29/06/2013 - 17:12

ثورة في مهب الريح../ ميشيل كيلو

لم يعد هناك من وصف مؤسف ينطبق اليوم على الثورة السورية غير الإقرار بأنها غدت "ثورة في مهب الريح"، أو بالأحرى، في مهب رياح عاتية تعصف اليوم بها من كل حدب وصوب، أشدها خطرا على الإطلاق تلك التي تهب عليها من فوق: من جهات وضعت يدها على قيادتها قبل نيف وعامين وتلعب فيها اليوم أيضا أدوارا جد مهمة إذا لم أقل حاسمة، قادتها إلى حافة الهاوية

ثورة في مهب الريح../ ميشيل كيلو

لم يعد هناك من وصف مؤسف ينطبق اليوم على الثورة السورية غير الإقرار بأنها غدت "ثورة في مهب الريح"، أو بالأحرى، في مهب رياح عاتية تعصف اليوم بها من كل حدب وصوب، أشدها خطرا على الإطلاق تلك التي تهب عليها من فوق: من جهات وضعت يدها على قيادتها قبل نيف وعامين وتلعب فيها اليوم أيضا أدوارا جد مهمة إذا لم أقل حاسمة، قادتها إلى حافة الهاوية.

لا أعتقد أنه يوجد اليوم من لا يرى الرياح وهي تعصف بالثورة، والجهات التي أسهمت في إيصالها إلى حيث هي الآن، شبه مكشوفة أمام منعطف مصيري لا شك في أنه سيصير قاتلا، إن هي لم تبادر إلى إصلاح أحوالها، أو إذا لم تحدث معجزة دولية ما، وإلا غدا إخراجها من مأزقها الحالي ضربا من المحال، وأصيب من سيأتون بعدنا بالدهشة بسبب ما وقع قادتها فيه من أخطاء، وما أبدوه من عجز عن إصلاحها، على الرغم من تعالي أصوات طالبتهم في الماضي وتطالبهم اليوم، تضم عسكريين من مختلف الرتب والمواقع، وسياسيين من شتى التيارات، فضلا عن ملايين المواطنات والمواطنين، ممن أصيبوا باليأس لما آلت إليه ثورتهم وحالهم، بعد أن وقع ما لم يكن في حسبانهم، فاقتلعوا من جذورهم، وتركوا لمصير بائس مكن إرادات دولية وعربية وداخلية من التلاعب بلقمة عيشهم وحقهم في الحياة، إضافة إلى تحويلهم من لاجئين إلى مشردين تقطعت بهم السبل، وصاروا عرضة لمظالم شتى لا تقل فظاعة عن تلك التي كان النظام ينزلها بهم، كأنما كتب على شعب سوريا أن يتعرض للموت بأكثر الطرق وحشية وإذلالا، لمجرد أنه ارتكب جريمة المطالبة بما توهم أنه حقه (الحرية)، وسبق لشعوب كثيرة أن نالته دون عقاب.

والغريب أن الثورة، التي بلغت هذا المأزق، تمتلك اليوم مئات آلاف المقاومين والمناضلين، الذين يضحون بأرواحهم في سبيل نصرتها وتحقيق أهدافها. إن هؤلاء الذين يخوضون معركة الحـرية يرون بأم أعينهم عجزهم عن تحرير ثورتهم من أخطائها، ومع ذلك يريدون أن يظلوا حملتها ووقودها، وأن لا يتخلوا عن حقهم في الاستشهاد من أجل قيمها ومقاصدها، بل إنهم يمعنون في الالتـصاق بها والإصرار على انتصارها، لأنهم لا يرون أنفسهم إلا بدلالتها، على العكس ممن يتولون قيادتها ويرونها بدلالة ذواتهم وأحزابهم ومصالحهم، ويسهمون، لهذا السبب بالذات، في دفعها نحو الهاوية، غير آبهين بمصيرها، ما دامت خياراتهم السياسية ورغباتهم الحزبية والأيديولوجية، تتحقق على حساب أهدافها وخياراتها.

لو أردنا أن نضرب مثالا على انحطاط العقل الذي يقود الثورة، لوجدناه في ردود أفعال تيارات معارضة مهمة على سقوط القصير. بداية، نحن في حرب، وفي الحرب يتعرض المتقاتلون إلى الربح والخسارة، ينتصرون في معارك وينهزمون في غيرها. لكن العقل المنحط لم يحسب حسابا لهذه الواقعة البسيطة، بل ركبته فكرة سخيفة ترى أن الثورة تنتقل من انتصار إلى آخر، لمجرد أنها ثورة، وأنها تفعل ذلك دوما، حتى إذا لم تتوفر لها شروط الانتصار ولم يكن لمقاتليها سلاح وطعام وتنظيم عسكري وقيـادة خبـيرة. وكـان قد سبق أن تحادثت مع أحد هؤلاء "الانتصـاريين"، فقال لي: نحن حذفنا كلمتي الهزيمة والانسحاب من قاموس الثورة .عندئذ، هنأته بالنـجاة من صحـبة جبناء متخاذلـين لطالما خاضـوا معارك هزمـوا في بعضها وانسحبوا أمام أعدائهـم في بعضها الآخر، حين كانت الحرب تفرض عليهم الانسحاب، وكانوا يرون في الهزيمة موقعة عسكرية، ويعتقدون أن من واجبهم أخذها بالحسبان لينجحوا في تحاشيها، ويعتبرون الانسحاب ضرورة عسكرية. عندما أبدى بطل الكلام المغوار سروره لأقوالي، ذكرت له أنه كان بين هؤلاء الجبناء خالد ابن الوليد، والاسكندر الأكبر، وهانيبعل، ونابليون، وجوكوف، وكوتوزوف، ورومل... الخ.

لو كان عقل هؤلاء عقلانيا، لقالوا إن موازين القوى ستحتم هزيمة المقاومين في القصير، إذا لم تتوفر لهم قوة معدة مسبقا وتكفي لدحر جيش رسمي وقوات تابعة لـ"حزب الله". من دون توفـر هـذه القـوة، لا يجـوز قياس المعركة بتحقيق انتصار مستحيل، بل بقدرة المقاومة على الصمـود واستنـزاف العـدو، وقـدرة القيادة على إمدادهم بمقومات القتـال الضـرورية لذلك. هذه الحقائق البسيطة لم يوجد من يحترمها، لذلك قرأنا كلاما يسخر من ما يسميه "الانتصار في توسعة الائتلاف" وما شابه من قضايا خارجة تماما عن موضوع القصير، دون أن نفهم العلاقة بين التوسعة والهزيمة.

والآن، إذا كان العقل الفاسد يرفض رؤية المهم والرئيس والحقيقي، فإني أبشره بقصيرات جديدة قد لا يكون وقوعها بعيدا، ما دامت أسباب سقوطها تفعل فعلها في كل مكان من سوريا، ومن المحتم أن تفضي إلى النتائج عينها، التي رأيناها في المدينة الشهيدة، ما لم تتم مبادرة فورية إلى تصحيحها من خلال سياسات صائبة.

من علامات الهزيمة إنكار وقوعها، ورؤيتها بأعين لا تميز بين الأشياء، وقطع الصلات بين أسبابها ونتائجها، وتحليل الأحداث بأساليب تعتمد النق والشكوى وازدراء الوقائع، وتغليب الانفعالات الشعورية على الرؤية الصاحية، وتنكر القيادات لمسؤوليتها عنها أو إلقاء المسؤولية على الآخرين: أكانوا أعداء خارجيين أم حلفاء ومساعدين وأتباعا... الخ .هذه العلامات موجودة اليوم بوفرة في رؤى المعارضات السورية، وتعد دليلا دامغا على حاجتها إلى مبارحة وضع دفعها النظام إليه عن عمد، لتصل إلى موقع تصير قابلة للهزيمة فيه، سواء في مكان محدد وصغير كالقصير أم في عموم سوريا. وللعلم، فإن الثورة تتجه بهذا القدر أو ذاك من السرعة نحو هذا الموقع، كأن بعض قياداتها قرر نحرها، وإلا كيف نفسر هذا القبول العام بالحال السيئة الراهنة، التي لا يوجد سوري واحد يشك في أنها انحدارية وأن نتائجها ستكون انتحارية؟ وما الذي يبرر الموقف السلبي حيالها، مع أن الجميع يرون اتجاه الثورة نحو استعصاء مرعب يتحول تدريجيا إلى مأزق قاتل، يستطيع كل ذي عينين أن يرى بوضوح أنها لم تعد على الهاوية، بل شرعت تنزلق إلى جوفها خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد أن تحولت من السلمية إلى العسكرة، وتعايشت لفترة مع أخطاء سياسية نجح تصاعد المقاومة وحجم التضحيات الشعبية الهائل في امتصاصها وحجب نتائجها عن الأنظار، وعندما بدأ هذان بالتراجع تحت الضغط العسكري والسياسي السلطوي / الإقليمي / الدولي، بانت فداحة الأخطاء ودخلنا في آلية تفاعلية حدها الأول سياسات متعثرة وفاشلة، وحدها الثاني عسكرة وصلت إلى نهاية ما تستطيع إعطاءه بقوة تنظيماتها وخططها. وها نحن نواجه مأزقا حرجا يبدو وكـأن أحدا لا يمتلك إرادة الخروج منه، مع أننا نقر جميعا بوجوده، ونعرف كيف نستطيع مبارحته ووضع حد له. أليس من علامات هزيمة الثورة أن تعرف أخطاءها وتعجز في الوقت نفسه عن التخلص منها؟

ما هو سبب موقفنا الغريب العجيب هذا؟ اعتقد أنه بالدرجة الأولى استسلامنا للخارج، والتخبط في أولوياتنا التي لم تعد تتمحور على الداخل، ولا تعرف كيف تتفاعل معه بطرق ناجعة تعكـس قدرتنا على تعبئة قواه ضد النظام بدل بعثرتها تحـت وطـأة خلافات تمعن في تشتيتها، رغم أن مد شعبنا الثوري تصاعد طيلة عام ونصف العام إلى ذرى لم يبلغها أي شعب آخر ثائر، ووزن الخارج المقرر رغم تعارض أهدافه مع هدف الثورة الديموقراطي، واستحالة أن يقود عشرون تنظيما وجهازا متناقضين متصارعين ثورة تخوضها آلاف الكتائب والألوية المتنافسة المتصارعة في أحيان كثيرة، وأخيرا الافتقار إلى مرجعية تضبط الفوضى التنظيمية والقيادية والميدانية، هل نستغرب بعد هذا أن تكون ثورة سوريا في مهب رياح تعصف بها، تجعل إنقاذها إنقاذا لكل فرد منا، ولدولتنا ومجتمعنا، وتأجيله خيانة لشعبنا، الذي بذل جهدا يفوق طاقة البشر وتحمل آلاما لا يطيقها قوم، ليصحح أخطاء قياداته، التي يجب أن تبادر إلى إخراجه من محنته.

وصلت الثورة السورية إلى نقطة مفصلية وخطيرة، بفضل سياسات بدلت طابعها كثورة من أجل حرية شعب سوريا الواحد. ثمة سؤال يطرحه هذا الخطر: هل يمكن إنقاذ ثورة بالسياسات والقيادات التي تفرض عليها الفشل؟

"السفير"

التعليقات