17/05/2012 - 15:38

للنضال جدوى... ماذا بعد!../ عوض عبد الفتاح

ذكّرنا أسرانا البواسل أن للنضال جدوى.. وللتضحية معنى. كان القرار باستخدام المعدة الخاوية، استخدام اللحم والدم البشري مغامرة في نظر العديد من صانعي القرار الفلسطيني.

للنضال جدوى... ماذا بعد!../ عوض عبد الفتاح

ذكّرنا أسرانا البواسل أن للنضال جدوى.. وللتضحية معنى.
كان القرار باستخدام المعدة الخاوية، استخدام اللحم والدم البشري مغامرة في نظر العديد من صانعي القرار الفلسطيني.

وكانت قراءة البعض لمعطيات الواقع الراهن تشي باستحالة تحقيق أي مطلب من مطالب الأسرى العادلة: حكومة إسرائيل صمّاء، تعيش في أعلى درجات الثقة بالذات، كما هو ظاهر على الأرض، وواقع فلسطيني غير قادر أهلوه على ترميمه والعودة إلى المواجهة الفعلية ضد الاحتلال بعد هروب مستمرّ من مجابهته على الأرض. والثورات العربية الجبارة التي كان من المفترض أن تلهب خيال الفلسطينيين وتزحف الى هذا القطر العربي (فلسطين) الخاضع للاستعمار الصهيوني، تنشغل الآن بذاتها وتقارع قوى الثورة المضادة وتتصدى لقوى الاستعمار التي تحاول حرفها عن خطها الأصيل وتكييفها مع أجندتها القديمة، أجندة الهيمنة، خدمة لإسرائيل ولضمان تدفق الوقود الى آلة الرأسمالية الفتاكة التي لا تُعير اعتبارًا إلا لقيمة الاستهلاك والربح.

كان الأسرى ينتظرون ثورة شعبية فلسطينية تطيح بالواقع القائم، أو على الأقل تعيد فتح باب الأمل لإطلاق سراحهم، ولكن بؤس الحالة الفلسطينية شجع دولة الاحتلال على فرض المزيد من القيود عليهم، وكاد يُغلق الأفق أمام العديد منهم. فاختزلوا معركتهم الى تحسين ظروف الحياة داخل السجن. والمفارقة الكبرى، هو أن يتمكن من هو مكبّل ومعزول في زنزانته أن يُفجر انتفاضة من نوع آخر، انتفاضة الجوع، ومحجوب عنها الإعلام، في حين يعجز من هو خارج الزنازين ومن هو طليق، عن خوض هذه المعركة، معركة شعبية ميدانية واسعة وحقيقية، لا مواجهات محدودة ومتفرقة وكأنها طقوس وشعائر، مع كل التقدير والاحترام للذين يشاركون فيها بدون كلل. ويُسأل السؤال لماذا هذا الخوف من خوض المواجهة طالما أن الجميع يتجه الآن نحو تبني نظرية المقاومة الشعبية غير العنفية. قد يقول البعض إن هذه مسؤولية. وبالتأكيد لا أحد يشكك بأن المقاومة مسؤولية ولكن هناك من يحاول طمس الخط الفاصل بين المسؤولية والخوف أي فقدان الشجاعة على المواجهة. وفي حالتنا الراهنة هناك اعتقاد واسع في الشارع بأن الامتناع عن المجابهة هو بدافع الخوف من فقدان شبكة المصالح التي تراكمت والتي خلقت مزاجًا مائعًا وغير كفاحي، بل مزاجًا يحتقر النضال.

فرض الأسرى نضالهم علينا جميعًا، وكان التفاعل أقل من المطلوب، وجميعنا شعرنا بالخجل، حتى الذين شاركوا في النشاطات المتضامنة، وترى ماذا يشعر من لم يكلف نفسه بالمشاركة بعد أن حقق الأسرى نتائج مشرفة في معركتهم ومعركتنا الطويلة.

لقد وضع الأسرى بصمودهم الأسطوري قضيتهم أمام كل صانعي القرار، الفلسطيني والاسرائيلي والدولي وأدخلتهم في حالة رُعب. لقد خشيت كل الأطراف الرسمية من اندلاع المواجهات فيما لو سقط شهيدٌ واحدٌ. هذا الانتصار الجزئي والهام يعود للأسرى وحدهم. تصوروا لو كان هناك حراك جماهيري واسع منذ اليوم الأول، ألم نكن لنوفّر عليهم أيام عديدة من المعاناة الرهيبة. الأسير المضرب، هو ليس جائعًا وليس طليقًا فقط، هو جائعٌ ومعزولٌ في زنزانة ومُحاصر بين أربعة جدران لأيام طويلة. ومع ذلك، وبعد تحية الإكبار لهؤلاء المناضلين، يستحق أيضًا التحية كل من بادر ونظم وشارك في النشاطات الاحتجاجية في الوطن والشتات؛ وداخل منطقة الـ48. ومن شأن هذا الانتصار أن يدفع المزيد من الناس الى الميدان ويذكرهم بواجبهم النضالي. وواجب كل القيادات الرسمية وغير الرسمية وفي كل أرجاء الوطن، أن تعكف على كيفية الاستفادة من هذا الإنجاز ومن الروح التي ولدته.

إضراب ذكرى النكبة: المعنى والمغزى


للمرة الأولى يتوحد الفلسطينيون في الوطن والشتات بإحياء 15 أيار (يوم النكبة) بإضراب عام، هو إضراب وطني بامتياز.

كان الأمر الأكثر إثارة، والأكثر إثارة للجدل، هو تجاوب لجنة المتابعة لشؤون المواطنين العرب (القيادة السياسية الموحدة لعرب الداخل) مع نداء القوى والهيئات الشعبية الفلسطينية في الضفة والقطاع والشتات. لقد نجح هذا الإضراب نجاحًا باهرًا، وبصورة فاجأتنا حتى نحن متخذي القرار. كان التقدير أنه في أحسن الأحوال سيكون كما أيام الإضراب السابقة، ولكنه كان أكثر نجاحًا.

كما أن استجابة المدارس العربية لنداء الإضراب بصورة شاملة، هو بمثابة تحدّ ورسالة قوية لمحاولات الدولة العبرية المحمومة لفرض قانون النكبة وحجب الرواية الفلسطينية عن الأجيال الفلسطينية داخل منطقة 48. وهذه الاستجابة والتي هي أشبه بمحاولة أولية للتمرّد الواسع ضد قانون النكبة، ستكون حاضرة عند صانعي القرار عندما يبدأ الائتلاف الاسرائيلي اليميني الجديد ببحث فرض الخدمة الوطنية على أبنائنا وبناتنا، ما معناه أن الائتلاف الإسرائيلي الحاكم سينظر بجدية إلى التصريحات التي صدرت حتى الآن من الأحزاب العربيّة حول الاستعداد للتمرّد ضد محاولة من هذا النّوع.

بلا شك كان قرار اتخاذ القرار متأخرًا، وكان يحتاج إلى وقت أكبر للتحضير له. ولكن كانت قراءتنا تقول إن المناخ الذي أفرزه إضراب الأسرى والتفاعل الشعبي المتزايد مع ذكرى النكبة والتوجه الفلسطيني الوطني لشعبنا داخل "إسرائيل"، كل ذلك يسمح بالإقدام على هذه الخطوة.

الإخوة في الجبهة الديمقراطي للسلام والمساواة (الحزب الشيوعي) لم يقرأوا هذه المعطيات وعبروا عن رفضهم لقرار الإضراب لأسباب تقنية وتنظيمية. ولكني أعتقد المسألة تتعدى ذلك، لأن مزاجهم السياسي والأيدلوجي لا زال غير قادر على التفاعل بصورة أصيلة مع قضايا ذات بعد وطني استراتيجي كقضية الأسرى التي تأخروا في التفاعل معها، أو قضية إضراب وطني عام يتخذ خارج الخط الأخضر. وكان هناك من يُجادل، وهم مقربون من دائرة هذا التيار على أن الإضراب هو خطوة زائدة من شأنها أن تستفز المؤسسة الاسرائيلية، وتزداد عداءً لنا. وبعض هؤلاء من لا يزال يجتهد ويكافح من أجل أن يُميّز نفسه عن حزب التجمع "المتطرف"، أو القوميين أو الإسلاميين "المتطرّفين". والحقيقة المعروفة فإن التجربة السياسية لعرب الداخل لا تزال تتطور في إطار عقلاني وبما تُتيحه خصوصية الواقع.

ويندرج في هذا الجدل حول قرار الإضراب الخلاف حول كيفية التعاطي مع المجتمع الاسرائيلي وأفضل الطرق وأصوبها في التعاون مع المناضلين اليهود المناهضين لنظام الأبارتهايد الكولونيالي الاسرائيلي. وأعتقد أن أصحاب هذا التوجه أصبحوا أمام هذا السؤال (السؤال الوطني الاستراتيجي أو سؤال الهوية غير المحسوم) أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن الحاجة الى التنسيق الجدي والمسؤول بين كافة القوى السياسية الوطنية والديمقراطية على ساحة عرب الداخل، أكثر إلحاحية لمواجهة تغوّل دولة الاحتلال، ومن أجل الانخراط المنظم والممأسس في عملية الحفاظ على مجتمعنا في الداخل وتحصينه ضد التشرذم ومظاهر العنف والجنوح.

مسيرة تراكمية نحو أفق كفاحي


ليس المطلوب التعبير عن النشوة وكيل المديح بنجاح إضراب الأسرى، وبنجاح إضراب يوم النكبة وإن كان هؤلاء الأسرى يستحقون أكثر من ذلك. فالمطلوب هو التدقيق في معاني هذا النجاح رغم حالة الاختلال الفادح في التوازن الراهن بين المحتل والواقع تحت الاحتلال ونظام التمييز العنصري. واجبنا كأناس نحتل مواقع القرار بين شعبنا، أن نستخلص الدروس ونستشرف مآلات الكفاح المتوج بالإنجازات الجزئية، ولكن الهامة. فالأسرى قدموا نموجًا كفاحيًا بطوليًا مثمرًا، وذكروا الجميع أن الإنسان الفلسطيني لا يزال قادرًا على النضال والعطاء حتى لو كان مجردًا من السلاح، حتى لو كان يواجه دولة إقليمية عظمى مدعومة من الاستعمار العالمي. وقدموا نموذجًا على إمكانية تحقيق الوحدة الوطنية التي هي معيار نجاح أي معركة هامة.

لهذين الإضرابين تداعيات تدخل في النسيج التراكمي لروح نضالية آخذة في التجلي في كافة مواقع الوطن. إنها المقدمات التي تسبق كل حدث مفصلي. المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع، هو كيفة تحويل هذه السيرورة إلى برنامج كفاحي وحدوي بعيدًا عن الفوضى وتعدد مراكز القرار. ورغم أن الأجواء تحسنت بين سلطتي رام الله وقطاع غزة، وبعد التوقيع على اتفاق المصالحة، إلا أن ترسّخ المصالح في كل من السلطتين وصعوبة الانتقال الحقيقي الى مصالحة حقيقية في الأفق المنظور وارتباط سلطة رام الله بمساعدات الدول المانحة وبالالتزام الأمني تجاه الاحتلال، يلقي الكرة في ملعب القوى الشعبية والشبابية والمثقفين والأكاديميين للمضيّ في تطوير البدائل الاستراتيجية لعموم شعبنا الفلسطيني ولتحويل هذه البدائل الى مرجعية النضال والحركة الوطنية الفلسطينية المتجدّدة.

ليس بعيدًا عن الواقع لو قدرنا أن هذا التلاحم الفلسطيني في يوم النكبة وإضراب الأسرى والشعور المتزايد بالمصير المشترك، بعد أن استقرت الدولة العبرية على اعتبار عرب الداخل عدوًا أو خطرًا كامنًا، سيترجمان في السنوات القليلة القادمة إلى إستراتيجية مشتركة ورؤية سياسية موحدة لاستبدال نظام الأبارتهايد الإسرائيلي البغيض بنظام ديمقراطي حقيقي يقوم على العدالة.
 

التعليقات