06/06/2012 - 10:59

ثمة مأزق في مصر، ولكن../ علي جرادات

أشعل القرار القضائي القاضي بالسجن المؤبد بحق الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، ووزير داخليته، حبيب العادلي، وبتبرئة نجلي الأول، وستة من معاوني الثاني، موجة احتجاجات شعبية عارمة ما انفكت تعم جميع ميادين محافظات مصر ومدنها

ثمة مأزق في مصر، ولكن../ علي جرادات

أشعل القرار القضائي القاضي بالسجن المؤبد بحق الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، ووزير داخليته، حبيب العادلي، وبتبرئة نجلي الأول، وستة من معاوني الثاني، موجة احتجاجات شعبية عارمة ما انفكت تعم جميع ميادين محافظات مصر ومدنها.

وكان من الطبيعي أن تتواصل هذه الاحتجاجات، وأن يتوسع نطاقها، وأن تتطور مطالبها إلى ما هو أبعد من المناداة بإعادة المحاكمة، ما يفتح أفقها على عدة احتمالات، بما فيها احتمال تحولها إلى مرحلة ثانية من الثورة. ينبئ بذلك مسارعة غالبية القوى السياسية المصرية إلى التوافق على صياغة "وثيقة العهد" لصياغة دستور جديد للدولة المصرية، وتعالي شعارات تشكيل "مجلس رئاسي مدني" "لإدارة مرحلة انتقالية"، و"تفعيل قانون العزل السياسي"، وهي الشعارات ذاتها التي كان قد نادى بها "الميدان" بعد إطاحة رأس النظام في 11 شباط 2011، وكان يمكن للأخذ بها في حينه أن يضع الثورة المصرية على سكة مسار آخر يختلف نوعياً عن المسار الذي سارت عليه، لولا موقف "الإخوان" والأحزاب "السلفية" الذي دعم، خلافاً لموقف ائتلافات شباب الثورة وبقية القوى السياسية، موقف "المجلس العسكري" الذي دعا إلى، (ونجح)، أن تكون "الانتخابات لا الدستور أولاً".

أما لماذا أدى قرار الحكم على الرئيس المخلوع إلى إعادة خلط الأوراق؟
لأن أكثرية، إن لم يكن أغلبية، الشعب المصري وقواه السياسية الأكثر تمسكاً بأهداف ثورته وتحسساً لمطالبها الملموسة، باتت أكثر وعياً بالمخاطر التي تحدق بهذه الثورة وتنذر بتفريغها من مضمونها، سواء بيد مَن يريد استعمالها، أو بيد مَن يريد إعادة إنتاج النظام السابق؛ وصارت أكثر إدراكاً لضرورة توحيد صفوفها، خاصة بعد أن تبين لهذه الأكثرية أنه كان بمقدورها حسم نتائج انتخابات الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة لو أنها اصطفت خلف مرشح واحد، (حمدين صباحي مثلاً)، وأن عدم قيامها بذلك كان سبباً أساسياً في حصْرِ التنافس في الجولة الثانية بين مرشح "الإخوان"، محمد مرسي، والمرشح المحسوب على النظام السابق، أحمد شفيق، ما خلق مأزقاً صار معه على الناخب الاختيار بين أن يمنح صوته لأحدهما، أو أن يمتنع عن التصويت، (المقاطعة)، أو أن يُبطل صوته، (الورقة البيضاء).

وهذا بلا أدنى شك مأزق حقيقي ليس فقط بالنسبة للناخبين الذين لم يصوتوا في الجولة الأولى لأيٍ من هذيْن المرشحيْن، ومعهم بالطبع القوى السياسية التي ترى في نفسها قطباً أو بديلاً ثالثاً، بل أيضاً بالنسبة لكلا المرشحيْن الحاصليْن على المركز الأول والثاني في هذه الجولة، ذلك أن أياً منهما، (مرسي وشفيق)، لا يستطيع الفوز إلا بضمان أكثر من نصف الناخبين الذين لم يصوتوا له فيها، حيث حصل الأول على أقل من ربع عدد الناخبين المشاركين، أي ما يزيد قليلاً على 10% فقط من إجمالي الناخبين المقيدين في الجداول، بينما حصل الثاني على نسبة تقل قليلاً عن تلك التي حصل عليها الأول، ما عنى أن زمام المبادرة قد أصبح بيد القوى السياسية التي خرجت من السباق ومرشحيها، وبالأساس بيد المرشح حمدين صباحي، الذي دلت النسبة المفاجئة والمبهرة التي حصل عليها على تراجع ظاهرة إعطاء الناخب لصوته بناء على الاسم كما حصل في الانتخابات التشريعية قبل شهور، وزادت بنسبة معقولة، وخاصة في المدن، ظاهرة إعطاء الناخب لصوته بناء على ما يطرحه كل مرشح في برنامجه من مطالب ملموسة للثورة الشعبية، وبناء على ما يتسم به سلوكه العملي من إخلاص للثورة وأهدافها، وليس بناء على ما يشيعه حول نفسه أو يدعيه من مواقف، ما يثبت ويبرهن على أن الشعب المصري خلال عام ونصف العام من ممارسة الثورة قد تعلم الكثير، وأصبح قادراً على التمييز أكثر، وهذا طبيعي حدَّ البداهة، اللهم إلا إذا كان بلا معنى التمييز بين ما يتعلمه الناس في "الزمن العادي" وبين ما يتعلمونه في "الزمن الثوري المكثف".

وهذا بلا شك نقلة نوعية بكل المعاني والمقاييس، وأظن أن تداعيات الاحتجاجات الشعبية الدائرة في ميادين المدن المصرية ستفضي إلى تعميق هذه النقلة، وأكاد أجزم أن "الإخوان" سيكونون أول الخاسرين من الزيادة المطردة في تبلور هذه الظاهرة، إن هم لم يكفوا عن مواصلة تكتيك المناورة بتقسيم المصريين إلى "مَن هو مع أو ضد الثورة" بصورة مجردة، في مقابل صيغة تجريدية أخرى يطرحها منافسهم، أحمد شفيق، تقسم المصريين بدورها بين "مَن هو مع الدولة المدنية ومَن هو مع الدولة الدينية"، فيما برهنت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات على أن الشعب المصري قد شب بدرجة معقولة آخذة بالتعمق عن طوق هاتين الصيغتين التخويفيتين، وأنه صار أكثر قرباً من تحديد اختياره وفقاً لصيغة "مَن هو مع أو ضد المطالب الملموسة للثورة"، اللهم إلا إذا كان بلا معنى تراجُع نسبة ما حصل عليه مرشَّحُ "الإخوان" في انتخابات الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة إلى نصف ما حصلوا عليه في الانتخابات التشريعية قبل شهور، هذا ناهيك عن دلالة حصول مرشح النظام السابق، (شفيق)، على ذات النسبة، (تقريباً)، التي حصل عليها مرشحهم، فضلاً عن دلالات تراجع نسبة الاقتراع والنسبة المبهرة التي حصل عليها المرشح حمدين صباحي وتدني النسبة التي حصل عليها كلا المرشحيْن المستقليْن الوسطيَّيْن، عبد المنعم أبو الفتوح وعمرو موسى، وذلك خلافاً لتوقعات العديد من المحللين والمستطلعين للرأي، ما يؤكد ويبرهن على كمْ كانت خطيئة "الإخوان" كبيرة، وكمْ كانت نظرة قيادتهم قصيرة، وكم كانوا مستعجلين، وكم كانوا واهمين، حين ظنوا بأن ثمة لهم فرصة سانحة للقطف السريع والمستقر لثمار ثورة شعبهم.

ظَنٌ دفعهم إلى الانثناء على خيار"الميدان" بتبني خيار "البرلمان"، بعد أن توافقوا بصورة مؤقتة، وبـ"ميكافيلية" قل نظيرها، مع "المجلس العسكري" على "الانتخابات لا الدستور أولاً"، لا بل وحاولوا بـ"ميكافيلية" أيضا عقد تحالف مؤقت مع الأحزاب "السلفية" بغرض السيطرة على اللجنة التأسيسية المناط بها تقديم مشروع جديد لهذا الدستور، ما يشي بالرغبة في صياغته وتفصليه على مقاسات مصالح حزبية وفئوية ضيقة، هي، مهما علا شأنها، أصغر بكثير بالنسبة لمصالح شعب مصر الدولة "الثقيلة"، لا بتعداد سكانها وبموقعها ودورها الإستراتيجيين وحسب، بل وقبل ذلك، وزيادة عليه، بعراقة ما تختزنه من تجربة حضارية تمتد لآلاف السنين، وبعراقة دولة راسخة، (على الأقل)، قياساً بالسائد في الحالة العربية، متناسين أن الشعب المصري بهذا، وبأمور أخرى كثيرة، لا يقبل، ولا يمكن له أن يقبل، استعمال ثورته للمس بالمبادئ العامة الحاكمة لدستور دولته بوصفها دولة لمواطنين أحرار متساوين بصرف النظر عن دينهم وجنسهم ومركزهم الاجتماعي ولونهم ومعتقدهم الفكري والسياسي و...الخ ما يسمح بالقول: نعم ثمة مأزق في مصر، لكن شعبها العائد بمئات الألوف إلى ميادين التظاهرات الاحتجاجية السلمية قادر على حله لمصلحته، تقدم الأمر أم تأخر، فهو في نهاية المطاف مَن حوَّل "شرارات" أطلقها شباب مصر الناهض إلى "حريق" عم السهل كله.
 

التعليقات