13/05/2013 - 10:39

ما قبل وما بعد خطاب السيد../ نصري الصايغ

كانت الأسئلة الكثيرة قد تنازلت لمصلحة سؤال وحيد: ماذا سيكون الرد على الغارة الإسرائيلية على أطراف دمشق؟ لم يكن السؤال موجهاً فقط للقيادة السورية، التي لم تقدم سابقاً على ردود عسكرية على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. لقد كان السؤال موجهاً أيضا إلى القيادة الإيرانية وقيادة "حزب الله" تحديداً، لأن الغارة، طوت صفحة وفتحت صفحة أخرى. فما قبل الغارة لا يشبه حتماً ما بعدها

ما قبل وما بعد خطاب السيد../ نصري الصايغ

كانت الأسئلة الكثيرة قد تنازلت لمصلحة سؤال وحيد: ماذا سيكون الرد على الغارة الإسرائيلية على أطراف دمشق؟ لم يكن السؤال موجهاً فقط للقيادة السورية، التي لم تقدم سابقاً على ردود عسكرية على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. لقد كان السؤال موجهاً أيضا إلى القيادة الإيرانية وقيادة "حزب الله" تحديداً، لأن الغارة، طوت صفحة وفتحت صفحة أخرى. فما قبل الغارة لا يشبه حتماً ما بعدها.

الأسئلة الكثيرة التي أزيحت لفترة: لبنان إلى أين؟ إلى حكومة ميثاقية توافقية، أم حكومة أمر واقع، بغلبة لقوى "14 آذار" وباستبعاد مقصود لحزب المقاومة وحلفائه؟ الانتخابات إلى أين؟ إلى قانون توافقي مستحيل، أم أرثوذكسي محرّم أم "ستين" يصار إلى إنعاشه؟ كانت الأسئلة تتوجس من الفراغ الدستوري، أو التأجيل غير التقني للانتخابات، ودخول لبنان في المجهول المخيف. كل ذلك انزاح لفترة، بانتظار الرد السوري، الذي جاء من الضاحية، بلسان السيد حسن نصر الله.

الأسئلة الإقليمية الكثيرة تراجعت: سوريا إلى أين؟ إلى حسم عسكري، كان في أيامه الأخيرة يميل إلى جانب النظام، أم إلى تسوية سياسية تتأجل إلى موعد اللقاء المرتقب بين أوباما وبوتين؟ وهل تراجع قطر حساباتها والسعودية موقعها وتركيا تورطها بلا نتائج على الأرض، أم تتوغل أكثر في المعارك، علها تجد تعويضاً يعطيها بطاقة جدارة في قيادة معارك المعارضة المسلحة؟

بالطبع لم يكن أحد يسأل عن الجامعة العربية أو مصر أو دول الاتحاد الأوروبي أو مجلس الأمن... الملعب الإقليمي جدي جداً، بحيث لا يحتمل إلا لاعبين من أوزان جدية.

كل تلك الأسئلة الحساسة والجوهرية، وسواها، تراجع مؤقتاً، بانتظار أن يطلع من دمشق أو بيروت أو طهران، جواب عن السؤال: ماذا سيكون رد "حلف الممانعة والمقاومة" على إسرائيل.

قليلون، باستثناء موتورين، من أصحاب الكلام "الموثوق" غثاثة ورداءة، ادعى أن لعبة الأزرار ستبدأ، والحرب ستدار من تخوم أفغانستان حتى ما بعد الأندلس، وأن المعركة الكبرى قد بدأت، وستكون قريباً في القدس الشريف.

قليلون جداً من أصيبوا بخرف سياسي وشطح في معارك وهمية، بناءً على رغبات سابقة، ونبوءات ماضية، لم يتحقق إلا عكسها.

جاءت الضربة العسكرية الإسرائيلية، في لحظة تحوّل في الميدان السوري، حيث بدا أن المعارك ترجح كفة النظام، الذي ظهر أنه أمسك بالمبادرة العسكرية، بعد تعثر وإفشال وخسائر، وكأن المطلوب، وقف هذه الاندفاعة، لمصلحة معارضة تفتقر إلى انتصار حاسم، يخرجها من عامين من المعارك الطاحنة، بلا إنجاب للتغيير. والرهان الإسرائيلي ممسك بهذه اللحظة، مستبعداً رداً سورياً عسكرياً، ومتوقعاً أن الرد إذا حصل، أكان موضعياً أو عاماً، فإن النظام يجازف بنهايته، ونهاية قواته العسكرية البرية والجوية، وفقدان أي أمل بالبقاء، ولو في ما تبقى له، افتراضاً، من شريط ساحلي محفوف بالمعارك والمذابح.

السؤال المطروح، لا جواب عنه سورياً. الإفصاح السوري عن تدابير صاروخية وأوامر أعطيت للقيادات الميدانية بالرد، ليست بحجم التحدي المطروح، فهذه التدابير هي "أقل الإيمان" في علوم الميدان، ودونها التغافل والاستسلام بلا إعلان.

أما فتح جبهة الجولان، فدونه عقبات لوجستية وتنظيمية واستعدادية. فالمقاومة لتحرير الجولان، بحاجة إلى أرضية مواجهة، وبيئة سياسية حاضنة، (والبيئة السورية مفتونة باحتضان الجثث والمقابر والآلام والدموع والأحقاد) كما أنها لا تنطلق بناء على قرار من سلطة. فلقد ثبت أن السلطة لا تصنع مقاومة. قد تدعمها. وأن المقاومة، عندما تصير في السلطة، تتخلى عن بنادقها المقاتلة، وتتحول إلى حراسة السلطة. هكذا يعلمنا التاريخ. ليس في الاستثناء غير تشي غيفارا، والمقاومة الإسلامية في لبنان، متمثلة راهنا في "حزب الله".
وهنا بيت القصيد. فمن أين تبدأ التفعيلة الأولى؟

كان خطاب السيد أحد الأجوبة عن السؤال: "ماذا سيكون الرد على العدوان الإسرائيلي"؟ الأنظار كانت متجهة إليه أكثر مما كانت مصوّبة على دمشق أو طهران. فدمشق هذه حالها، "آطام مجد هذه أطلالها" على ما جاء في وصف الشاعر شفيق المعلوف لمدينة بعلبك وما تبقى من ركامها المجيد. الأنظار كانت تريد أن تعرف ما سيقوله سيد المقاومة، لأن الزناد بيده، والغارة تحرره من التزامات لبنانية، كانت ضرورية، قبيل وقوع الغارة.

وضع السيد مسألة المقاومة الشعبية لتحرير الجولان، كرد إستراتيجي على ضربة أراد منها العدو تغيير الوضع الإستراتيجي لمصلحته. كما وضع مسألة كسر التوازن العسكري، في المستوى نفسه، إذ بات بمقدور المقاومة أن تضيف إلى قوتها، قوة حاسمة، تعدّل ميزان المعارك لمصلحة المقاومة... وترك المسألة الأخطر غامضة، في تلميحه إلى "المجهول الثالث"، الذي قد يجيب عن سؤال: المنطقة كلها إلى أين؟... طبيعة السر الذي كتمه السيد، تدل على أن السؤال هو بحجم المصير.

تحرر السيد من الاعتبارات اللبنانية الهشة. المعركة لم تعد قابلة للتأويل. هو يرى، منذ البداية، أن أحد جوانب المعركة في سوريا هو تصفية فلسطين، وأن أحد أهداف المعارضة إطاحة سوريا وليس رأس النظام فقط، وأن هذا الاحتشاد الدولي، الذي سرق المعارضة، هو نسخة للاحتشاد الذي حصل إبان عدوان تموز على لبنان وإبان العدوانين على غزة.

لذلك، لم تعد المناورة مقنعة. الجواب عن السؤال: أيهما أهم، الدولة أم المقاومة، بات محسوماً. هذه الدولة هي في ذروة العجز وقمة الفشل في معظم الشؤون تقريبا. هي مدانة بلسان أصحابها. وعجزها من طبيعتها، وليس بسبب المقاومة. الدولة مشروع فاشل والمقاومة واقع منجز ناجح، ولا يضحّى بالناجح إكراماً للفاشل.

لم تعد المناورة مقنعة، ومراضاة المرض السياسي اللبناني القاتل، لم تعد مجدية. تخطى السيد حدود الكيان الهش وتوازناته الركيكة، ووضع الصراع الدولي على سوريا في موقعه الفلسطيني، لا سواه. المطلوب، حسب ما قال، أن تخضع سوريا كلها لمشروع تصفية فلسطين وحزب فلسطين في لبنان، والمتمثل في المقاومة الإسلامية.

هذا التموضع الإستراتيجي، لا يلغي أبداً أن النظام السوري، في رأي أكثرية نظيفة الموقع والفكر والضمير، مسؤول عما آلت إليه أحوال سوريا، وما آلت إليه أحوال السوريين. إن أخطاء النظام منذ اندلاع المعارضة في درعا، راكم الأخطاء والخطايا، ما جعل موقعه الممانع في موقع الخطر عليه وعلى الممانعة وعلى فلسطين.
ماذا بعد؟

إجابات السيد كافية لأمد محدد. يلزم كي تكون مديدة، تجسد ميداني، فلا تبقى المبادرة بيد إسرائيل، ولا يضطر حلف المقاومة إلى رد الفعل الكارثي، أو السكوت بدعوى أن الساعة لم تأتِ بعد. قد تعتدي اسرائيل أكثر، إذا شعرت أن سوريا مكبلة اليدين، وأن للمقاومة حساباتها المستقبلية، ولإيران برنامجاً نووياً وبرنامجاً سياسياً يلتزم حدود السلامة الوطنية.

ماذا بعد؟
الحرب الشاملة مستبعدة. الحروب بالتقسيط لمصلحة إسرائيل؟ فلا يبقى، تحت سماء هذه الأمة، غير المقاومة.
زمن الأنظمة ليس فيه فصل ردعي. وحده زمن المقاومة مفتوح على فلسطين بالفعل لا بالقول.

"السفير"
 

التعليقات