07/03/2012 - 12:14

التنظيم الفلسطيني بين "التعظيم" و"التقزيم"../ علي جرادات

رغم مدادة تجربته وغنى دروسها، يعيد التنظيم السياسي الفلسطيني (بشقيه الوطني والفصائلي)، الوقوع في أوجهِ تيهٍ، لازمه، برنامجاً وممارسة، في محطة ما بعد "النكبة"، التي أفضت إلى قطعِ سياق هذا التنظيم، وغيابه عن التصدي للشق الوطني من المجابهة المباشرة والمفروضة، سواء لجهة التخلف عن توتير قوس الفعل النضالي الميداني واستنهاضه، وحفز الجاري منه، وقيادته، وتوجيهه، ورفْعِهِ إلى أعلى مستوىً ممكن من السعة والتواصل والترابط، أو لجهة التخلف عن رفعِ سقفِ جناحٍ قومي نهض للمواجهة، ومساندته في كشفِ طابق أجنحة قومية أخرى، بشقيها المتقاعس والمتواطئ، ووضعها أمام مسؤولياتها، أو لجهة التخلف عن تحريض الشعوب العربية واستنهاض طاقاتها الهائلة

التنظيم الفلسطيني بين
رغم مدادة تجربته وغنى دروسها، يعيد التنظيم السياسي الفلسطيني (بشقيه الوطني والفصائلي)، الوقوع في أوجهِ تيهٍ، لازمه، برنامجاً وممارسة، في محطة ما بعد "النكبة"، التي أفضت إلى قطعِ سياق هذا التنظيم، وغيابه عن التصدي للشق الوطني من المجابهة المباشرة والمفروضة، سواء لجهة التخلف عن توتير قوس الفعل النضالي الميداني واستنهاضه، وحفز الجاري منه، وقيادته، وتوجيهه، ورفْعِهِ إلى أعلى مستوىً ممكن من السعة والتواصل والترابط، أو لجهة التخلف عن رفعِ سقفِ جناحٍ قومي نهض للمواجهة، ومساندته في كشفِ طابق أجنحة قومية أخرى، بشقيها المتقاعس والمتواطئ، ووضعها أمام مسؤولياتها، أو لجهة التخلف عن تحريض الشعوب العربية واستنهاض طاقاتها الهائلة.
 
 بذلك فقَدَ التنظيم السياسي الفلسطيني في محطة ما بعد النكبة طليعيته المأمولة، وسقط في وهدة الانقسام والتبعثر، وتراجعِ الدور والتأثير، وفقدانِ زمامِ المبادرة، ليغرق بالنتيجة في عقدين من خطاب، (بل خُطَب)، الشعارات العامة، وانتصاراتها اللغوية، ويقع، (من حيث يدري، أو لا يدري)، في خطيئة تقزيم دور العامل الوطني، كوجه مضمر في خطيئة تعظيم الرهان على العامل القومي بغلافه الإسلامي، وهو التعظيم الذي لم يأت من باب وعي إستراتيجية العامل القومي بالنسبة إلى العامل الوطني، بل جاء من باب التغطية على عجز الوطني المتلفع بالجدل التجريدي العقيم بين: "الوحدة طريق العودة" و"العودة طريق الوحدة" و"الإسلام هو الحل"، وكأن "القومي" أو "الإسلامي"أو "الوطني" يكتسي أهميته لمجرد اسمه، وليس بفعله، ما ساهم في إعاقةِ ولادةٍ مبكرة لصيغة التوازن الواقعي الدقيق بين دور الوطني والقومي بغلافه الإسلامي في حمْلِ مهام القضية الفلسطينية وتحمُّلِ أعبائها الثقيلة، بوصفها قضية قومية ووطنية في آن.
 
   بالمقدور تفسير قطع مؤقت كان متوقعاً أن يصيب سياق التنظيم السياسي الفلسطيني في محطة ما بعد النكبة، بإحالته إلى مفاعيل ما تمخض عنها من نتائج سياسية قاسية صادمة ومحبطة، لكن من الصعب تفسير إطالة أمد هذا القطع، وما نجم عنه من إطالة لأمد تقزيم وانقسام وتراجع دور العامل الوطني في المواجهة، دون إحالته إلى ما أصاب هذا التنظيم السياسي من تيهٍ، يحيل بدوره إلى دخول أجنحته الفاعلة آنذاك عالم السياسة، برنامجاً وممارسة، من بوابة سطوة فقر المجرد المطلق على غنى الواقعي النسبي فيفهم، والتعامل مع، وتجسير، تناقض علاقة الوطني بالقومي في المواجهة. سطوة وشت بثقافة سياسية "ريفية"، توسدت، باطمئنانٍ بريء، تعظيم دور العامل القومي بغلافه الإسلامي، وراهنت عليه، بتجريد عالٍ متعالٍ، لم يميز بين عجره وبجره، على تحقيق الانتصار، دون أن تدري أنها بذلك، إنما تكون قد قزَّمت دور العامل الوطني، وأيضاً بتجريدٍ عالٍ متعالٍ، لم يميز بين ضرورة تشبثه بانتمائه القومي، وبين ضرورة قيامه بمهماته الوطنية المباشرة والمفروضة.
 
   لكن، ولأن "السياسة جبر وليست حساباً"، ولأن قضاياها معقدة بطبيعتها وبعمومها، بحسبان تعاملها مع أعقد أشكال الحركة الاجتماعية، ولأن القضية الفلسطينية بخصوصيتها، هي من بين أعقد القضايا السياسية في التاريخ المعاصر، بل، وربما أعقدها، فقد كان طبيعياً أن يتعرَّضَ التنظيم السياسي الفلسطيني، ووعيه "الريفي" المجرد والمطلق، لهزةٍ عميقة، اسمها هزيمة العام 1967 وأسئلتها الموجعة والحارقة، التي، وإن كانت قد كشفت أول، وأكثر، ما كشفت طابق "المُضخَّم" بالتجريد في برنامج العامل القومي بغلافه الإسلامي، إلا أنها كشفت أيضاً طابق ما أسبغه عليه العامل الوطني من "تعظيمٍ" تجريدي.
 
   بهذا الكشف المزدوج، دخل التنظيم السياسي الفلسطيني طوره الأكثر صحية، (وإن ليس باكتمال وشمولية بالطبع)، في التعاطي مع، وتجسير تناقضات، المعادلات المعقدة للقضية الفلسطينية، وأولها معادلة علاقة الوطني بالقومي في المواجهة، حيث اندفع، (التنظيم الفلسطيني)، أكثر صوب تفجير الطور الثاني من الثورة الفلسطينية، التي كانت النكبة عام 1948 قد قطعت سياق طورها الأول، الذي كان قد تبلور، في عشرينيات القرن المنصرم، وبلغ ذروته في ثورة 1936-1939، في مواجهة، بدايات الغزوة الصهيونية، وما جلبته من موجات هجرة يهودية، استولت على أجزاء من الأرض الفلسطينية واستوطنتها. بهذا انتشل التنظيم السياسي الفلسطيني نفسه من وهدة عقدين من التيه، وأحرز تنامياً، (كمياً ونوعياً)، وانخرط، بطاقاته المتعددة، وبمشاربه الفكرية المتنوعة، (باستثناء "الإسلامي"منها)، في مهامه الوطنية المباشرة المفروضة، وأعاد نظمَ طرفي معادلة المواجهة، (القومي والوطني)، في صيغة تكاملٍ، صار الثاني منها، (الوطني)، مبادراً وفاعلاً، وبالنتيجة، حافزاً ومحركاً للأول، (القومي). هنا تغلغلت عملية التنظيم والانتظام في أوساط الشعب الفلسطيني وتوسعت وتعمقت، لنكون بذلك أمام عملية مقاومة شعبية فعلية واسعة ومتصلة، تعددت أشكالها وترابطت حلقاتها، داخل الوطن وخارجه، وزادتها حروب الاحتلال وقمعه تأججاً في وجهتها العامة، بل، وتكلُّلت بعد عقدين على توتير قوسها، بانفجار الانتفاضة الشعبية الكبرى في كانون أول عام 1987، التي نقلت هدف الاستقلال الوطني الفلسطيني التام الكامل والسيَّد، ولو على الأراضي المحتلة عام 1967، من كونه إمكانية مجردة إلى كونه إمكانية واقعية، اصطدم تحققها الفعلي بتحولات دولية وقومية وإقليمية عاصفة.
 
   هنا، ومصداقاً لقول: "يعيد التاريخ نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل ملهاة"، فإن التنظيم السياسي الفلسطيني، لم يجد سبيلاً لمواجهة ما واجهَ من مستجدات مجافية، غير سبيل الانحناء أمام العاصفة، والعودة مجدداً إلى معادلة "التعظيم" و"التقزيم" التجريدية إياها، إنما بقلبِ طرفيها، حيث جرى تعظيم الرهان على قدرة العامل الوطني في تحقيق انتصارٍ سياسي حاسم، وفي أقله تحصيل تسوية سياسية متوازنة، (وما أدراك بعادلة)، للصراع، من دون إحداث تعديل جدي في ميزان القوى، يتطلب تحققه أول، وأكثر، ما يتطلب، إسناداً قومياً فعلياً وحقيقياً، هو بدوره غير ممكن التحقيق من دون أن يبقي محركه، ومهمازه، وحافزه، ورافع سقفه، الوطني فاعلاً ومبادراً وموَحَّداً، برنامجاً وممارسة. لكن، ولأن التنظيم السياسي الفلسطيني قد سار منذ عقدين، (وبعد انطفاء جذوة انتفاضة الأقصى بخاصة)، على غير هذا النحو المطلوب واقعاً، فقد كان طبيعياً، أن يجد نفسه وقد غرق مجدداً في حالة قاتلة من الانقسام والتبعثر وفقدان الدور والتأثير والمبادرة، أفضت به مرة أخرى إلى تيه سياسة الانتظار و"تعظيم"الرهان المجرد على العوامل الخارجية، (التي بات الدولي المجافي أحدها)، بل، وصار كسب اعتراف الخارجي بمسمياته، عامل تعميق لانقسامات الصف الوطني، عوض أن يكون عامل توحيدٍ في مواجهته، والتأثير فيه. إنها لعبة "التعظيم" و"التقزيم" التجريدية في مسيرة التنظيم السياسي الفلسطيني وفهمه، برنامجاً وممارسة، لتعقيدات علاقة الداخلي بالخارجي في معادلات المواجهة والصراع. إنها لعبة خطرة وقاتلة، آن، (بل تأخر كثيراً، وكثيراً جداً)، أوان التفكير في دروسها القاسية، بجدٍ وجدية.           

التعليقات