10/06/2012 - 16:11

في السؤال الفلسطيني عن البديل../ ماجد كيالي

منذ زمن بعيد بات سؤال البديل من أكثر الأسئلة إلحاحاً على الفلسطينيين، لاسيما من جيل الشباب الذين لم يعرفوا من التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة سوى تجربة السلطة، بما لها وما عليها، وبكل ما اعتراها من شبهات الفساد السياسي والمسلكي. وينبغي أن نتذكّر هنا بأن تجربة المقاومة المسلحة، التي تشكّلت في الخارج، والتي تتكئ الفصائل السائدة عليها اليوم في الداخل، انتهت منذ ثلاثة عقود

في السؤال الفلسطيني عن البديل../ ماجد كيالي

منذ زمن بعيد بات سؤال البديل من أكثر الأسئلة إلحاحاً على الفلسطينيين، لاسيما من جيل الشباب الذين لم يعرفوا من التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة سوى تجربة السلطة، بما لها وما عليها، وبكل ما اعتراها من شبهات الفساد السياسي والمسلكي. وينبغي أن نتذكّر هنا بأن تجربة المقاومة المسلحة، التي تشكّلت في الخارج، والتي تتكئ الفصائل السائدة عليها اليوم في الداخل، انتهت منذ ثلاثة عقود.

بديهي أن ثورات "الربيع العربي" زادت هذا السؤال إلحاحاً بل إنها وضعته على رأس جدول الأعمال، في عديد من الحراكات الشبابية التي شهدتها مدن ومخيمات الفلسطينيين في الداخل والخارج، فهذه الثورات ألهمت هؤلاء الشباب، حتى أن شعار "الشعب يريد"، الذي أصبح بمثابة لازمة ثورية لكل تلك الثورات، طرح أكثر من مرة في المثال الفلسطيني. هذا حصل في الحراكات التي رفعت شعارات: "الشعب يريد إنهاء الانقسام"، و"الشعب يريد انتخابات مجلس وطني"، وفي التحركات التي جرت من أجل العودة السلمية من الخارج ومن الضفة وغزة إلى الأراضي الفلسطينية (2011)، وفي هبّة التضامن مع الأسرى في "معركة الأمعاء الخاوية"؛ التي كشفت عن المخزون النضالي عند الفلسطينيين، هذه الطاقة النضالية التي يجري تجاهلها، أو الاستهتار بها، أو حتى كبحها، من قبل القيادة السائدة في السلطة، سواء في الضفة أو في غزة.

ما يضفي شرعية على السؤال عن البديل، هو انهيار المشروع الفلسطيني، كما جرى التعبير عنه في حلّ الدولة في الضفة والقطاع، بسبب تهرّبات إسرائيل وقيامها بفرض واقع يحول دون قيام دولة للفلسطينيين، ذات تواصل وقادرة على الحياة، بسبب انتشار المستوطنات، وبناء الجدار الفاصل، والطرق الالتفافية، والسيطرة الأمنية، والهيمنة الاقتصادية، وبالنظر إلى عدم حسم المجتمع الدولي مسألة إنهاء الاحتلال، أو حتى فرض وقف جزئي للاستيطان. وأخيراً، ثمة سبب فلسطيني لذلك وهو يكمن في الارتهان إلى خيار واحد، هو التسوية، المتمثلة بحل الدولة في الضفة والقطاع، وعبر وسائل المفاوضات، بدون استثمار أي عامل من عوامل الضغط لفرض هذا الخيار. أيضاً، فإن ما يؤكّد على سؤال البديل حال الترهّل في البني والكيانات السياسية الفلسطينية السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل) وتآكل مكانتها التمثيلية في المجتمع، وتراجع دورها في مواجهة عدوها، وعدم قدرتها على تجديد ذاتها، على صعيد المفاهيم والبني والعلاقات وأشكال العمل. هذا ينطبق، أيضاً، على ما يسمى "اليسار" الفلسطيني (إذا جاز التعبير)، إذ أن الفصائل المكونة له باتت متماهية، بشكل أو بآخر، مع النظام السياسي السائد، بمفاهيمه وآليات عمله، وحتى أن هذه الفصائل باتت غير قادرة على توحيد ذاتها، وتجديد مفاهيمها، وإضفاء الحيوية على وجودها، فما بالك بتوليد بدائل في الإطار الوطني العام؟

هكذا ثمة مشروعية للحديث عن البديل، الذي تأخّر كثيراً، في الساحة الفلسطينية، بل وثمة ضرورة ملحّة للعمل الدؤوب في سبيل ذلك، لكن ما ينبغي التنويه إليه هنا، أيضاً، أن الوصول إلى ذلك دونه صعوبات وتعقيدات جمّة، وأن ذلك سيأتي في وقته، أي بعد أن تتوافر له الظروف الموضوعية الملائمة والحوامل الذاتية المناسبة.

والحال فإن النظام السياسي الفلسطيني، الذي بات جد متقادم اليوم، إنما هو وليد ظروف عربية معيّنة، لاسيّما أن النظام الرسمي بات منذ زمن بمثابة حارس وحاضن للنظام الفلسطيني السائد. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني بداهة أن تغيّر هذه الظروف، بنتيجة الثورات العربية، سيدفع بدوره نحو تغيير فلسطيني، وأرجّح أن هذا التغيير لن يتوقّف عند تغيير الطبقة السياسية، وإنما هو سيشمل البنى والعلاقات والمفاهيم والخيارات وأشكال العمل، فالنظام العربي الجديد لابد سيتطلب حركة وطنية جديدة، هذا أولاً.

ثانياً، إن من عوامل ترسّخ النظام الفلسطيني طبيعته "الريعية"، لأن هذا النظام لا يعتمد في تأمين موارده الذاتية على شعبه، أو على إمكاناته الاقتصادية، بقدر ما يعتمد على الموارد المتأتّية من الخارج، بما يشكله ذلك من ارتهانات سياسية ووظيفية. ما يفاقم من هذه المشكلة أن ثمة نحو ربع مليون من الفلسطينيين يعتمدون في عيشهم على العمل في السلطة والمنظمة والفصائل، وهؤلاء مع عائلاتهم يشكّلون كتلة اجتماعية وازنة قدرها مليونين ونصف، في دورة اقتصادية "ريعية"، على هامش علاقات الإنتاج التي ينسجها الفلسطينيون في الداخل أو في الخارج. ويخشى أن ثمة قطاعات واسعة من هذه الكتلة قد تجد نفسها، في ظروفها الصعبة، أميل إلى استمرار النظام السائد بأطروحاته وخياراته وبناه وعلاقاته؛ لاسيما في ظل صعوبة إيجاد بدائل للعيش.

ثالثاً، ما يصعّب من عملية توليد البديل الجديد أن المجتمع الفلسطيني يعاني من التمزّق والتوزّع في أكثر من بلد، وأنه يكابد من أكثر من سلطة، ما يضعف من علاقات التواصل والتفاعل والتبادل فليما بينهم، وهذا وضع لا يسهّل عليهم التفكير المشترك بالبدائل، ويصعّب من قيامها عملياً. والمشكلة أن الطبقة الوسطى الفلسطينية لم تنضج بعد إلى الدرجة الملائمة التي يمكنها من إفراز ممثليها وبدائلها، وأنها لم تستطع إيجاد منابر مستقلة تعبّر من خلالها عن ذاتها، وتطرح رؤاها على المجتمع. مع كل ذلك ربما أن التطور في تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية وفي وسائط التواصل الاجتماعي باتت تتيح للفلسطينيين مجالاً أوسع للتغلب على العوائق الحدودية والسلطوية، ما قد يمكّنهم من التواصل والتفاعل وتبادل الآراء واقتراح الشعارات وأشكال العمل وطرح التصورات، تمثّلاً بالتجارب الشبابية المماثلة في الثورات العربية.

رابعاً، إن أي بديل سيحتاج بداهة، بعد كل هذه التجربة المهيضة، إلى مشروع وطني ملهم، يجاوب على أسئلة الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، ويوقظ الحلم مجدّداً عندهم ويحفّز هممهم، بعد كل هذا الضياع والإحباط، على أساس تضمين قيم الحقيقة والعدالة والكرامة. وبديهي أن هكذا مشروع يتطلب الإجابة على سؤال اللاجئين بالعودة، وعلى سؤال الفلسطينيين في الضفة وغزة بالتحرر من الاحتلال، وعلى سؤال فلسطينيي 48 في الكفاح ضد العنصرية وحقهم في المساواة الفردية والجماعية، بما يطابق بين قضية فلسطين وأرضها وشعبها، وبما يعيد لحركتها الوطنية طابعها كحركة تحرر وطني بعد أن طغى عليها طابعها كسلطة تتعايش مع الاحتلال.

ومعلوم أن أي بديل سيتطلّب بداهة، أيضاً، القطع مع الكيانات السياسية المتقادمة، التي تآكلت مكانتها في المجتمع ولم يعد لها أي دور في مواجهة إسرائيل، ولا تقدم أي إضافة للفلسطينيين كنموذج.
هكذا سيأتي البديل، لكن في أوانه، أي بعد توافّر شروطه وحوامله المجتمعية.

التعليقات