11/12/2013 - 11:16

حول الانتفاضة الكبرى والدولة المستقلة../ علي جرادات

مواجهة هاتين الحقيقتين بجدية وشمولية، سياسياً وميدانياً، فلن تكون إلا بالكف عن التفاوض مع استمرار الاستيطان، وبإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني

حول الانتفاضة الكبرى والدولة المستقلة../ علي جرادات

لا عجب في ألا ينصب ضغط إدارة أوباما ولسانها وزير خارجيتها، جون كيري، على حكومة نتنياهو لوقف استكمال مصادرة واستيطان وتهويد ما تبقى بيد الفلسطينيين من أرضهم إن في الضفة والقدس أو في الجليل والمثلث والنقب، بل على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لإجبارها على قبول المطالب الأمنية الإسرائيلية، وهي: استمرار السيطرة الاستيطانية والعسكرية والأمنية على منطقة الغور والمعابر والحدود مع الأردن، وتمديد المفاوضات مع استمرار المصادرة والاستيطان والتهويد، وإبرام اتفاق إطار انتقالي يرجئ البحث في "قضايا الوضع النهائي"، أي جوهر القضية الفلسطينية، وكأننا أمام اتفاق أوسلو آخر، إنما بمسمى جديد هو "الدولة ذات الحدود المؤقتة".

كما لا عجب في أن يتناغم موقف الاتحاد الأوروبي مع الموقف الأمريكي، حيث حذر مصدر دبلوماسي أوروبي رسمي من أن يفضي انسحاب الفلسطينيين من المفاوضات إلى قيام إسرائيل بإعادة احتلال الضفة، (وكأنها ليست محتلة)، أو إلى تنفيذ "خطة الانطواء"، وبالتالي إلى انهيار "السلطة الفلسطينية" ومصادر تمويلها. هنا ثمة تهديد أوروبي مبطن يؤكد أن دور الاتحاد الأوروبي بما يقدمه من تمويل للسلطة الفلسطينية إن هو إلا دور وظيفي يتكامل في نهاية المطاف مع الموقف الأمريكي المعادي للشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية. أما لماذا لا عجب في هذا وذاك؟

موقف إدارة أوباما الأخير على لسان وزير خارجيتها جون كيري غير مفاجئ، بل حصيلة منطقية لعقدين ويزيد من الرهان على حيادية إدارات الولايات المتحدة المتعاقبة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بعامة، وتجاه جوهره القضية الفلسطينية بخاصة. أما كيف؟ بإطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة في أواسط ستينيات القرن الماضي عاد الشعب الفلسطيني وأمسك زمام قضيته بعد عقدين من التيه والالتباس والرهانات الفاشلة. وبذلك دخل النضال الوطني الفلسطيني مرحلة مَدٍ وطني جديدة أثمرت بعد عقدين من التضحيات الجسيمة والانجازات الكبيرة قفزتها النوعية انتفاضة كانون أول 1987 الشعبية الكبرى. ومع تعاظم الإنجازات الميدانية للانتفاضة بشعارها السياسي الناظم، "الحرية والاستقلال"، صار هناك "إمكانية واقعية" لوضع الأراضي المحتلة عام 1967 تحت إشراف دولي مؤقت على طريق إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة ومن دون مقايضتها بحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم الأصلية كحق تكفله قرارات الشرعية الدولية، وبتحقيقه فقط يتحقق الربط بين المرحلي والاستراتيجي من الحقوق الفلسطينية.

هنا تحركت الولايات المتحدة سياسياً لذبح الانتفاضة وما خلقته من إمكانية واقعية لإنهاء الاحتلال، بعد أن عجزت إسرائيل عن إخمادها عسكرياً وأمنياً كانتفاضة شعبية سلمية الطابع متصلة متصاعدة ومتفوقة سياسيا وأخلاقياً. وكانت خطوة الولايات المتحدة الأولى أن فتحت في العام 1988 قناة اتصال مع قيادة منظمة التحرير لقاء الاعتراف بالقرار 242. بهذا الاعتراف المجاني المتسرع ذهبت أدراج الرياح الفرصة الواقعية لوضع الأراضي المحتلة في العام 1967 تحت إشراف دولي مؤقت، وزادت شهية إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة على اختزال "البرنامج المرحلي"، (الدولة والعودة)، في الدولة، بل واختزال الأخيرة في حكم ذاتي يحمل اسم دولة على جزء من الأراضي المحتلة في العام 1967.

أما الخطوة الأمريكية الثانية فكانت في العام 1991 حيث عملت إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك، بوش الأب، على انتزاع احتكار رعاية تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، عبر الدعوة إلى عقد "مؤتمر مدريد للسلام" على أساس "الأرض مقابل السلام" تمهيداً لبدء مسيرة المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وكل طرف عربي على حدة تحت رعاية الولايات المتحدة وشاهد الزور السوفييتي الآيل للانهيار آنذاك.

نجحت الخطة الأمريكية الإستراتيجية خلال عقدين ونصف العقد في تحصيل التالي: إجهاض الانتفاضة سياسياً وفصل القضية الفلسطينية عن بعدها القومي، واختزال القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع في القرار 242، واحتكار رعاية المفاوضات، وانتزاع الاعتراف بوجود وأمن إسرائيل غير محددة الحدود، واستمرار المفاوضات مع مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها.

لذلك كله صار مطلوباً من قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية بمشاربها كافة إجراء مراجعة سياسية شاملة وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، والكف عن أي شكل من أشكال التماهي مع التفكيك أو المقابلة أو المفاضلة أو المقايضة بين عناصره، خاصة وأنه صار مجرد وهم تحصيل دولة فلسطينية مستقلة وسيدة وعاصمتها القدس، فيما الأرض المراد إقامتها عليها تتعرض لعملية مصادرة واستيطان وتهويد وتفريغ ممنهجة ومسعورة ومتصاعدة تحكمها وتتحكم بها منظومة الفكر الصهيوني التوسعي العدواني المحرك الأساس والإستراتيجية الثابتة لسياسة إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة. بل وصار من الطبيعي ألا تسفر عشرون عاماً ويزيد من المفاوضات المباشرة تحت الرعاية الأمريكية إلا عن تمادي حكومة نتنياهو-ليبرمان، وهي حكومة استيطان ومستوطنين بامتياز، حيث وضعت الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي" شرطاً لاستئناف المفاوضات أو، (والأمر سيان)، لإبرام اتفاق حول "قضايا الوضع النهائي"، أي جوهر القضية الفلسطينية، كشرط كانت قد طرحته حكومة أولمرت في نهاية العام 2007، وطالبت بأن تتضمنه تفاهمات "مؤتمر أنابولس".

بهذا المطلب الصهيوني التعجيزي المساوي لتصفية القضية والحقوق والرواية الفلسطينية، كمطلب مدعوم من إدارة أوباما، صار من الوهم، بل الوهم عينه، تصديق أن حكومات إسرائيل بألوانها، (فما بالك بحكومة الاستيطان والمستوطنين بقيادة نتنياهو-ليبرمان)، في وارد إيجاد تسوية سياسية للصراع التاريخي المفتوح بين المشروع الوطني الفلسطيني التحرري والمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الإحلالي.

وصار من الوهم أيضاً تصديق أن إدارة أوباما، ككل الإدارات الأمريكية السابقة، في وارد لعب دور من شأنه أن يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة وعاصمتها القدس. إذ كيف يكون ذلك ممكناً دون إيقاف عجلة المصادرة والاستيطان والتهويد لما تبقى من الأراضي المحتلة عام 1967؟! إن الوعود الأمريكية على هذا الصعيد إن هي إلا محض خداع يروم تجديد رهانات كذبتها تجربة عقدين ويزيد من المفاوضات تحت رعاية الولايات المتحدة، وجاءت مقترحات كيري الأمنية الأخيرة لتؤكد حقيقة أن الشعب الفلسطيني لا يواجه في السياسة إسرائيل فقط، بل حليفها الإستراتيجي الثابت، الولايات المتحدة، أيضاً. وأن كل مواجهة وطنية فلسطينية مع إسرائيل تبقى قاصرة إن هي لم تضع حماية الأرض والدفاع عنها وتعزيز صمود أهلها عليها في صلب برنامجها، خاصة في ظل ما تتعرض له يومياً، وعلى قدم وساق، وبصورة مسعورة، من عمليات تفريغ ومصادرة واستيطان وتهويد.

هذه هي إستراتيجية حكومة نتنياهو، بشقيها السياسي والميداني، لتصفية جوهر القضية الفلسطينية. وهذه هي حصيلة الرعاية الأمريكية للمفاوضات. أما مواجهة هاتين الحقيقتين بجدية وشمولية، سياسياً وميدانياً، فلن تكون إلا بالكف عن التفاوض مع استمرار الاستيطان، وبإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني بعد أن فككت عناصره عشرون عاماً من التراجعات السياسية المجانية المتسرعة. ذلك منذ هبت الإدارة الأمريكية بقياد بوش الأب في العام 1988 لإجهاض الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الكبرى التي حلت قبل يومين الذكرى السنوية الـ26 لاندلاعها كملحمة كبرى في تاريخ الشعب الفلسطيني وقفزة نوعية في سياق نضاله الوطني المديد. وكل ذلك دون أن ننسى أن إدارة أوباما على لسان وزير خارجيتها، جون كيري، إنما تستجيب اليوم للمطالب الأمنية الإستراتيجية الإسرائيلية وتدعمها في ظل التطور النوعي الحاصل على دور مستوطني الضفة والقدس، حيث صاروا، بلا شك أو ريب، في مركز صناعة القرار الإسرائيلي في السياسة والتشريع والجيش والأمن.
 

التعليقات