25/09/2013 - 11:17

بإعادتها لصانعها الفعلي تُحَلُّ أزمات غزة../ علي جرادات

إن حلاً شافياً لأزمات فلسطينيي غزة ومأزق "سلطة" "حماس" فيها، ومثلها أزمات فلسطينيي الضفة ومأزق "سلطة" "فتح" فيها، لا يمكن أن يكون إلا بإعادة هذه الأزمات والمآزق إلى صدر صانعها الفعلي، أي الاحتلال. أما المقدمة التي لا مناص منها لبلوغ ذلك فهي توافر إرادة سياسية وطنية فلسطينية جادة وجدية لإنهاء الانقسام الداخلي. فهل من مجيب؟

 بإعادتها لصانعها الفعلي تُحَلُّ أزمات غزة../ علي جرادات

لا شك في أن حركة "حماس" اليوم في مأزق. ومما لا شك فيه أيضاً هو أن هذا المأزق ليس نبتاً شيطانياً، ولا هبط من السماء فجأة، بل له أسباب ومقدمات عامة وخاصة أنتجته. لذلك يجوز القول: إن مأزق "حماس" الخاص لم يكن رغماً عن تاريخ طريقة إدارة الحركة لتناقضات مرحلة التحرر الوطني، بل بفضل هذا التاريخ، ذلك رغم أن هذا لا ينفي حقيقة أن مأزق "حماس" يبقى  في التحليل الأخير أحد تجليات ما تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية من مأزق عام متعدد الأبعاد والأوجه. لذلك، بعيداً عن تناول مأزق "حماس" وكأنه نتيجة مؤامرة خارجية ليس إلا، أو كأنه لا يرتبط بالمأزق الوطني العام من قريب أو بعيد، فإن ثمة في تجربة حركة "حماس" وما آلت إليه من مأزق ما يحث العقل على البحث بغرض استخلاص الدروس واجتراح الحلول الوطنية الشافية ليس لمأزق "حماس" الخاص، فحسب، إنما لمأزق الحركة الوطنية العام، أيضاً. أما لماذا وكيف؟

   إن اختزال ما يعانيه فلسطينيو غزة من أزمات في ما نجم منها عن توترات علاقة قيادة "حماس" مع سلطة  مصر الانتقالية الجديدة، إنما يساوي-عملياً- تغييب الفاعل الأساس في هذه الأزمة، أي الاحتلال، ويقود سيان: بوعي أو بجهالة، إلى التغطية على غياب الإرادة السياسية لإنهاء الانقسام الداخلي الذي يتعذر معه، بل يستحيل، إطلاق عملية مجابهة وطنية سياسية وميدانية جادة مع احتلال عدواني توسعي ما انفك يستبيح كل ما هو فلسطيني، إن في غزة بفرض الحصار وشن الاعتداءات العسكرية، أو في الضفة، وقلبها القدس، بمواصلة سياسة الاستيطان والتهويد والتمزيق والاجتياح والقتل والاعتقال وتدمير الممتلكات والاعتداء على المقدسات، أو في الأراضي المحتلة عام 1948 باستكمال مخططات التهويد والتطهير العرقي وآخر فصوله العمل على التهام نحو 800 ألف دونم من أرض النقب. هذا ناهيك عن كل ما يجري للفلسطينيين في مخيمات اللجوء ومواقع الشتات من استباحات ومس بالكرامة وتقتيل وإعادة تهجير وتنكر لأبسط الحقوق الانسانية. إذاً، كما أن أزمات الضفة، وقلبها القدس، ناجمة بالأساس والجوهر عن استمرار احتلالها واستباحتها، فإن استمرار احتلال غزة، وإن "عن بُعْد"، أي بحصارها والتحكم بها براً وجواً وبحراً، هو السبب الأساس فيما يعانيه سكانها اليوم، كما الأمس، من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية متداخلة.

   لكن، بقدر ما يتعلق الأمر بأزمات فلسطينيي غزة وتفاقمها في الآونة الأخيرة، وبعلاقة كل ذلك بحركة "حماس" ومأزقها، فإن بوسع المرء الإشارة  -أساساً وجوهراً- إلى الحقائق التالية:

1: لئن كان من الحذق السياسي أن تستدير قيادة حركة "حماس" نحو المشاركة في الانتخابات "التشريعية" الفلسطينية الثانية بغرض "التذاري" بشرعية "السلطة الفلسطينية" بعد أن تعرضت الحركة، ككل حركات المقاومة الفلسطينية، وحركات "الإسلام السياسي" منها بالذات، إلى حملة "الحرب على الإرهاب" التي شنها الغرب بقيادة أمريكية، واستثمرها شارون، في أعقاب "غزوة" بن لادن غير الميمونة في 11 أيلول 2001، فإن مطَّ قيادة "حماس" لهذه الاستدارة إلى درجة تأبط الإدارة المنفردة لـ"السلطة الفلسطينية" بعد الفوز المفاجئ في تلك الانتخابات قد أظهر أن تلك الاستدارة لم تكن تكتيكاً، الأمر الذي حولها، أي الاستدارة، إلى خطيئة إستراتيجية، فحواها: أن حركة "حماس" بذلك صارت في وضعية من هرب من "الدلف" إلى "المزراب"، أي أن قيادة "حماس" هربت من الضغط على تنظيمها المقاوم ومصادر تمويله إلى الضغط على برنامجها السياسي. وأكثر، إذ لئن كان صحيحاً "أن حزباً لا يسعى إلى استلام السلطة لا يعرف من السياسة غير اسمها"، فإن اسلتهام قيادة حركة "حماس" لهذا الصحيح، وسحبه على واقع "السلطة الفلسطينية الانتقالية" المنتهي عمرها الزمني منذ أيار 1999، عموماً، وعلى واقع جزء هذه "السلطة" في غزة المحتلة والمحاصرة، خصوصاً، قد حول هذا الصحيح إلى خطأ، بل إلى خطيئة وضعت الحركة، بوعي أو بجهالة، في وضعية المسؤول المباشر عن حل أزمات ومشاكل حياة فلسطينيي غزة التي خلقها، ولا يزال يخلق المزيد منها في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن احتلال غاشم عدواني وتوسعي.

2: إن قيادة "حماس" التي تأبطت إدارة غزة نسيت أو تناست حقيقة أن غزة ما زالت محتلة، وأن حسم "السلطة" فيها بوسائل عسكرية في حزيران 2007 إن هو إلا حسم لجزء من "سلطة انتقالية" وافقت حكومة إسرائيلية بقيادة رابين في العام 1994 على  نشوئها بصيغة "غزة وأريحا أولاً"، وفقاً لتعاقد "اتفاق إعلان المبادئ"، أوسلو، هذا بينما رفضت تلك الحكومة وكل الحكومات الإسرائيلية اللاحقة مطلب إنهاء الاحتلال، وألغت بذلك-في الواقع- كل إمكانية لتطوير هذه السلطة إلى دولة فلسطينية مستقلة وسيادية، ولو منزوعة السلاح على الأراضي المحتلة عام 1967، حيث عملت حكومات إسرائيل المتعاقبة على توظيف عشرين عاما من المفاوضات في مخطط استكمال استيطان الضفة، وقلبها القدس، وتهويدها وتمزيقها وفصلها، وهنا الأهم، عن غزة المراد إبقاء مصيرها مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما في ذلك الاحتمال الذي يفضله قادة إسرائيل، أي إعادتها من جديد، ولو بصيغة الأمر الواقع، إلى حضن مصر التي لم يعد بوسع نظامها حتى لو أراد، وأياً كان لونه، قبول ذلك، ببساطة لأنه يساوي التورط في مخطط قادة إسرائيل لتكريس فصل غزة عن الضفة على طريق تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما لم يقبل التورط فيه حتى نظام مبارك، "ذخر إسرائيل الإستراتيجي" كما وصفه علناً أحد قادتها، فما بالك أن يقبله نظام ما بعد إطاحة مبارك ومن تسلم السلطة بعده على يد ثورة شعبية ما انفكت موجاتها تتلاحق؟

3: من كل ذلك يتضح أن إقدام قيادة حركة "حماس" على خطوة الحسم السياسي بوسائل عسكرية لـ"السلطة" في غزة كان "خطوة انتحارية" قادت بتداعياتها إلى ما تعيشه الحركة اليوم، ويعيشه معها فلسطينيو غزة، من مأزق آخذ بالتفاقم في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن. هذا، حتى لو أخذنا برأي رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل الذي برر تلك الخطوة آنذاك باعتبارها "خطوة اضطرارية"، ذلك ببساطة لأن حال قيادة "حماس" هنا يشبه حال طيار عرف بدقة ظروف موقع اقلاع طائرته، لكنه لم يعرف إلا ما هو ضبابي عن ظروف موقع هبوطها. ولعل أهم ما غاب عن ذهن قيادة "حماس" آنذاك هو حقيقة أن استلام سلطة تحت الاحتلال لا يلبيه مجرد الاستيلاء على مقار أمنية، وأن حل منفذ "الأنفاق" لتوفير متطلبات إدارة شؤون سكان غزة المحاصرة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، هو حل غير ناجع، فما بالك أن يكون دائماً، وأنه، بالتالي، كان لا بد ويصطدم، تقدم الأمر أو تأخز، بحقيقة ما آلت إليه سلطة "حماس"، ومعها فلسطينيو غزة، من مأزق لا يمكن الخروج منه إلا بتغيير خط السير. أما لماذا؟

   ليس في سالف تجربة "سلطة" حركة "حماس"، فقط، بل في التجارب السياسية كافة، أيضاً، كثيراً ما يتم نسيان أو تناسي الفرق الجوهري بين الأزمة والمأزق، وهو- أساساً- أن الأزمة تعني مصاعب يمكن تجاوزها باتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير، ودون الحاجة إلى تغيير خط السير، بينما المأزق يعني الوصول إلى طريق مسدود لا يمكن تجاوزه إلا  بمغادرة خط السير الذي قاد إليه. و"سلطة" حركة "حماس" في غزة المحاصرة لا تعيش اليوم أزمة، إنما مأزقاً هو- برأيي- نتيجة حتمية لخط سير لم نشر أعلاه إلا إلى محطاتة الأساسية التي أظهرت ما قاد إليه خط السير هذا من خلل بنيوي في إدارة الصراع مع الاحتلال، سواء لجهة علاقة الإستراتيجي بالتكتيكي، أو لجهة علاقة الرئيسي بالثانوي من التناقضات في النضال الوطني الفلسطيني الذي لم يتكلل بعد بانجاز أهدافه في الحرية والاستقلال والعودة. بقي القول: إن حلاً شافياً لأزمات فلسطينيي غزة ومأزق "سلطة" "حماس" فيها، ومثلها أزمات فلسطينيي الضفة ومأزق "سلطة" "فتح" فيها، لا يمكن أن يكون إلا بإعادة هذه الأزمات والمآزق إلى صدر صانعها الفعلي، أي الاحتلال. أما المقدمة التي لا مناص منها لبلوغ ذلك فهي توافر إرادة سياسية وطنية فلسطينية جادة وجدية لإنهاء الانقسام الداخلي. فهل من مجيب؟   

التعليقات