05/06/2013 - 10:28

في ذكرى الهزيمة../ علي جرادات

قصارى القول: في الذكرى السنوية لهزيمة حزيران 1967 ثمة حاجة لمراجعة مرحلة تاريخية ليست قصيرة وغنية بالدروس والعبر، لعل من شأن الإقدام عليها تصحيح المسار والنهوض من جديد. نهوض عنوانه الأساس: الثقة بالشعوب وقدرتها على التغيير، بل وعلى صنْع المعجزات أيضاً

في ذكرى الهزيمة../ علي جرادات

تصير خسارة الحروب هزائم عندما يتم التسليم السياسي بنتائجها. وخسارة النظام الرسمي العربي لحرب عام 1967 مثال، فهي، وإن سُمِّيت "نكسة"، إلا أنها صارت هزيمة عنوانها استبدال شعار "التحرير والعودة" بشعار"إزالة آثار العدوان"، المرادف للتسليم بنتائج النكبة التي بوقوعها صارت الأرض والسيطرة عليها محور الصراع، وأصبحت عودة اللاجئين إلى ديارهم التي شردوا منها جوهر القضية الفلسطينية التي تبقى شاء حكام العرب- "القدامى" منهم و"الجدد"- أم أبوا "قضية العرب الأولى"، وجوهر صراع ترتب على أبشع عملية سطو سياسي عرفها تاريخ البشرية الحديث والمعاصر. عملية سطو، بل عملية تطهير عرقي، وضع المؤتمر الصهيوني الأول خطتها، (1987)، بينما رعتها دول الاستعمار الغربي بدءاً بوعد بلفور بـ"إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، (1917)، وصولاً إلى "وعد" جون كيري، 2013، بتحقيق مطلب الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي" بعد أن صار اليهود فيها يملكون ويستغلون ويسيطرون على 85% من أرض فلسطين. وهو المطلب المساوي لتصفية القضية الفلسطينية رواية وحقوقاً وطنية وتاريخية عبر الإقرار بما حققه المشروع الصهيوني على مدار 115 عاماً على أرض فلسطين من استيطان وتهويد وتفريغ وتغيير للهوية.

لقد شكل اعتماد  شعار "إزالة آثار العدوان" فاتحة تراجعات متلاحقة وصولاً إلى القبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي على أساسه قامت-لاحقاً- معادلة "الأرض مقابل السلام". لكن استئناف الطور المعاصر من الثورة الفلسطينية أرجأ اعتماد معسكر الأنظمة العربية الوطنية لهذه المعادلة، بينما شكل ضرب المقاومة الفلسطينية وإخراجها من الأردن عام 1970-1971، عدا رحيل عبد الناصر، ضربة أخرى لهذا المعسكر، ما دفع المعسكر المحافظ في النظام الرسمي العربي لتصدر المشهد، خاصة بعد استثمار نظام السادات للنتائج الميدانية الإيجابية لحرب 1973 في صفقة "كامب ديفيد"، (1979)، ثم تعميم نهجها في "مؤتمر مدريد"، (1991)، عقب الضربة الأمريكية-العربية القاصمة للعراق بذريعة إخراجه من الكويت، وصولاً إلى احتلاله، (2003)، فتدميره دولة وجيشاً ومجتمعاً.

والأنكى هو تعميم قبول نظام السادات رعاية الولايات المتحدة لمفاوضات "الأرض مقابل السلام" التي تجريها إسرائيل مع كل طرف عربي على انفراد. هذا علماً أنه كان للولايات المتحدة هذه دور متنام في أحداث مفصلية ثلاثة قلبت حياة الشعب العربي الفلسطيني، بل وحياة الشعوب العربية كافة، رأساً على عقب، هي: وعد بلفور، والنكبة، وحرب حزيران 1967.

يقول المفكر الفلسطيني وليد الخالدي: "في سنة 1917 كان ثمة مباركة هامشية لوعد بلفور من طرف الرئيس الأمريكي ويلسون. وفي سنة 1948 كان هناك الضغط العنيد العميق الأثر الذي مارسه الرئيس الأمريكي هاري ترومان على بريطانيا المفلسة والمنهكة من الحرب، والذي أدى إلى إنهائها انتدابها على فلسطين بالطريقة التي انتهى بها، وكانت نتيجته النكبة. أما في سنة 1967 فقد كان دور الرئيس الأمريكي جونسون دوراً حاسماً في الجوهر والشكل والتوقيت من حيث تبنيه بالكامل، وبحذافيرها وأهدافها، الإستراتيجية الإسرائيلية القائمة على إرساء مفاوضات ما بعد وقف القتال من أجل التوصل إلى تسوية سلمية على خطوط وقف إطلاق النار ذاتها، وهي الخطوط التي أوجدتها حرب 5 حزيران/ يونيو 1967 الصاعقة، بحيث ظل أي تقدم سياسي بيد القوة العسكرية الطاغية وبشروطها إلى يومنا هذا". (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 93، شتاء 2013، ص8).    

غير أن هذا المشهد التراجعي السائد في مسيرة النظام الرسمي العربي لم يكن كامل المشهد، بل كان ثمة حالات من الثبات مثَّلها نشوء تحالف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، والصمود الأسطوري في بيروت، (1982)، وإسقاط "اتفاق 17 أيار"، (1983)، والانتفاضة الفلسطينية الشعبية الكبرى، (1987)، وطرد الاحتلال عن أرض الجنوب اللبناني دون شرط أو التزام، والانتفاضة الفلسطينية الثانية، (2000)،  وصولاً إلى انتصار المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله على "الجيش الذي لا يقهر"، باعتراف قادته، (2006).

بهذا يتأكد لنا أن المشهد التراجعي للنظام الرسمي العربي لم يكن قدراً مسلَّماً به، بل كان هنالك بين فترة وأخرى محطات تمرد فيها الحامل الشعبي على أدوات الإدارة الرسمية للصراع، لكن تحكُّم الأخيرة حال دون تعظيم إنجازات الحامل الشعبي وتحويلها إلى انتصارات حاسمة. وفي هذا مبعثٌ لـ"تفاؤل الإرادة" رغم "تشاؤم العقل". ما معنى هذا الكلام؟

ثمة حاجة لإجراء مراجعة سياسية فلسطينية، بالمعنى الإستراتيجي والشامل للكلمة، وبالاستناد إلى دروس مسيرة ما بعد هزيمة 1967 ومآلاتها، كدروس لا بد من استخلاصها، لعل أهمها:

1: مسار النظام الرسمي العربي التراجعي الذي بدأ بهزيمة 1967 صار اليوم أشد خطورة، حيث انتقل من طور التخلي عن واجبه القومي تجاه القضية الفلسطينية إلى طور النظر إليها كعبءٍ يجب التخلص منه. وهو ما يستدعي إعادة الاعتبار للمستوى الشعبي في الصراع. ونتائج انتفاضات الشعوب العربية، هي، وإن بدت في غير مصلحة قضية فلسطين وكفاح شعبها، وهي كذلك في المدى القريب، وربما المتوسط، إلا أنها ستكون على غير هذا النحو في المدى البعيد.

2: استمرار تهويل قدرات إسرائيل الذي أنتجته هزيمة 1967 لن يفضي إلا إلى ذرائع العجز عن مواجهتها.

3: تقديم التنازلات لإسرائيل يفتح شهيتها للمزيد منها. فالاعتراف بوجودها وأمنها كدولة تواصل الاستيطان والتهويد والتفريغ والعدوان وغير محددة الحدود، فتح شهية قادتها على المطالبة بـالاعتراف بها "دولة للشعب اليهودي". وتطبيع العلاقات معها من قبل مَن أبرم معها "معاهدات سلام"، فضلاً عن هبة منْحها مكاتب تمثيل في أكثر من دولة عربية، شجع قادتها على المطالبة بالتطبيع العربي الشامل والكامل كشرط لاستئناف المفاوضات. وهكذا دواليك.

4: في كل مرحلة كانت الوحدة الوطنية ناظماً كان الفعل أكثر نجاعة وجدية. ودروس التوحد الوطني في تجارب الصمود في بيروت والانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية غنية عن الشرح على هذا الصعيد.

5: في كل مرحلة كان العامل الوطني الفلسطيني فاعلاً ومبادراً وثابتاً كان مسار التراجع الرسمي العربي أكثر حذراً وانزواء وخشية من غضب الشعوب العربية، فما بالك بعد أن كسرت الأخيرة حاجز الخوف وصارت لاعباً في رسم السياسة العربية بالمعاني كافة. لاعب تخشاه سلطات الأنظمة العربية كافة، بما فيها سلطات "خاطفي" نتائج انتفاضاتها التي لم تتوقف تداعياتها بعد، ويخطئ كل من يظن أنها بلغت مستقرها. 

قصارى القول: في الذكرى السنوية لهزيمة حزيران 1967 ثمة حاجة لمراجعة مرحلة تاريخية ليست قصيرة وغنية بالدروس والعبر، لعل من شأن الإقدام عليها تصحيح المسار والنهوض من جديد. نهوض عنوانه الأساس: الثقة بالشعوب وقدرتها على التغيير، بل وعلى صنْع المعجزات أيضاً.
 

التعليقات