07/10/2012 - 22:36

الأزمة السورية/ "الفصل الخالي"../ دعاء حوش

سأحاول أن أتفحّص مستوًى أحاديّا لدى كلٍّ من أبرز طرفي الصراع في الأزمة السوريّة، كأبرز مقولة لديهما في جريهما وراء إعادة تشكيل الوعي الجمعي لدى القواعد المتلقّية من خلال الإعلام بمختلف مشاربه المنعكسة عن ارتباطات المصالح الاقليميّة والعالميّة، مع إدراكي التام أن الأزمات السياسية لا يتم تناولها في مختبرات كيميائيّة معقّمة، ولا بمعادلات رياضيّة خالية من المؤثّرات البيئيّة المحيطة التي تجعل الموقف محصّلة عوامل

الأزمة السورية/

• في الأزمة السورية نتحدث عن مستويين: الأمني والإنساني.
• يندمج المستويان في الحديث عنهما، إن تحت معايير الثورة أو تحت معايير المؤامرة.
• ربما استخدمت بعض المصطلحات التي باتت كلاسيكية تخص كل مستوًى بعينه، لكن الهدف من استعمالها لا يعني تبنّيها، وإنما تسهيل ايصال الفكرة للمتلقّي من خلال المصطلحات المتداولة.
وما قراءتي للأزمة السوريّة سوى تجلٍّ للحالة الوهمية في واقع ذهنيّ، طُولِبَتْ ضمنه بعض الأحزاب داخل الخط الأخضر (من قِبَل كوادرها أحيانًا، وأحايين من قبل أحزاب فخرت بوضوح موقفها، وموقفها حقا واضح، ضمن ثنائيّة الأسود والأبيض، مع ذا وضد ذاك) بتبنّي إحدى النظريات والتمترس خلفها والدفاع عنها اذا اقتضى الأمر. لقد ارتأيت استخدام مصطلح "الفَصل الخالي" استحضارًا لحالة رياضيّة وإسقاطهاعلى واقع سياسي للدلالة على المفارقة (paradox).

شَظايا مقدّمة:

سأحاول أن أتفحّص مستوًى أحاديّا لدى كلٍّ من أبرز طرفي الصراع في الأزمة السوريّة، كأبرز مقولة لديهما في جريهما وراء إعادة تشكيل الوعي الجمعي لدى القواعد المتلقّية من خلال الإعلام بمختلف مشاربه المنعكسة عن ارتباطات المصالح الاقليميّة والعالميّة، مع إدراكي التام أن الأزمات السياسية لا يتم تناولها في مختبرات كيميائيّة معقّمة، ولا بمعادلات رياضيّة خالية من المؤثّرات البيئيّة المحيطة التي تجعل الموقف محصّلة عوامل.

ورغم اصطفافي الواضح خلف موقف ما، أحاول أن أثبت أن الأزمة السوريّة أدخلتنا في متاهة، إشكاليّة، قد تبرّر الموقف ونقيضه في آن! مما يحوّلها إلى ثنائيّات مفارقاتيّة تعطي قسطًا من الشرعيّة لكل منهما جاعلةً ازدواجيّة موقف كوادر جميع أحزابنا العربيّة أمرًا محتملًا تتعايش معه، وإن كان لبعض هذه الأحزاب موقف سياسي واضح.

ولكي نكون واقعيين عَلينا أن نخرُج أحيانًا من "المعطف" لنُلقِ نظرةً عليه، ونحن فيه... مفارقة.


المستوى الأمني:

المقصود بالمستوى الأمني السياق الذي يَخص الغِطاء الأمني ويَشمل القُدرة العَسكرية والتَرابط والحِفاظ على الإحداثيّات الأمنية التي مَوْضَعَت سوريا إستراتيجيّا، ارتباطًا بموقعها الجيوسياسي، في المركز الداعم للمقاومة والممانع لمشاريع الاستعمار خصوصًا في مرحلة تسارع العولمة بعد انهيار الكتلة الشرقيّة، إقليميًّا وعالميًّا.

ففيما يتعلّق بِنظرية المُؤامرة، تَبدو الأزمة الأمنية جليّة النتائج، إذ ضِمنها يتوقّع المُؤمن بنظرية المؤامرة أن النظام الحَالي، أي النظام المُمانع حاضِن المقاومة، هو الحصن المنيع الذي يدفع العدوان عن الحدود السوريّة، ويرى بها أرضية التواصل فيما بين المقاومة في جنوب لبنان وإيران التي تتبّنى مشروعًا قد يكون فيما بعد ورقة لّعب مهمّة في وجه قوى الغَرب الاستعماريّة، وأنه تبعًا لهذه النظرية التي لن يَتوانى المتآمرون بِحسبها عَن رَسم مَسار مُعاكس يهدف إلى تسليم الحُكم في سوريا لِنظام جدَيد مُتواطئ قد يكون ذا عقائدية يتبناها غالبية الشعب السوري ليكسب جماهيريّته وشَرعية وجوده من أبناء الشعب ذاتهم، ذلك أن المؤامرة لم تكن خَالية من محاولة "تطييف" أو "مذهبة" الأزمة حدّ حصرها بين فئتين، السنة والعلوية. من هنا، يتم الإسقاط على النظام الجَديد، إذا ما تمّ التغيير، أن يتنازل تدريجيًا عن دعم المقاومة والممانعة والتساوق مع مشاريع الاستعمار في المنطقة رغم تأثيرات الموقع الجيوسياسي، المؤثّرة فعلًا على كل شأن يتعلق بمستقبل الشَرق الأوسط ككل وأبعاده العالميّة.

إذًا، على المستوى الأمني، يؤمن من يؤمن بالمؤامرة أن بقاء النظام ضمن المُعطيات الحالية هو استنزاف لطاقات البلد ومقدراتها، وادخالها في حالة عدم استقرار أمني قد تعيشه سوريا دولةً وشعبًا بعد سقوط النظام الحالي، إذا ما سقط.

وهذه نَتيجة تَقع ضمن حدود المَنطق في حين تبَنّينا هذه النَظرية، ولكن في دراسة احتمال أن نَكون قد وقعنا ضمن حدود الفَصل الخالي خصوصًا لدى "مُحلّل" يؤمن بقدرة الشعب السوري وذكائه واستشعاره أن الأزمة السوريّة، رغم المؤامرة، عليها أن تَنحرف عن مَسارها وعلى الشَعب أن يستغّل ثغرة الديمقراطية التي سيمنحها المتآمرون مُرغمين، كما منحوها سابقًا، لاستكمال السيناريو فيفاجأ الجميع بانتخاب نظام علماني وطني ديمقراطي وعادل، وفي ذات الوقت يحافظ على الموقف المتقدّم الممانع الداعم للمقاومة، أي أن يفاجئنا بردّة فعل عكسية تقلب السِحر على السَاحر وحينها تكون المؤامرة شِئنا أم أبينا تمخّضت فولَدَت ثورة.

- في الحَديث عن نفس المُستوى فإن من يتبنّى الحسّ الثوري في القضية السوريّة يبدو في الوَهلة الأولى مُتأتئًا فيما يخص الشأن الأمني. لكنه حقيقةً ليس كذلك.

بَعض الإبتذال يظهر حين نُنكر تاريخ النظام المُقاوم، وبعض الصدق يظهر حين نقرّ أن القَمع والدكتاتورية التي عانى منها الشعب في سنوات حكم النظام غُض النظر عنها اعترافًا منهم بأن عليهم عدم التخلّي بسهولة عن نظام ممانع والمُراهنة المتهورة على نظام جديد، هنا يرتفع صوت المؤمن بثورة الشعب بأن النظام الحالي وسِياسته الخارجية ما هو إلا انعكاس لإرادة الشَعب الحقيقية، وأنّ هذا الشعب الذي ضحّى بِعدالته الاجتماعية طِيلة أربعين عامًا لَن يتنازل، حين يكون هو صاحب القَرار المُباشر، عن مَطلبه بنظام جديد يَضمن لهم العَيش الكريم كما الحِفاظ على الصَرح المُمانع الذي خلّفه النظام السابق. وأن أي نظام جديد، كان شاهدًا على وَطنية السوريين سَيسلك شاء أم أبى مسلكًا وطنيًا قريبًا قدر الإمكان من قلوب النَاخبين، وهو مَشهد وردي لنهاية سعيدة قد يعيشها هذا البلد.

لكن الفَصل الخالي قد يَصدم "المحلّل" هنا على عكس الحَالة السابقة، إذ بعد إسقاط النظام على الطَريقة الثَوريّة قد يشتعل فَتيل مؤامرة حقيقيّة، ذلك أن أحدًا منّا (في الحَالتين) لا يَستطيع أن يُنكر أن سوريا صَيد وفير لذئاب الغَرب، وأنّه من المُمكن لهؤلاء أن يَنتظروا هذا الصَيد ليصبح في أضعف حالاته لِينقضّوا عليه فَيقطِف المتآمرون ثِمارها كما حدث في النَموذج الليبي. وهذا مَشهد غير مستبعد في الحَقيقة، فتكون الثورة قد خلفّت إذ خلّفت نظامًا جديدًا متواطئًا مع الغرب، لا نستطيع التكهّن فيما يخص سِياسته الداخلية لكننا حتمًا موقنون بما سَيجلبه لسوريا وللشرق الأوسط من أزمات أمنية.

المستوى الإنساني:

وأقصِد بالمُستوى الإنساني كُل ما يتأطّر ضِمن المَشهد الإنساني للحدَث، أي كُل ما يخص مشاهد القَتل والدمار والخَسائر البَشريّة والماديّة، التي لن يكون تأثيرها لَحظيا على هذا الشَعب، وأنها لن تنتهي عندها، لما لهذه الجَرائم من إسقاطات نفسيّة عصيّة على العِلاج، تَعيشها الشعوب أمدًا طَويلًا فتؤثّر على سلوكياتها اليَومية كَما على علاقتها بالعَالم الخارِجي، العَربي خصّيصًا، وهي بالمناسبة قد تَجعَل الشَعب أكثر تطرّفًا في اتّخاذ القرارات الجماعيَة السياسيّة المُباشرة وغير المُباشرة.

- إن هذا المستوى متعلّق الى أبعد الحدود باتجاه إصبع الاتهام، إذ يتّجه لدى من تبنّى نظريّة المؤامرة كتحليل شامل في القضية السوريّة نحو المتآمرين على اختلاف مشاربهم، يَشمل فيما يَشمل أسلحة دَخلت سوريا لكَي تُستخدَم ضد النظام، وكتائب من مُختَلف البلدان، وتأطُرات عَسكرية غير شَرعية (بحسب النظريّة) كالجَيش الحر، وفي هذا السِياق يقوم جَيش النِظام بالرد على هذه المِيليشيات دفاعًا عن الذات وعن الشَعب فيبدو على شكل "تطهير" الشارع السوري من "مندسّين" مَيدانيين، وهم لا يعترفون بمسؤوليّة النِظام عَن دَفع البِلاد إلى العُنف، وهو يبدو بذلك كمن برّأ سَاحته من كل الجرائم التي يشهدها الضحايا من أبناء الشعب السوري وهنا يصبح الأمر أكثر تعقيدًا.

إذ ضمن حدود هذا التحليل يُرجّح أن يَنتهي القَتل والتَعذيب مباشرةً بعد القَضاء على المُؤامرة وعلى الجَيش الحُر والعِصابات التَكفيريّة، ولكن هل يبدو الأمر كذلك فعلًا؟ لِم لا يرجِّح المؤمن من هذا النوع ألّا يستسلم المتآمر بهذه السهولة وأن تظهر منظّمات مُسلّحة جديدة (أو تًدَسّ) أكثر تطرفًا طِيلة فترة مُكوث النظام الحالي، فيُصبح الإبقاء على النظام ما هو إلّا ارتكاب لمجازر أخرى يَروح ضحيتها مدنيون آخرون من أبناء الشعب السوري! بغضّ النظر عن المآرب التي قد يَسعى إليها متأطّرون جُدد، وهنا تحديدًا أتحدث عن الفَصل الخالي أيضًا الذي يواجهه "المحلِّل" حين يشعر أن العكس تمامًا هو الصحيح وأن الإبقاء على النظام يُعيدنا الى نقطة بَيضاء في الرَسم البياني للشأن السوري فلا يُمسي سُقوط النظام (رغم المؤامرة) إلّا إيقافًا لإراقة الدماء وأن أي حَل سياسي داخلي آخر سيكون أكثر رحمة من الحالي.
فَهَل نستطيع حينها تَخيُّل عَام آخر يعيشه هذا البَلد على مَجازِر..؟

-أمّا إصبع الاتهام لدى منظّري الثورة فهو متّجه بالأساس نحو النِظام وجَيشه على جَميع الأصعدة، إذ يتّكئون على مستوى الأسلحة المستخدمة والتي لا يمكن للجيش الحُر أو للمنشقّين عن النِظام أو مَدنيين عاديين امتلاكها، ولا أدري إن كان هذا برهانًا قاطعًا أو كافيًا لكنه ضمنًا ليس الوحيد الذي نَتحدث عنه، فبالنسبة لهم إن نظامًا قَمعيًّا مَارس الظلم الإجتماعي على شَعبه لا يستبعد أن يُمارس التَعذيب الجَسدي عليه أو القَتل، بالنسبة لهم أيضًا فإن قِتال الجيش الحُر أو الثوار هو نَشاط إنقلابي على الحكم، فيصطّف هنا النظام في صَف المُجرم ويصطّف الجَيش الحُر في صَف المُدافع أو حتى الضَحية، ولا يبدو هذا الإصطفاف أقل تطرفًا من الأول.

فَهنا يرجّح أن تَزول الجَرائم والخسائر البَشرية مع زَوال النِظام مباشرةً، ولكن.. هل علينا أن نظن حقًا أن جيشًا ميدانيًا كالجيش الحُر، أسقط نظامًا كهذا أن يسلّم الحكم ليد الديمقراطية الانتخابية بسهولة، خاصةً وأن هذا الجَيش لا قيادة فكرية - سياسية مباشرة تتبناه إنما تأطّر في الشارع. ألا يرجّح أن يَستولي هذا الجيش على الحكم؟ أوَلَن يَجلب المَزيد من المآسي الإنسانية في ظِل التَشتُّت القِيادي الذي سَيعيشه هذا البَلد؟ ألن يُشعِل (كما في المستوى الأمني) وضع كهذا فَتيل التّمزُق الدَاخلي فَتدخل القوى الإمبريالية صَرح سوريا من بابِه الهَشّ فَترتكب ما ارَتكَبته في العِراق؟ ألن يكون الفَصل الخالي الرابع في الأزمة السورية، فتجلب الثورة مَجلَب مؤامرة؟

قَد يحدث للمؤامرة إذًا أن تقطف ثِمار ثورةِ، كما قد يَحدث للثَورة أن تقطِف ثِمار مُؤامرة، وهو بِعينه مَدعاة للازدواجية في الرأي والتناقُض في التَحليل ضِمن الكَم البَسيط من الحقائق المَلموسة التي نملكها، وهو أيضًا يُضفي بَعض الشَرعية على الاصطفافات العَديدة وراء آراء ومواقف مُختلفة إن كانت بين الأحزاب والكُتل السياسيّة المُختلفة، وإن كانت داخل الإطار الحِزبي الواحد.
فهل نَملِك حقّ المُساءلة؟!

التعليقات