمدرعات في محاولة السيطرة على حركة الشارع السوري التي غطت كل المدن والأرياف حتى القامشلي ـ أبعد نقطة عن دمشق في الجغرافيا السورية ـ شهدت تظاهرات احتجاج منذ اليوم الأول، سقط الشهداء منذ يوم 28 ايلول 1961، وبسبب سقوط الشهداء عرفت ساحة رئيسية بحي الكلاسة في مدينة حلب باسم ساحة الأحرار، لم تستقر وزارة في سوريا خلال هذه المرحلة حيث شكلت وأعيد تشكيلها المرة تلو الأخرى وتعاقب على الوزارة في سوريا ثلاثة رؤساء وزارة "مأمون الكزبري، بشير العظمة، خالد العظم"، أكثر من مرة حاول رئيس الجمهورية ناظم القدسي التخلي عن وظيفته، والخروج من البلاد، أُبعد تدريجيا عدد من كبار الضباط الذي قادوا الانفصال.... حتى الحزب الشيوعي الذي وقف ضد الوحدة بشدة اعترف بأنه كان يقف ضد إرادة الشعب السوري، وسطر هذا الاعتراف في وثائق المؤتمر الثالث للحزب الذي عقد مطلع السبعينيات. الخ
 
إن كل ما ذكرناه في هذا المجال، كل هذا التوصيف، لا يحمل أي حكم لصالح جمال عبد الناصر أو ضده، وإنما الحكم هنا على الموقف الشعبي، هل كان حين وقع الانفصال مع الوحدة أو ضدها!.
 
نحن نعلم يقينا أن الشيوعيين والبعثيين والرأسمالية المتضررة من التغييرات الاجتماعية في عهد الوحدة كانوا أو أصبحوا ضدها، لكن هل صحيح أن موقف الناس، موقف الشعب، موقف الطلاب والعمال الفلاحين، موقف المثقفين بعمومهم، كان ضد الوحدة وأنهم هم الذين فصموا عراها، وتخلصوا بذلك من حكم جمال عبد الناصر، أم أن هذا الشعب ـ الذي وجه إليه القرضاوي التحية والإكبار في خطبته ـ قام على فوره يواجه الانفصال والانفصاليين ويقدم الشهداء في سبيل إعادة الوحدة.؟!
 
الأمر هنا لا يحتمل التأويل، ولا يحتمل ضعف النظر، ولا قلة المعلومات، أو انحراف المصادر، لقد مضى على هذه الجريمة المفجعة أكثر من خمسين عاما، ما عاد فيها شيء مستور.
 
هل يعلم القرضاوي أن التقسيم الوحيد الذي ساد الساحة السورية بعد يوم 28 ايلول/سبتمبر المشئوم، وكان لا يغيب عن نظر وسمع أي سوري أو متابع هو بين انفصالي ووحدوي، لم يكن هناك تقسيم بين تقدمي ورجعي، ولا بين إسلامي وعلماني، وإنما الفرز الوحيد صار بين انفصالي ووحدوي، وقد دخل هذا التقسيم عميقا في جسد القوى السياسية السورية:
 
** وجوه شيوعية انحازت إلى الوحدة.
** وجوه من الإخوان المسلمون انحازت إلى الوحدة.
** وجوه من البعثيين انحازت إلى الوحدة.
 
لقد صار الانقسام الوحيد المعتبر الانقسام حول الوحدة والموقف منها: وحدويون أم انفصاليون.
الوحدوي هو التقدمي وهو الإسلامي وهو الحضاري وهو الشعبي وهو الديمقراطي وهو الصادق وهو الأخلاقي.... الخ
والانفصالي هو عكس ذلك كله.
هذه هي الحقيقة الساطعة التي لا تقبل اللبس، ومن غير المقبول افتراض أن الشيخ القرضاوي لا يعلم هذه الحقائق التي لم تخف على أحد، وافتراض غياب هذه الحقيقة عن علمه افتراض فيه استخفاف، وفيه خشية من قول الحق، وتهرب من تحمل مسؤولية ذلك القول.  
فلماذا قال الشيخ القرضاوي ما قاله؟!
 
** هل ما قاله بشأن الانفصال جاء تبريرا لرفع علم ما قبل الوحدة خلال الثورة السورية الراهنة، فأراد أن يقدم دعما لهذا الموقف؟!.
** هل ما قاله استهدف إعادة صياغة تاريخ الإخوان المسلمين في سوريا من الوحدة والذي يحمل البصمة الواضحة لمراقبها العام الشيخ الدكتور مصطفى السباعي الذي وافق على حل تنظيم "الأخوان المسلمون" في سوريا انسجاما مع طلب عبد الناصر في ضرورة حل الأحزاب لإقامة الوحدة،  وبقي رئيس تحرير لمجلة "حضارة الإسلام" طوال عهد الوحدة، ونال جائزة تشجيعية من جمال عبد الناصر على كتابه " اشتراكية الاسلام.
 
** هل ما قاله جاء في إطار الإحساس بأن الثورات العربية الراهنة سُلمت لحركة الإخوان المسلمين، وأنها بصدد الثأر من معارك سابقة هزمت فيها، وهذا إحساس مخادع، لأن التحدي الحقيقي المشروع ليس الثأر مما كان، وإنما مواجهة المهام الحقيقية التي تفجرت هذه الثورات لأجلها.
** هل قاله جاء دعما لقوى انفصالية تريد أن تعيد صياغة التاريخ السوري باعتبار ما تم منذ الوحدة وحتى اليوم انحرافاً وخطأ في حركة التاريخ، مع العلم أن هذه الرؤية هي رؤية أعلن عنها غلاة اليمين الأمريكي المتمركزين في كتلة وزير الدفاع السابق دولاند رامسفيلد وأركانه وقد عرضوها في أكثر من بحث وأكثر من تصريح.؟!.
 
إن ما قاله الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي افتراء لا يقبل التأويل، افتراء لا نقبله له لما له في قلبنا وعقلنا، ولا نقبله منه لما نعلم ما عنده من علم، ولا نستطيع السكوت عليه، لأن الأمر يتصل بشعب وليس بأشخاص، وبوقائع وليس بآراء، كذلك لا نستطيع السكوت عليه، لأن السكوت عليه يفرض علينا أخلاقيا أن نسكت عن خطايا لعلماء في سوريا مشهود لهم بعلمهم، ـ وقد لا يقلون علما عن الشيخ القرضاوي ـ لكنهم وضعوا هذا العلم في غير موضعه، واستثمروه في ربا لا يرضى عنه الله ولا رسوله ولا صالح المؤمنين.
 
أتمنى من كل قلبي أن يعود الشيخ عما قال، لنكره النفس على اعتبار ذلك زلة لسان، أو خطأ في مصدر المعلومات، أو مشورة من بطانة غير صادقة.
 
أتمنى ذلك من كل قلبي  فما ينتظر الأمة من مهام أسمى كثيرا، وأخطر كثيرا، وأهم كثيرا من أن تضيع الأمة قواها في غير الطريق الجامع الذي يحفظ لها وحدتها، ويمكنها من رص الصفوف لمواجهة أعدائها الحقيقيين والتاريخيين الذين ترتفع راياتهم من واشنطن إلى تل أبيب، مرورا بالكثير من العواصم العربية، وكذلك لمواجهة الفقر والاستبداد والتمييز الذي طبع حياة المجتمع العربي على مدى أكثر من خمسين عاما، والذي كان واحدا من أهم دوافع هذه الثورات العربية.

التعليقات