13/06/2012 - 10:29

في السؤال عن معنى الحروب العربية – الإسرائيلية../ ماجد كيالي

من بين الحروب الإسرائيلية - العربية العديدة، ثمة اثنتان تحتلان مكانة تأسيسية في تاريخ هذه المنطقة، الأولى حرب 1948، وقد نجم عنها قيام إسرائيل كدولة وكمشكلة، ونشوء قضية فلسطين، والثانية حرب 1967، التي نتج عنها احتلال باقي أرض فلسطين، مع الجولان السورية وسيناء المصرية، وتدشين إسرائيل كقوّة إقليمية عظمى، وهذا يفيد أن باقي الحروب إنما هي هوامش لهاتين الحربين، لأن أياً منها لم تغيّر من واقع وجود إسرائيل، ولا من مكانتها في هذه المنطقة حتى الآن

في السؤال عن معنى الحروب العربية – الإسرائيلية../ ماجد كيالي

من بين الحروب الإسرائيلية - العربية العديدة، ثمة اثنتان تحتلان مكانة تأسيسية في تاريخ هذه المنطقة، الأولى حرب 1948، وقد نجم عنها قيام إسرائيل كدولة وكمشكلة، ونشوء قضية فلسطين، والثانية حرب 1967، التي نتج عنها احتلال باقي أرض فلسطين، مع الجولان السورية وسيناء المصرية، وتدشين إسرائيل كقوّة إقليمية عظمى، وهذا يفيد أن باقي الحروب إنما هي هوامش لهاتين الحربين، لأن أياً منها لم تغيّر من واقع وجود إسرائيل، ولا من مكانتها في هذه المنطقة حتى الآن.

لنلاحظْ أن ثمة صعوبة في الحديث عن تلك الحروب، إذ ليس ثمة رواية رسمية عنها، ولا وثائق تعرِض أحداثَها، ولا إحصائيات تشرح موازين القوى والخسائر الناجمة عنها، وكيف حصل ما حصل (؟!!)، ولنلاحظْ أيضاً أن مصطلح "الحروب العربية-الإسرائيلية" إنما هو تعبير مجازي، وينطوي على تلاعب وتورية، لأن معظم هذه الحروب كانت تشنّها إسرائيل من طرف واحد (باستثناء حرب 1973).

على الأرجح أنه قد تم صكّ هذا المصطلح للاستهلاك والتوظيف من قبل إسرائيل والأطراف العربية، إذ من خلاله روّجت إسرائيل لنفسها أمام العالم باعتبارها ضحيّة في وسط غابة من الذئاب، لجلب التعاطف والدعم، سياسياً وعسكرياً ومالياً، ولإظهار منعتها وقوّتها على الصعيد الداخلي. أما النظام العربي، فقد وظّف هذا المصطلح لإثبات براءته، وتكريس شرعيته من جهة، ولتبرير هيمنته الشمولية على البلاد والعباد من جهة أخرى، بما في ذلك مصادرة الحريات، وتأخير عمليات التنمية.

والحاصل أن أي تفحّص لمجريات تلك "الحروب" سيبعث على الدهشة بشأن حقيقة ما جرى، وسيثير الشكّ في شأن أهلية النظم المعنيّة وصدقيّة ادعاءاتها الوطنية، ففي الحرب الأولى (1948) مثلاً، جرى الترويج لهجوم سبعة جيوش على إسرائيل، في حين كانت الدول العربية بالكاد حصلت على استقلالها، ولا تمتلك جيوشاً حقيقية، وخصوصاً أن ما حشدته تلك الجيوش المزعومة لم يزد عن 25 -30 ألفاً، في حين تراوَحَ عديدُ القوات الصهيونية في مراحل القتال المختلفة، بين 60-100 ألف مقاتل. وفي كل الأحوال، فقد تُرك الفلسطينيون لمصيرهم، من دون تسليح، بدعوى أن تلك "الجيوش" ستقوم عنهم بتلك المهمة في غضون أيام! وبالنتيجة، ربحت إسرائيل تلك الحرب ومعها 77 بالمئة من أرض فلسطين، التي تم تشريد معظم شعبها.

وما يجب الانتباه إليه أن إسرائيل هذه، التي كانت قامت للتو، استطاعت في تلك الحرب احتلال 5 آلاف كيلومتر مربع من حصّة الفلسطينيين في قرار التقسيم (1947)، ما زاد حصّتها -بموجب القرار المذكور- من 55 إلى 77 بالمئة من أرض فلسطين، والخمسة آلاف كيلومتر مربع هذه توازي مساحة الضفة والقطاع، التي عادت إسرائيل واحتلتها عام 1967، وتسعى القيادة الفلسطينية منذ عقود لإقامة الدولة المستقلة فيها.

أما الحرب التأسيسيّة الأخرى (1967)، فقد شنّتها إسرائيل على ثلاثة دول (مصر وسورية والأردن)، اثنتان منها لها مكانة مركزية في العالم العربي، وكان في كل منهما قيادة ذات نزعة قومية (مصر وسورية). وقد نجم عن هذه الحرب تدمير البنية العسكرية لجيوش هذه الدول، مع خسارة بشرية تقدّر بحوالى 15-20 ألف عسكري، في مقابل 800 فرد من الجيش الإسرائيلي. وفي تلك الحرب، ازدادت مساحة إسرائيل إلى خمسة أضعاف، مع احتلال باقي الضفة وغزة والجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية.

ما تنبغي ملاحظته هنا أيضاً، أن الحربين الرئيستين اشتغلت إحداهما عكس الأخرى بالنسبة للأطراف المعنيين، فقد نجم عن الأولى صعود القومية العربية (الناصرية والبعثية)، التي تُوّجت بلا منازع على عرش مصر وسورية والعراق، في حين تمّ لجم الوطنية الفلسطينية، بتقويض "حكومة عموم فلسطين" (1948) وبحرمان الفلسطينيين إقامةَ دولة لهم في الضفة وغزة، إذ ضُمت الأولى إلى الأردن، وأُتبعت غزة إلى الإدارة المصرية. أما الحرب الأخرى (1967)، فقد قَوّضت الفكرة القومية ونزعت قداستها، في حين أنها أطلقت الوطنية الفلسطينية، المعطوفة على فكرة المقاومة المسلحة. واللافت أن الحرب الأولى التي مزّقت وحدة العالم العربي، والتي زلزلت أحوال الفلسطينيين، لم تؤثّر على الوضع العربي بالقدر ذاته الذي شكّلته الحرب الأخرى.

أما بالنسبة إلى إسرائيل، التي تأسّست في الحرب الأولى، فقد كان للحرب الثانية تأثيرات متناقضة عليها أيضاً، إذ نتج عنها تحقيق التطابق بين "أرض إسرائيل" و"شعب إسرائيل" (بحسب التعبيرات الإسرائيلية)، باحتلال الضفة الغربية (مع غزة). لكن نتج عن هذا أيضاً المطابقة بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، ما أدى إلى صعود التيارات اليمينية والدينية والشرقية في إسرائيل، وانحسار مكانة التيارات العلمانية واليسارية والأشكنازية، الأمر الذي أوصل حزب ليكود إلى الحكم لاحقاً.

وهكذا، فرغم عوائد الاحتلال الاقتصادية، لم يكن كله ايجابياً بالنسبة إلى إسرائيل، إذ أنه وصمها بطابع الدولة الاستعمارية العنصرية، وأدى إلى كسر احتكارها لمكانة الضحية، وأثار الشكوك حول معنى الديموقراطية فيها، لاسيما مع الانتفاضة الأولى التي حدثت بعد عقدين من الاحتلال. وبالمقابل، فإن هذا الاحتلال، الذي وحّد "أرض إسرائيل"، وحّد أيضاً الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، وعزّز هويتهم الوطنية.

ومع أن هذه الحرب نقلت العرب من الصراع على وجود إسرائيل إلى الصراع على شكل هذا الوجود، أي من ملف 48 إلى ملف 67، إلا أنه وضع إسرائيل في مأزق من نوع جديد، فهي باتت في مواجهة ما تسميه الخطر الديموغرافي (الفلسطيني)، الذي يهدد طابعها كدولة يهودية، ويطرح التساؤلات حول حقيقتها كدولة ديموقراطية من جهة، ومن جهة أخرى وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة دائمة مع الوطنية الفلسطينية التي تسعى إلى تجسيد ذاتها في دولة في الضفة والقطاع، واستعادة حقوق الفلسطينيين التي أقرها المجتمع الدولي، وضمنها حق العودة للاجئين. وفي تلك الغضون، وجدت إسرائيل نفسها في تناقض فريد في نوعه، فهي لا تستطيع ضمَّ الأرض المحتلة، التي تعتبرها "أرض الميعاد" خاصّتها، ولا هي راغبة بالتخلّي عنها، في ما بات يشكّل واحداً من أهم التشقّقات في المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والثقافية.

على ذلك، فكل ما يتعلّق بهذه الحروب يثير الدهشة ويبعث على التساؤل، وقائعها وإحصائياتها والأساطير التي نسجت حولها، وكل ذلك يؤكد بأن إسرائيل إنما تفوّقت وتغلّبت -رغم امتلاكها جيشاً صغيراً- بفضل تميّزها في مجالي القيادة والإدارة والإرادة السياسية وطريقة صنع القرار فيها ومستوى تأهيلها لمواردها البشرية، وليس فقط بفضل مستوى تسلّحها.

ولعل الأشد إدهاشاً وإيلاماً ودلالةً، تلك الفجوة الهائلة بين حجم الخسائر البشرية التي تكبدتها إسرائيل، في كل الحروب التي خاضتها ومع كل المقاومات التي واجهتها، وهي لا تزيد عن 21 ألفاً في 64 عاماً، والخسائر البشرية الباهظة التي تكبدها الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون والمصريون... وغيرهم في الحروب مع إسرائيل، وفي الحروب الأهلية التي قامت بسببها، ناهيك عن الاحتلالات والأكلاف السياسية والاقتصادية لكل ذلك.

هذا يعني أن أموراً وسمت إدارة الأنظمة المعنية لأحوال مجتمعاتها، كالنقص في الكفاءة وضعف روح المسؤولية وهدر الطاقات والموارد... تنطبق أيضاً على شكل إدارتها صراعَها مع إسرائيل وحروبها معها. وبالطبع، فإن هذا ليس له صلة بالتضحيات التي بذلها جنود وضباط في خنادق الحرب، وسطروا خلالها صفحات من المجد والبطولة.

قصارى القول أن الحروب العربية-الإسرائيلية هي أقرب إلى أسطورة جرى تصنيعها في الإذاعات والشعارات، مثل أساطير أخرى، فهذه الأنظمة لم تحارب حقاً ولم تهيئ ذاتها للحرب قطّ. وفي الغضون، فإن هذه "الحروب" استمرت أياماً معدودات في حين أن الحروب الحقيقيّة كانت تجري في مكان آخر، ولمواضيع أخرى، وقد نتج عنها تهميش المجتمعات العربية، وتبديد طاقاتها، وإخراجها من السياسة ومن التاريخ.

آن الأوان، مع ثورات الربيع العربي، لإخضاع كل شيء للفحص والنقد والكشف والمساءلة، وضمن ذلك أسطورة "الحروب" مع إسرائيل، وتوظيفاتها السلطوية.

التعليقات