14/04/2012 - 11:13

ربيع الأفكار الثورية في السعودية../ فؤاد إبراهيم*

الحرية هي الفكرة الثورية الأكثف حضوراً في الحراك الفكري والسياسي في السعودية هذه الأيام..

ربيع الأفكار الثورية في السعودية../ فؤاد إبراهيم*
الحرية هي الفكرة الثورية الأكثف حضوراً في الحراك الفكري والسياسي في السعودية هذه الأيام..
 
تتوارى سلطة النظام المرجعي المفروض رسمياً، المؤلّف من تعاليم دينية، وإرشادات روحية، ورموز، وحتى النصوص القديمة في قوالب حديثة تنزوي بوتيرة متسارعة، لأن زمناً جديداً بدأ بمرجعية مختلفة. يوافيك الناشطون السياسيون والحقوقيون كل يوم بالمزيد والجديد من الأفكار الثورية، حيث يخرق الجديد فضاء الدولة والمجتمع، عبر قنوات تعبير صُنِعت خارج نطاق سيطرة التقليد السياسي والأيديولوجي. لم تعد الرتابة الكسولة والمتعسفة غالباً بكل تمظهراتها الفكرية والاجتماعية وحتى السياسية صنواً لفضيلة التصالح مع الموروث، فوتيرة الحراك المتنقّل بين الطبقات الاجتماعية، والعابر للمناطق والفئات والأيديولوجيات، بمثابة عاصفة تهب في أجواء هذا البلد، وتحمل معها سمات حديثة لهويّة كليّة، ولكن وفق شروط مختلفة، ليس من بينها الهوية غير الوطنية للدولة السعودية الراهنة، ولا الهويات الفرعية التي نشأت وترعرعت كرد فعل وقائي على محاولات الاجتثاث من قبل الهوية الغالبة..
 
صخب الحراك المتنقّل يعبّر اليوم عن انتقال سلمي لكّنه سريع، ويكسو مؤسسات المجتمع كافة. نظرة عن كثب لما يجري من تحوّلات متسارعة في المملكة، تكشف عن أن دولة أخرى تتشكّل على هامش وخارج نطاق سيطرة الدولة الراهنة، وتستعين بوسائل خارج قدرتها وسلطتها أيضاً، من بينها قنوات التواصل الاجتماعي (فيس بوك، تويتر..).
 
ثمة دلالة أوّليّة وبالغة الأهمية لكل ذلك، يفصح عنها على هذا النحو: لم تعد هناك مرجعية ثقافية معيارية اليوم في المملكة السعودية، فسحر الأيديولوجية الدينية الرسمية ينقشع لصالح مرجعية حديثة، ويشارك قطاع واسع من الأفراد من مختلف الطبقات في تشكيلها..
 
للنظام السعودي معاركه في الخارج (البحرين، اليمن، سورية، ايران..)، ولأغلبية الشعب معركته الكبرى في التغيير في الداخل.. فثمة انهماك شديد لدى كل منهما في معركته، ولكن لماذا؟
 
كما في الفترات السابقة، فإن النظام السعودي يرى أن احتواء الحراك الداخلي يكون بتطويق المنابع الإيديولوجية والسياسية خارج الحدود والتي تشكّل حافزاً رئيسياً وراء أي فعل اعتراضي محلي. وفي ظل اليبوسة الفكرية والسياسية في الداخل، يتحوّل الخارج وعلى الدوام الى منبّه فعّال للأفكار والأفعال الإحتجاجية الكامنة. هكذا كان حال هذا البلد منذ نشأته العام 1932، حيث شهدت البلاد حركة احتجاجات إبان الحقبة الناصرية، وتالياً حقبة الثورة الإيرانية، والغزو العراقي للكويت، وهجمات الحادي عشر من "سبتمبر" وما أعقبها من تطوّرات سياسية كبيرة، وصولاً الى الثورات المتنقّلة في الشرق الأوسط.
 
في أتون موجات التذمّر المتدحرجة في أرجاء هذا البلد، تبدو حركة الأفكار الثورية بمثابة الجبهة المتقدّمة في النضال من أجل التغيير الشامل، وكأن ثمة رسالة ثاوية في كل ما يقدّم من مقولات ثورية بأن التغيير الفكري هو المعبر الحتمي للتغيير السياسي. لذلك، يتجّه التغيير الى البنية الفكرية للمجتمع والدولة وصولاً الى البنية السياسية، إذ تشهد الأسس الأيديولوجية للدولة السعودية تصدّعات بنيوية غير مسبوقة، وكأنما عثر طلاّب التغيير على ضالتهم، بأن لا مناص من الالتحام مع المرتكزات الفكرية والعقدية للدولة كمدخل حتمي لعملية التغيير الشامل. يعيد الناشطون من خلفيات اجتماعية وسياسية وإيديولوجية متنوّعة قراءة الواقع المحلي في ضوء متغيّرات كبرى جرت في الشرق الأوسط منذ انطلاق موجة الثورات في نهاية العام 2010 وحتى الآن.
 
وتبعاً لزخم الأحداث الساخنة والأفكار الثورية في ظل الربيع العربي، كانت إعادة التموضع سمة عامة لدى أولئك الذين اختاروا اللعبة الخطرة، بحسب نيتشه، من أجل تفادي خطر الانزواء والتواري، في مرحلة تستوجب ولوج فضاء السائد ولكن بأفكار جديدة، لضمان جدوى البقاء داخل اللعبة وليس خارجها..
 
لا يأبه بعض المنغمسين بشراهة في أفكار الربيع العربي بما تحدثه إعادة اكتشاف النصوص الدينية في ضوء المعرفة العقلية الحداثوية، من قطيعة معرفية مع الماضي بل مع الخط الأيديولوجي السلفي الراهن. إنه، بمعنى ما، "كوجيتو" في شكل آخر يقدّم اليوم في سياق شهية مفتوحة على تناول الأفكار الحداثوية بكل نكهاتها العلمانية والليبرالية، لا يخفّف من وطأتها النفسية سوى المسحة الدينية التي تضفى عليها لتحقيق الطمأنينة الإيمانية..
 
فقد خرق الشيخ سلمان العودة المحظور الفكري والسياسي، وتجاوز قوانين الحظر في مجال التوزيع والنشر حين قّرر أن يضع كتابه الأخير "أسئلة الثورة" في متناول الجميع بعد يوم من قرار منعه في معرض الكتاب الدولي في الرياض في 16 آذار (مارس) الماضي، فقام على الفور بوضع رابط لتحميله مباشرة من دون مقابل.
 
في تقويم إجمالي، يمثّل كتاب العودة ذروة التماهي السلفي السعودي مع الحداثة الفكرية والسياسية، لم يسبق إليه أحد من مشايخ الصحوة الذين برزوا في التسعينيات، حين طالبوا بإعادة تشكيل الدولة السعودية على أسس دينية من خلال "مذكرة النصيحة" التي كان الشيخ العودة من بين أبرز الموقّعين عليها. في كتابه الجديد، يبدو العودة كما لو أنه يستلهم من السلفية المنفتحة لدى الشيخ رشيد رضا، في مقاربته الحداثية لمفاهيم دينية مثل الشورى، رغم المسافة الاحترازية التي وضعها رضا إزاء نزعة المواءمة مع الديمقراطية، على أساس أن الشورى ما كانت مبدأ حكم قبل أن يطلع المسلمون على تجارب الغرب، ومنه استعاروا المعنى الكامن فيها كيما تصبح الشورى والديموقراطية صنوان.
 
حداثوية العودة حاضرة بكثافة في كتابه، أقرّ هو بذلك أيضاً بقوله "دوري في هذه السطور هو الاقتباس والنقل والاختيار.."، ولأن من غير الممكن الاتّكال على الأفكار التقليدية لمناصرة الحرية والتغيير، خصوصاً من لدن أولئك الذين يعانون من أزمة مواكبة مع حركة الأفكار الإنسيّة، فقد بات اعتناق منهج حديث لتفسير الواقع والمشاركة في تغييره ضرورة حتمية. من بين الأفكار الثورية الواردة في كتاب العودة، دعوته الى عقد اجتماعي جديد على أساس أن "الحق هو للأمة، فهي الأصل وهي أحد طرفي العقد، والحكم هو الوكيل أو النائب عنها، وليس الحكم تفويضاً إلهياً.." (ص 84). بل اشترط في السلطة أن تكون (معبّرة عن إرادة الشعب وخياراته، وهي وكيلة عنه وفق عقد مدني صرف..) (ص 128). كلمة الفصل في كتاب العودة هي قبوله بفكرة الديموقراطية التي اعتبرها (ثمرة التجربة الإنسانية (ص 135)، ثم فتح قوسين لمرورها بأمان حين ربطها بعبارة "وهي صيغ متعدّدة"، كما قبل بمبدأ المواطنة، لتحقيق المساواة، بعد أن كان الانتماء الديني يحدد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
 
وعلى خطى العودة، وضع داعية الملكية الدستورية عبد الله الحامد كتابه (ثلاثية المجتمع المدني..عن سر نجاح الغرب وإخفاقنا)، بعد أن قرر كسر الحظر المفروض عليه من وزارة الاعلام السعودي، وكذلك من قانون (حقوق الطبع) الخاص بدار النشر اللبنانية، حين سمح لمتابعيه بتنزيل الكتاب بصورة مجانية. الكتاب يدور حول بناء دولة العدل، التي تتحقق (بإقرار الحقوق، اجتماعية واقتصادية ومدنية وثقافية، للناس أفراداً وجماعات ومجتمعاً)، ويتحقق ذلك من خلال "قيم المجتمع المدني وتكتلاته الأهلية". ويرى الحامد أن (الاستبداد هو المشكل الأكبر في الدولة، وأن الحرية والشورى النيابية هي الحل). نشير الى أن الحامد دعا على صفحته في (تويتر) في 28 آذار الماضي الأمير نايف، ولي العهد ووزير الداخلية، الى الاستقالة، وكتب ما نصّه "أفضل خدمة يقدّمها الأمير نايف للبلاد والعباد والاسلام، هي أن يستقيل من ولاية العهد، تكفيراً عن خطاياه الموبقات، فلعل الشعب يعفو عنه، فيرحمه الله".
 
ولحق الحامد الناشط وليد الماجد بكتابه "أسوار الصمت.. قراءة في حقوق الفرد المدنية في السعودية"، بوضعه على صفحته في "تويتر" ليكون متاحاً لعموم القراء. وذكر في المقدمّة أن الثورات العربية مزّقت "حاجز الصمت في نفس الإنسان" حسب قوله، ولفت الى أن ثمة تياراً حقوقياً عابراً للإيديولوجيات والأحزاب والتنظيمات، قد نشأ الآن محثوثاً بضغط الحاجة إلى "إعادة ترتيب العلاقة بين الوطن والمواطن، بين المحكوم والحاكم، علاقة أساسها احترام حقوق المواطنة الأساسية".
 
وفي ضوء وعي حداثوي بطابع حقوقي، يستحضر الماجد المفاهيم الحقوقيّة التي طرحها هوبز، وهيغل، وجون لوك، وروسو ومونتسكيو وغيرهم، ليؤسس لمنظومة حقوقية متكاملة تبدأ من الحقوق الأساسية (السكن، العلاج، التعلّم، العمل) مصحوبة بقراءة نقدية لواقع المواطن في هذا البلد، مروراً بحقوق المتهم في ضوء انعدام التمثيل القانوني في السعودية لسجناء الرأي، وحقوق المرأة، التي يصفها بـ "كائن جامد منزوع الحقوق" في دولة تصنّف بأنها الأسوأ في التعامل مع المرأة في كل المجالات. ويختم الماجد برسالة للقارئ ـ المواطن، بألا يقبل "أن تهدر كرامته وآدميته مهما كانت الضغوط ومهما كانت المبررات لأن الايمان بالحرية والعزة والكرامة، والإلتزام بها هو الدافع الحقيقي لوجود الإنسان وتطوّره". وقال أخيراً "نحن أمام جهاد مدني مقدّس من أجل بناء ثقافة حقوق إنسان محلية ونشرها..".

التعليقات