19/06/2013 - 12:13

حول مذهبة "الإخوان" لمصر الكبيرة../ علي جرادات

بات يقيناً أن نشوء حركة الإخوان المسلمين، كحركة سياسية قبل أي شيء آخر، كان رداً على هذا الانبعاث عبر استثارة الأخلاقي للتغطية على السياسي الحالم باستعادة نظام الملة العثماني

حول مذهبة

في حمأة تجديد مشروع "الفوضى الخلاقة" في الوطن العربي انطلاقاً من سورية بعد العراق وليبيا انبرى الشيخ القرضاوي لإطلاق "عفريت" مذهبي له طاقة الفتك بوحدة الأمة وحرف قوة انتفاضاتها عن اتجاهها وطنياً وقومياً وديمقراطياً. كيف لا؟ وهو شيخ يقود جيشاً من المفتين الذين يطلقون فتاوى تبيح ما لا يستباح من القيم الوطنية والقومية والدينية والاجتماعية إرضاء لـ"سلاطين" البترودولار وتوابع نظام السيطرة والنهب والإخضاع الغربي، والراعي لإسرائيل أيضاً، كنظام قديم المضمون متجدد الشكل.

فتاوى ترجمها باسم أكبر دولة عربية، مصر، السيد محمد مرسي، وكأنه ممثل لمكتب إرشاد "الإخوان" في مؤسسة الرئاسة المصرية، إلى مواقف وسياسات عملية تجاوزت الإدانة والشجب والاستنكار للنظام السوري، إلى إجراءات إغلاق السفارة السورية في القاهرة وسحب القائم بأعمال السفارة المصرية من دمشق، وإلى تأليب الأمة بالدعوة لعقد قمة عربية إسلامية طارئة بذريعة "نصرة الشعب السوري"، وإلى دعوة  مجلس الأمن إلى فرض منطقة حظر جوي في سورية، وصولاً إلى التغطية السياسية الرسمية على دعوات خروج المصريين إلى "الجهاد" في سورية.

ولعلها مفارقة ذات دلالة أن يكون إعلان مرسي لقراراته في يوم ذكرى قيام بطل سوري هو سليمان الحلبي بطعن كليبر، حاكم مصر الفرنسي إبان الحملة الفرنسية على مصر قبل قرنين ويزيد من الزمان. والأشد دلالة هو التزامن غير الصدفي بين قرارات مرسي وقرار أمريكي تصعيدي تجاه سورية، وكأن مرسي الذي لم يكن سوى مرشح "الإخوان" الاحتياطي لرئاسة الجمهورية، لا يقدر أن يطلق موقفاً مستقلاً عن "الإخوان" والأمريكان. كيف لا؟ وهما الطرفان اللذان توافقا ونسقا مسبقاً عملية إيصاله إلى منصب الرئاسة المصرية، ما يفسِّر أن "الإخوان" يُصعِّدون حيث يُصعِّد الأمريكان وعكسه صحيح.

والأنكى هو أن هذا التصعيد- "الإخواني" جوهراً والمصري شكلاً- ضد سورية الدولة إنما يعكس هروب "الإخوان" كحزب حاكم من مسؤوليات وطنية تمليها عليهم استحقاقات قضايا فلسطين المهمشة وسيناء المستباحة وسد النهضة الأثيوبي التعطيشي ومجمل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسة المصرية الداخلية التي ستنعقد عقدتها في 30 حزيران الحالي بحركة شعبية وسياسية ومجتمعية واسعة ترفض "أخونة" مصر الدولة، وتنادي بإقالة مرسي بهدف استعادة الانتفاضة الشعبية المصرية واستكمال مهامها وتحقيق أهدافها في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية والإنسانية.

هروب كهروب مَن "راحت تُعزِّي في عابود وزوجها على النعش ممدود"، بمنطوق المأثور الشعبي الفلسطيني. فمصر المشغول رئيسها وحزبها الحاكم بـ"الجهاد" المذهبي في سورية هي ليست مصر التي كان السد العالي ينيرها، إنما التي تعيش أزمة كهرباء خانقة. ومصر التي لم يوقف رئيسها "الجديد" تصدير غازها إلى إسرائيل بثمن بخس ثمة فيها طوابير هائلة تصطف يومياً على أبواب وكالات بيع الغاز. ومصر المتنطع رئيسها وحزبها الحاكم لقيادة الأمتين العربية والإسلامية نحو "الجهاد" المذهبي في سورية، هي مصر التي بُث حوار قصر رئاستها حول أزمة سد النهضة الأثيوبي على الهواء، ما كشف مدى سذاجة وهشاشة وفقر قيادتها في معالجة قضايا قومية كبرى. ومصر الكبيرة التي قادت -لعقود- ما عاشه الوطن العربي من جيشان قومي ووطني صهر، بدرجة كبيرة، الطائفة والمذهب في بوتقة الوطن والمواطنة، وتجاوز في طموحه حدود وحدة القُطر إلى وحدة الوطن والأمة والدفاع عن قضاياها المركزية، وأولاها قضية فلسطين، تُشغلها اليوم قيادتها "الجديدة" في صراع مذهبي يعم المنطقة ويضلل شعوبها ويحشدها لتقاتلٍ داخلي لا ناقة ولا بعير لها فيها. أما لماذا كل هذا وغيره الكثير مما لم نأتِ على ذكره؟
         
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع تصاعد سياسة التتريك ومظاهر انحلال نظام الملة العثماني، نشأت إرهاصات فكر عربي عقلاني وعروبة سياسية تعززت في مواجهة مشروع الاستعمار الغربي وعنوانه الأساس تقسيمات الوطن العربي وفقاً لاتفاقية سايكس- بيكو ووليدها وعد بلفور المشؤوم، ليكون طبيعياً تراجع ترهات الطائفة والمذهب لمصلحة انبعاث حركة إصلاح ديني ومجتمعي، (مشروع النهضة)، لدرجة أن يطرح أحد رواد هذا الإصلاح، الشيخ المصري، رفاعة الطهطاوي، سؤال العقل الكبير: "لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن"؟ بل وبلغ تركيز هؤلاء الرواد على قضايا الصراع القومي والوطني مع المشروع الاستعماري الغربي درجة أن يجاهر الشيخ الجزائري المجاهد مالك بن نبي بالقول: "والله لو أمرني المستعمرون الفرنسيون أن أنطق بالشهادتين لما نطقتهما".

بالمقابل بات يقيناً أن نشوء حركة الإخوان المسلمين، كحركة سياسية قبل أي شيء آخر، كان رداً على هذا الانبعاث عبر استثارة الأخلاقي للتغطية على السياسي الحالم باستعادة نظام الملة العثماني. وللتدليل لا الحصر نسوق الشواهد التالية:

* بينما خرج المصريون العام 1931 في مظاهرات ضد رئيس وزراء الملك فؤاد، اسماعيل صدقي، رافعين شعار: "الشعب مع سعد" رفع "الإخوان" شعار: "الله مع الملك" بدعوى سعيه إلى إعلان الخلافة، كموقف كرره "الإخوان" في أربعينيات القرن الماضي بمناصرتهم الملك فاروق ضد خطوة مصطفى النحاس إلغاء المعاهدة مع بريطانيا، وبوقوفهم ضد إرادة الشعب المصري حيث ناهضوا إجراءات عبد الناصر المبكرة للإصلاح الزراعي، واصطفوا إلى جانب طبقة الإقطاع وكبار ملاك الأرض، لنكون أمام نقطة البداية في صراع "الإخوان" مع المشروع الناصري القومي التحرري، عموماً.

* بينما دعمت الحركة الوطنية الأردنية في العام 1956 حكومة النابلسي الوطنية  دعم "الإخوان" انقلاب الملك عليها، لنكون أيضاً أمام نقطة البداية من تقاعس "الإخوان"-لعقود- عن الانخراط في الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، بل ومناهضتهم لها، بينما دعمتها شعوب الأمة كافة، ناهيك عن انشغالهم في "الجهاد" ضد "الكفر" في أفغانستان وغيرها من دول العالم، ليساهموا في تغذية "عفريت" تيار تكفيري متطرف جاهل إرهابي صنعته في بداية ثمانينيات القرن الماضي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، السي.أي. إيه، بالتعاون مع أجهزة مخابرات دول غربية وإقليمية وعربية شتى، في مقدمتها الباكستان والسعودية.

* بينما وقفت الشعوب العربية وعدة أنظمة عربية، منها النظام السوري، ضد محاولات تعميم نهج معاهدة كامب ديفيد، 1979، وقف "الإخوان" من باب رد الجميل لنظام السادات الذي استخدمهم في مواجهة الناصريين واليساريين الرافضين لتلك المعاهدة، ضد النظام السوري، لنكون أيضاً أمام نقطة البداية في صراع الطرفين الدموي الذي انطلق بشرارة تفجير مدرسة المدفعية في حلب وأودى بحياة عشرات الضباط.

* قبل الحراك الشعبي العربي نمت في أحشاء مجتمعات الاستهلاك العربي المترف، والخليجية منها بالذات، نخب اتخذت من دورها ومكانتها الاجتماعية وسيلة لتعميم فكر محافظ، كيلا نقول رجعياً، وجد في الفقر والبطالة والجوع والأمية والجهل تربة خصبة لنشر أفكار لم تكن منسجمة مع ثقافة المجتمع بقدر ما كانت تنفيساً لغل الطبقات الشعبية على مستغليها من طبقات اجتماعية أخرى، تجلى ذلك، (مثلاً)، في أحداث العنف الطائفي في مصر وفي التذبيح الطائفي والمذهبي في العراق. وكل ذلك في إطار إستراتيجية "الفوضى الخلاقة" التي برعت في استخدام الطائفة والمذهب. ومع انطلاق هذا الحراك ساد أمل واقعي بتراجع هذا التيار، لكن استخدام الأمريكان وحلفائهم الدوليين والإقليميين والعرب الخليجيين ومعهم "الإخوان" لهذا التيار، أحبط هذا الأمل لدرجة أن نكون إزاء مشهد سياسي عربي تطفو على سطحه ظاهرة القعود في مغارة المذهبية والطائفية المظلمة. مغارة أدخل مرسي بقراراته الأخيرة مصر الكبيرة فيها بغرض التغطية على عجز نظامه عن الاهتمام بقضايا الأمة المركزية، وأولاها قضية فلسطين، وبقضايا الشعوب العربية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمصلحة التركيز على قضايا هامشية مفتعلة تتعلق بعادات وقيم وسلوكيات تتغير بتغير الواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي، وبغرض حرف الأنظار عن نظام "إخواني" مُستَغْرَق في نظام تقسيم العمل الدولي، ويلعب دور الوكيل لنظام السيطرة والنهب الغربي بقيادة الولايات المتحدة. نظام أبوي صارم يعبد نصوصاً تنتقل في التطبيق إلى مرشد يكتسب بفضل ذلك قدسية تفرض طاعة عمياء، وانشغالاً في مظاهر من القيم والأخلاق لدرجة تصبح معها استباحة فلسطين وشعبها، وتعميق انتهاك سيادة مصر واستقلالها وتحويل اقتصادها إلى اقتصاد تصديري استهلاكي تابع أقل شأناً من قضية لبس النقاب. 
 

التعليقات