19/08/2013 - 10:56

مصر: وقفة قبل المنحدر../ مصطفى اللباد

دخلت مصر في الأسبوع الماضي مرحلة جديدة في تاريخها، بعد فض اعتصامي "رابعة العدوية" و"ميدان النهضة" بالقوة، ما خلّف مئات القتلى والجرحى، ودشّن حرباً مفتوحة بين مؤسسات الدولة المصرية وجماعة "الإخوان المسلمين" في طول الجغرافيا المصرية وعرضها

مصر: وقفة قبل المنحدر../ مصطفى اللباد

دخلت مصر في الأسبوع الماضي مرحلة جديدة في تاريخها، بعد فض اعتصامي "رابعة العدوية" و"ميدان النهضة" بالقوة، ما خلّف مئات القتلى والجرحى، ودشّن حرباً مفتوحة بين مؤسسات الدولة المصرية وجماعة "الإخوان المسلمين" في طول الجغرافيا المصرية وعرضها.

تغيرت موازين القوى على الأرض لغير مصلحة الجماعة، بحيث إن مسألة إدماجها في العملية السياسية بالشروط الجديدة لم تعد أمراً مطروحاً حتى نظرياً، بل أصبح مرجحاً جداً المضي في إقصاء الجماعة من المشهد السياسي حتى النهاية. ستشكل الكلفة السياسية الكبيرة لاعتماد الحل الاستئصالي في التعامل مع الجماعة الراغبة في المقارعة بدم أنصارها، تحدياً كبيراً للسلطة الجديدة في مصر خارجياً وداخلياً، ما يجعلها تقترب من منحدر دخلته سوريا من قبلها، مع اختلاف الفاعلين والظروف والدوافع. مع التنويه الواجب إلى أن عنوان المقال مقتبس من رائعة الأديب المصري الكبير علاء الديب التي كتبها قبل سنوات.

توازنات القوى الداخلية

يعيش المجتمع المصري راهناً استقطاباً حاداً، فالمعركة الدائرة الآن تعرف طرفين بارزين: الدولة المصرية بمؤسساتها وأجهزتها وتياراتها السياسية من ناحية، والتيار الإسلامي وفي القلب منه جماعة "الإخوان المسلمين" من ناحية أخرى. وعلى العكس من مرحلة السيولة السياسية التي عرفها المشهد السياسي المصري منذ سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، التي تبدلت فيها التحالفات بين الأطراف المختلفة، يبدو الآن بوضوح أن خيار التصعيد يسير بالمصريين في طريق إجباري والاختيار الحصري بين أحد الطرفين.

بكلام مغاير، لم يعد الصراع قائماً على قاعدة الوصول إلى تفاهمات بين أطراف العملية السياسية في ضوء موازين القوى الجديدة، وإنما في طريق صراع لا ينتهي إلا بالقضاء على أحد طرفيه، وهنا مكمن الخطر. لا تمالي هذه السطور في انحيازها إلى الدولة المدنية المصرية في مواجهة جماعة أثبتت خلال عام كامل فشلها الذريع، وأظهرت نزعاتها الإقصائية وكشفت أجندتها السرية في تغيير حياة المصريين وطرق معيشتهم، بالترهيب وعدم احترام القانون والحنث بالوعود، ولكنها تختلف مع طريقة إدارة الانتصار الذي أحرزته غالبية المصريين بإزاحة محمد مرسي عن السلطة في 3 تموز 2013.

كان الأجدى المزج بين السياسي والأمني بدلاً من اعتماد الأخير فقط، لأن ذلك الحل كان الأقل كلفة بوضوح. والآن، ومع تغليب لغة القوة من الطرفين، تبدو الأزمة سائرة في اتجاه معادلة صفرية، فيها رابح بكل شيء وخاسر لكل شيء. غامرت الجماعة بمستقبلها السياسي وتنظيمها الحديدي، واعتقدت أن الدعم الغربي والإقليمي وعديد منسوبيها، سيسمح لها بالضغط على السلطة الجديدة لعودة الرئيس المعزول محمد مرسي بالتظاهرات والعنف وإحراق الكنائس. وساهمت الوساطات الإقليمية والدولية لحل الأزمة على مدار الشهر الماضي في تعزيز هذا الانطباع لدى قياداتها، وفاتها أن مؤسسات الدولة المصرية لم تكن في أي وقت سابق خلال العقود الثلاثة الأخيرة محاطة بهذا القدر من التأييد الشعبي والحزبي، كما تتمتع به الآن.

وعلى الناحية المقابلة، كان الأجدى بالسلطة الجديدة في مصر وضع الأطر والقواعد والشروط لمشاركة أفراد من الجماعة في العملية السياسية الجديدة، بحيث تثبت انتصارها السياسي المتحقق بعزل مرسي وتمنع الانجرار إلى عمليات عنف سيدفع ثمنها الشعب المصري كله، لا أنصار الجماعة ومؤيدوها فقط. كما أن استعمال القوة في فض الاعتصامين والدم الغزير الذي سال جعلا المواجهة قائمة بين الدولة ومؤسساتها والتيار الإسلامي بأكمله، وهو تيار له أنصار ومؤيدون في أنحاء مصر، ما ينقل المواجهة الأمنية إلى طول الجغرافيا المصرية وعرضها، وهو ثمن كبير تشكل حالة الطوارئ وحظر التجوال عربوناً له وليس كامل ثمنه. بدوره، يدفع غياب الحل السياسي إلى اعتماد الحل العنفي من الطرفين، ما يفتح الباب أمام المزيد من التدهور الأمني، حتى مع تأكيد خبراء قريبين من السلطة الجديدة "قرب انتهاء الأزمة وتحقيق الانتصار النهائي والكامل على الجماعة ومؤيديها".

العامل الدولي

تقول القراءة المتأنية للتحركات الدولية بشأن الأزمة المصرية إنها غير موحدة على موقف واحد، سواء مع هذا الطرف أو ذاك. وتتصدر الولايات المتحدة الأميركية بحكم موقعها العالمي قائمة الفاعلين المنخرطين بشكل أو بآخر في الأزمة، ويليها الاتحاد الأوروبي، فيما تحجم روسيا والصين عن اتخاذ موقف صريح من الأزمة، مع التسليم بعدم انحيازهما بأية حال إلى جماعة "الإخوان المسلمين". أما دولتا الجوار الإقليمي، تركيا وإيران، فتنحازان إلى الجماعة بوضوح، مع وضوح في التحركات الدولية لتركيا الرامية إلى فرض حصار ديبلوماسي على السلطة الجديدة في مصر.

نسقت واشنطن مواقفها، بحيث يتخذ أوباما ووزير خارجيته كيري موقفاً متأرجحاً من الأزمة بعد سقوط رهان الإدارة على الجماعة، وذلك خشية فقدان التأثير بالكامل في السلطة الجديدة. لذلك تعطي الإدارة تصريحات تعترف ضمناً بالسلطة الجديدة وتدعو للحل السياسي، فيما تترك السناتور جون ماكين ليدين إطاحة مرسي ويصفها "انقلاباً عسكريا"»، في غموض متعمد وتقسيم واضح للأدوار.

أما الاتحاد الأوروبي الذي حاول التوسط في الأزمة، فموقفه قريب من الإدارة الأميركية ولم يتخذ مواقف واضحة، فهو من ناحية يتحدث عن "شرعية الصناديق" ومن ناحية أخرى يدين الاعتداء المتكرر على الكنائس من قبل أنصار الجماعة. هنا يمكن القول بأن الطرفين ينتظران نتيجة المعركة الدائرة على الأرض لبلورة موقف يتماشى مع موازين القوى الجديدة، بمعنى الاعتراف الكامل بالأمر الواقع مع خسارة الجماعة على الأرض، أو التدخل بمبادرات للتسوية إذا ما أثبتت الجماعة قدرتها على استنزاف المؤسسة الأمنية واستعصت على الهزيمة الكاملة. بمعنى آخر، يبقى السيناريو الأمني ونجاحه من عدمه مرجحاً لمواقف أميركا والاتحاد الأوروبي في التعاطي مع المشهد المصري، ما يدفع الطرفين المتصارعين ضمناً إلى المزيد من محاولات حسم المعركة على الأرض.

الخلاصة

يبدو طريق الحل السياسي صعباً الآن، بعد الدماء التي سالت من الطرفين، ما يفتح الباب واسعاً أمام استمرار المواجهات لحسم المعركة على الأرض. وبدورها تدفع المواقف الغربية إلى المزيد من ترجيح سيناريوهات الحسم بالقوة، ما يجعل المواجهات الدامية عنواناً وحيداً للأسابيع المقبلة. ميّزت الاستهانة بالإدانات الدولية التي صدرت من دول مثل الدنمارك وموريشيوس والإكوادور باعتبارها غير وازنة وغير مؤثرة في المشهد الدولي، طريقة ردة فعل الإعلام المصري. وطغت حقيقة أن جلسة الاستماع في مجلس الأمن الدولي حول الحالة المصرية غير ملزمة، على حقيقة أخرى مفادها أن هناك تراكماً سلبياً يجري في أروقة المنظمات الدولية، سواء الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي أو حتى منظمة التعاون الإسلامي، لإعداد ملف عن "الحالة المصرية" قريباً. وبدوره يؤدي هذا التراكم الكمي وغير المؤثر حتى الآن إلى تراكم كيفي سيكون مؤثراً بقدر أو آخر في الأسابيع المقبلة، وهو درس قدمته الحالة السورية في بداية الحراك هناك، ثم تطور بمرور الوقت ليصبح العنوان الرئيس للأزمة في ضوء عدم قدرة الطرفين السوريين على الحسم النهائي على الأرض.

انتهى مستقبل جماعة "الإخوان المسلمين" السياسي في مصر خلال السنوات المقبلة، سواء كممثل في قصر الرئاسة أو كتنظيم سيتم حله قريباً، ولكن فض الاعتصامين بالقوة وبمئات القتلى وآلاف الجرحى - وهي كلفة سياسية وأخلاقية باهظة - سيثبت "مظلومية" جديدة للجماعة في عيون أنصارها. ومن وجه ثان تعطي سياسة الاستئصال الجارية الآن "قبلة حياة" مخضبة بالدم لجماعة قاربت على الموات السياسي، ولم يعد أمامها من طريق سوى المقامرة بدم المصريين وبمقدرات الوطن.

"السفير"
 

التعليقات