11/07/2012 - 10:45

سوريا: هل تصبح دولة فاشلة؟../ علي جرادات

لم يعد ما يحدث في سوريا مجرد صراع فيها، إنما عليها أيضاً، لا كنظام سياسي فقط، بل أيضاً كدولة ودور ومكانة عربية وإقليمية، إذ، وإن كانت التناقضات الداخلية، وليست "المؤامرة"، هي ما أشعل الانتفاضة الشعبية السلمية قبل 16 شهراً، إلا أن دخول التدخلات الخارجية على خطها قد جاءت سريعة، واستخدمت دموية النظام ذريعة لعسكرة هذه الانتفاضة وحرفها عن هدفها الوطني الديمقراطي، هذا إن شئنا استقراء ما يجري في سوريا لا بوصفه مجرد حدث، بل، باعتباره علاقة، أو مجموعة علاقات مترابطة تولد أحداثاً، أي استقراء يبتعد عن القشور والسرد الصحافي، ويسعى لاستخراج الواقع من ظاهر يحجبه، وينأى عن قراءة هذا الواقع بصورة مجردة لا تقترب من دمه ولحمه الحي، أي بكونه واقعاً ملموساً يعج بتناقضات داخلية وخارجية تنتج بتداخلها حركة معقدة

سوريا: هل تصبح دولة فاشلة؟../ علي جرادات

لم يعد ما يحدث في سوريا مجرد صراع فيها، إنما عليها أيضاً، لا كنظام سياسي فقط، بل أيضاً كدولة ودور ومكانة عربية وإقليمية، إذ، وإن كانت التناقضات الداخلية، وليست "المؤامرة"، هي ما أشعل الانتفاضة الشعبية السلمية قبل 16 شهراً، إلا أن دخول التدخلات الخارجية على خطها قد جاءت سريعة، واستخدمت دموية النظام ذريعة لعسكرة هذه الانتفاضة وحرفها عن هدفها الوطني الديمقراطي، هذا إن شئنا استقراء ما يجري في سوريا لا بوصفه مجرد حدث، بل، باعتباره علاقة، أو مجموعة علاقات مترابطة تولد أحداثاً، أي استقراء يبتعد عن القشور والسرد الصحافي، ويسعى لاستخراج الواقع من ظاهر يحجبه، وينأى عن قراءة هذا الواقع بصورة مجردة لا تقترب من دمه ولحمه الحي، أي بكونه واقعاً ملموساً يعج بتناقضات داخلية وخارجية تنتج بتداخلها حركة معقدة، حيث أفضى انقسام التدخلات الخارجية لطرفين: الأول يدعم النظام، والثاني يدعم المعارضة، إلى تحولهما إلى جزء من العامل الداخلي المنقسم إلى  قطبين متصارعين على حسم السلطة، وبالتالي، فإن طرفي التدخلات الخارجية باتا عملياً خارج الاهتمام بمصلحة الشعب السوري وانتفاضته السلمية بمطالبها الملموسة، برغم إدعاء كل منهما بذلك ظاهراً، ما أدخل انتفاضة الشعب السوري في حالة من اختلاط الحابل بالنابل، أما لماذا؟ فلأن:

1: اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية جاء، (كما بقية الانتفاضات العربية)، عفوياً وفي ظل غياب إطار قيادي يمتلك برنامجاً بديلاً لبرنامج النظام بالمعنى الاجتماعي والوطني والقومي والتنموي الاستقلالي، بما جعل مصير هذه الانتفاضة ومستقبلها مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما فيها احتمالات الاحتواء والاختطاف والانحراف، (طابعاً وهدفاً ونتائج).

2: ثمة خصوصية للانتفاضة الشعبية السورية تتمثل في اندلاعها في دولة ما زالت في حالة مواجهة مع إسرائيل التي تحتل جزءاً من أراضيها، ما يفرض على أطراف المعارضة السورية تقديم رؤيتها البديلة لكيفية إدارة هذه المواجهة، وهو الأمر الذي ما زالت تتهرب منه، بل، إن بعض أطرافها لم يتحرج من إعطاء إشارات مطمئنة لإسرائيل، وفي هذا بلا شك طعن في مصداقية تعبيرها عن التوجهات الوطنية للشعب السوري وانتفاضته، خاصة وأن هذه الانتفاضة قد جاءت في واقع نظام دولي تسيطر عليه الولايات المتحدة التي تعادي، (ومعها توابعها)، حقوق العرب وتطلعاتهم وقضاياهم، وتصر على ضمان تفوق إسرائيل على ما عداها من دول المنطقة وقواها، وتستميت لاستبقاء النظام الرسمي العربي في حالة تبعية لها، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، بما يجعل تدخلات الولايات المتحدة وتوابعها لمصلحة المعارضة السورية مشكوكاً فيها بلا لبس أو شك.

3: اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية جاء متزامناً مع بداية تفككٍ لنظام القطب الواحد دولياً، حيث تزداد ملامح تحوله، وإن ببطء وتدرج، إلى نظام متعدد الأقطاب، بات واضحاً أنه سيكون فيه لروسيا والصين، فضلا عن "الدول البازغة"، وجميعها تدعم بقاء النظام السوري، دوراً ونفوذاً لا شك فيهما، بما جعل الصراع في سوريا يتحول أكثر فأكثر إلى صراع يختبر مستقبل ميزان القوى الدولي ومآل النفوذ بين أطرافه لا في المدى المنظور فقط، ولكن في المدييْن المتوسط والبعيد أيضاً، وإلا لكان بلا معنى إصرار روسيا والصين على عدم إعطاء الضوء الأخضر للولايات المتحدة القائدة لحلف الناتو لتنفيذ السيناريو الليبي في سوريا، ولكان بلا معنى أيضاً تجنب حلف الناتو للتدخل العسكري المباشر في سوريا، وربْط الإقدام عليه، (حتى الآن) بالحصول على قرار من مجلس الأمن، ما انفكت روسيا والصين تعطلان استصداره باستخدام حق الفيتو.

4: اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية جاء في واقع نظام رسمي عربي منقسم حول العلاقة مع إيران بوصفها دولة شرق أوسطية محورية يصطدم طموحها القومي بالتحول إلى دولة إقليمية نافذة مع مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ومخططاتهما، ويتشابك، شئنا أم أبينا، مع الصراع العربي الإسرائيلي، إذ بينما يتبنى النظام السوري التحالف الإستراتيجي مع إيران، فإن ثمة أنظمة عربية، والخليجية منها بخاصة، تناصبها العداء حدَّ اعتبارها، وليس إسرائيل، العدو المركزي للعرب، وقد جاءت الانتفاضة الشعبية السورية لترفع منسوب تناقض المواقف الرسمية العربية تجاه إيران إلى أعلى مستوياته، ففي حين اضطر النظام السوري لرفع تحالفه الإستراتيجي مع إيران إلى مستوى تحالف المصير المشترك، فإن دول الخليج العربي، والسعودية وقطر بخاصة، قد رفعت مستوى عدائها لهذا التحالف حدَّ أن تصر على إطاحة النظام السوري بأي ثمن وبكل وسيلة، وأن تسخر إمكانياتها المالية الهائلة لتسليح أطراف سورية معارضة ودعم مطلبها بالتدخل العسكري لحلف الناتو، وكل ذلك بما يتجاوز مواقف دول هذا الحلف ويفوقه، (حتى الآن)، مع كل ما يفضي إليه ذلك من تحويل للانتفاضة الشعبية السورية إلى مطية لأنظمة حكمٍ عربية تقليدية لا مبالغة في القول إنها تعيش خارج العصر، لعل مجرد الربط بين هذه الانتفاضة وهذه الأنظمة، إنما يسيء لها ويشوه صورتها، ويسلح النظام بأقوى سلاح سياسي ضدها.
    
5: ثمة انقسام حاد وتباين نوعي بين أطراف المعارضة السورية، فهنالك طرف "سلطوي" يساوي بين الانتفاضة ونفسه، ويطابق بين برنامجها العام وبرنامجه الفئوي الخاص، ويريد استعمالها أداة لإطاحة النظام والحلول محله في السلطة بأي ثمن، بما في ذلك التدخل العسكري المباشر لحلف الناتو، بينما صارت معروفة النتائج الكارثية لتنفيذ هكذا سيناريو في ليبيا بعد العراق؛ وهنالك طرف ليبرالي، هو، وإن لم يكن له ارتباطات سياسية بالولايات المتحدة وتوابعها، إلا أن له معها ارتباطات فكرية تقوده بالنتيجة، وبمعزل عن النوايا، إلى اختزال مطالب الانتفاضة الشعبية في مطلب الديمقراطية السياسية بمعناها الليبرالي، فيما الولايات المتحدة وتوابعها لا يعنيها أن يكون النظام السوري القادم ديمقراطياً أو غير ديمقراطي، بل أن يكون تابعا لها، وكأنها تقول ليطاح النظام، ولتتشكل الأحزاب ولتجري الانتخابات، إنما بضمان أن يكون النظام القادم دائراً في فلك نظام رأس المال الاحتكاري المعولم بقيادتها من جهة، وينأى عن تلبية المطالب القومية والاجتماعية والتنموية المستقلة للانتفاضة السورية من جهة ثانية، ويرضخ لشروط إسرائيل وإملاءاتها فيما يخص التسوية السياسية لموضوع هضبة الجولان المحتلة من جهة ثالثة؛ وهنالك طرف لا يربط فقط بين الوطني والديمقراطي من مطالب الانتفاضة، بل، ويربط أيضا بين هذا وذاك وبين القومي والاجتماعي والتنموي الاستقلالي من مطالبها، لكن هذا الطرف الأكثر أصالة في معارضته للنظام ودمويته ما زال واقعا بين فكي كماشة: فك النظام وقمعه الدموي وفك "سلطوية" طرف معارض لا يتورع عن الاتكاء على الأجنبي المعادي، وعن ممارسة سياسة التفرد والإقصاء حتى قبل تسلمه للسلطة.  
   
  قصارى القول: إن الصراع الدائر في سوريا وعليها، سواء لجهة تداعياته، أو لجهة حسمٍ مستقرٍ لنتائجه، أو لجهة انطوائه على احتمالات ومفاجآت وأزمات وتحولات متنوعة، قد صار أكثر تعقيداً، وأطول أمداً، مما يتراءى لهذا الطرف أو ذاك، بما يشير إلى أن سوريا قد دخلت فعلاً في مرحلة طويلة ومعقدة من نزف داخلي أنتجه عناد نظام سياسي فاقت وحشية قمعه لشعبه كل تصور، وتداخل مع استنزاف خارجي أنتجته قوى خارجية عربية وإقليمية ودولية تقودها الولايات المتحدة، واتخذت من قمع النظام ذريعة، ومن "سلطوية" بعض أطراف المعارضة مطية، لا لضرب الانتفاضة الشعبية السورية وحرفها عن طابعها السلمي وأهدافها الوطنية الديمقراطية وحسب، بل، ولتدمير سوريا وتحويلها بعد العراق وليبيا إلى دولة فاشلة أيضاً، فهل يتمخض الصراع الدائر في سوريا وعليها عن تحويلها إلى دولة فاشلة؟                                                     

التعليقات