24/01/2014 - 14:10

في رحيل روضة بشارة- عطا الله: إرثـها عصيّ على الموت/ أنطوان شلحت

منذ سنة 2000 وما شهدته مناطق 1948 من انتفاضة شعبية عرفت فيما بعد باسم "هبة أكتوبر" لوحظ أن ردة الفعل الإسرائيلية على أي حراك للفلسطينيين في الداخل كانت متسمة بمنحيين متوازيين: منحى ترهيبي ومنحى احتوائي.

في رحيل روضة بشارة- عطا الله: إرثـها عصيّ على الموت/ أنطوان شلحت

تُقام غداً السبت في حيفا مراسم تأبين الدكتورة روضة بشارة- عطا الله في مناسبة ذكرى الأربعين لرحيلها المبكّر عنّـا وهي في أوج عطائها.
لقد تركت الراحلة إرثـاً ثقافياً متميزاً أظن أنه حتى الموت لا يقدر على طمسه.

ولعل أفضل إحياء لذكراها هو الحفاظ عليه من أجلها ومن أجلنا جميعاً.

مهما تكن ملامح هذا الإرث، سأتوقف أساساً عند ملمحين منه يحملان في العُمق ما ينطوي عليه من جواهر حقيقية.

منذ سنة 2000 وما شهدته مناطق 1948 من انتفاضة شعبية عرفت فيما بعد باسم "هبة أكتوبر" لوحظ أن ردة الفعل الإسرائيلية على أي حراك للفلسطينيين في الداخل كانت متسمة بمنحيين متوازيين: منحى ترهيبي ومنحى احتوائي.

ولئن كان المنحى الأول يشكل استمراراً للسياسة الإسرائيلية الرسمية منذ النكبة على مراحلها المتعددة، فإن الهدف الرئيسي للمنحى الثاني تجسّد ولا يزال إلى الآن في تواتر محاولات مسخ أو تشويه الهوية القومية والوطنية لهؤلاء الفلسطينيين، ولا سيما هوية الأجيال الشابة التي اعتبرت "الأكثر قابلية للتطرّف" من وجهة نظر المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل.

ويمكن القول إن هذه المحاولات كانت مقرونة بتطورين: رسوخ الهوية القومية والوطنية للفلسطينيين في الداخل من جهة، ومن جهة أخرى بروز مرحلة جديدة من الوعي السياسي فحواها الأساس تحدّي فكرة الدولة اليهودية.

كانت هناك عدة أدوات استهداف للهوية القومية والوطنية لشباب 48، تمثلت إحداها في ما كشفت عنها جمعية الثقافة العربية تحت توجيه وقيادة الدكتورة روضة بشارة- عطا الله عبر "مشروع المناهج والهويّة"، الذي أطلقته سنة 2010، وقامت من خلاله بمراجعة ودراسة ورصد الأخطاء اللّغويّة والمضمونيّة في كتب التدريس للصفوف الابتدائيّة والإعداديّة، بهدف كشف مواطن التشويه التربويّ والثقافيّ في المناهج القائمة، وممارسة الضغط من أجل تصويبها، والعمل الجاد من أجل خلق البديل الملائم لهويّة المجتمع الفلسطينيّ في الداخل وتطلعاته.

ويُعنى هذا المشروع بالكتب التدريسيّة على مستويين:
الأوّل، من الناحية اللّغويّة وسلامة اللّغة العربيّة التي كتبت بها الكتب، حيث يتمّ رصد الأخطاء اللّغويّة في جميع الكتب المستعملة للصّفوف المحدّدة، وتصنيف هذه الأخطاء وتصحيحها؛

الثّاني، من ناحية المضامين، حيث يتمّ فحص الكتب التي توصلُ مضامين تربوية أو معلوماتية تعليميّة في المجالات الآتية: التاريخ، الموطن، الجغرافيا، العلوم، الرياضيات، الأدب واللغات، وموضوعات غيبت عن المنهاج على أهميتها مثل الفنون.

ويأتي الاهتمام بكشف السياسات التربويّة والتعليميّة الإسرائيليّة المفروضة على المجتمع الفلسطينيّ في الداخل، وبالبحث العلميّ والنقديّ والكشف التفصيلي والعينيّ لمواطن الأخطاء والتشويه في المناهج، من منطلق تأثيرها ودورها الحاسم في بلورة الهويّة الثّقافيّة لهذا المجتمع، حيث تشكّل المناهج مصدر المعرفة "الموضوعيّة" و"العلميّة" للطلاب والمعلمين في كل المجالات، ولا سيما في مجالات تصوغ وعي الطالب ولغته وهويّته وإدراكه لبيئته وخصوصًا اللّغة العربيّة والتاريخ والموطن والجغرافيا، ففي حين يدرك القاصي والداني جوهر السياسات التي تتبعها وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية ومسعاها لتشويه الهويّة القوميّة والوطنيّة وأسرلة الطالب العربيّ فإن المهمة التي وضعتها الجمعيّة في مشروعها هي تفكيك وتحليل كل النصوص التعليميّة للصفوف الابتدائية والإعدادية التي يجب أن تخضع للبحث والنقد والمراجعة من زاوية نظر علميّة وتربويّة عربيّة وعدم الاكتفاء بالمقولات العامة.

وفي ما يتصل باللغة العربية ودورها تؤكد أدبيات جمعية الثقافة العربية، من ضمن أمور أخرى، ما يلي: يعيش العربيّ في إسرائيل حالة من رباعيّة لغويّة قسريّة، وفي بعض حالات "الترف" حالة من خماسيّة اللغة، إذ تضيف بعض المدارس الأهليّة اللغة الفرنسيّة أو الإيطاليّة أو الألمانيّة ابتداء من الصفوف الدنيا، وعندها يزدحم كمّ كبير من اللغات على الطفل العربيّ، يزاحم العربيّة الفصحى التي يتعلمها كغيرها من اللغات، ذلك لأنّ كلّ لغة بعد العاميّة هي لغة ثانية، لا يواجهها الطالب بشكل ممنهج إلا على مقاعد الدراسة، فمن ناحية تُضرب الفصحى باقتحامات سالبة من العاميّة، ثمّ تتلقى ضربات من العبريّة التي تدخل مجال المزاحمة في سنّ مبكّرة لكونها اللغة المسيطرة ولغة التعامل الرسميّ وغير الرسميّ في شتى مجالات الحياة العلميّة والعمليّة. ولم يكن التّماسّ بين العربيّة والعبريّة في المؤسسة المدرسيّة فحسب، إذ إنّ التماسّ الواسع المنفلت المهدّد للعربيّة نشأ من جملة عواملَ أدّت إلى فتح ثغرات لدخول العبريّة في حديثنا.

وتضيف: لا نعدو الحقيقة حين نقرّر أنّ السلطة في إسرائيل على اختلاف أحزابها وتوجّهاتها (ولا يشمل مصطلح السلطة الأحزابَ العربيّة) تضع أمامها رؤية ورؤيا، تتلخص في تحقيق الدولة اليهوديّة المتحدّث عن سِمَتها هذه صباح مساء، وهذا الواقع يحمل في أحشائه مجملَ نظريات النقاء العرقيّ المنصهر في الدينيّ في الحضاريّ، ولا يتأتى هذا إلا بتطبيق نظريات إفراد المُغاير، أو تفريغِهِ من المقوّمات التي يهدّد بقاؤها رؤية ورؤيا الدولة اليهوديّة، وعلى هذا سارت وفق متتالية حلقاتُ الاقتلاع من الوطن، مصادرة الأرض، الاستيطان، التهويد، الأسرلة وأخيرا العَبْرَنة، وهي أخطر ما يتعرض إليه العربيّ المواطن في إسرائيل لأنه موجّه إلى صميم الخاصّ الأسمى في العامّ القوميّ، فالناظر إلى منهجية تعامل وزارات التربية والتعليم قادر على تشخيص الحالة المَرَضيّة لمنهج اللغة العربيّة والمتمثلة في الانحطاط والانحلال والتفسّخ  وبتر الأعضاء، ولو حيّدنا عمدا حقيقة أنّ ضرب اللغة كفيل بقطع التواصل مع ما أنتجه أصحابها من إبداع عبر العصور في مجالات المعرفة العامّة، في التاريخ والطب والفلك والفلسفة والمُجْتمَعِيّة والجبر وفقه اللغة والأدب (د. إلياس عطا الله: "اللّغة العربيّة في إسرائيل؛ الواقع والتّحدّيات"؛ موقع جمعية الثقافة العربية على الشبكة).

ثانياً، لا يشكل "مشروع المناهج والهويّة" الإرث الوحيد للراحلة، فثمة إرث آخر لا يقل عنه أهمية إن لم يكن يفوقه، ويتمثل بدفع فكرة الاستقلاليّة الثقافيّة- التربويّة لفلسطينيّي 1948 إلى الأمام من الناحية العمليّة، وذلك في ظل تعرّضهم إلى هجمة شرسة غير مسبوقة على حقوقهم ومكانتهم القانونيّة وعلى هويّتهم القوميّة تحت غطاء حملة تشريعيّة وغيرها تهدف إلى تكريس إسرائيل كدولة يهوديّة بواسطة سيل من القوانين التي ترسّخ أكثر فأكثر حقوق اليهود، وتحلّها محلّ الحقوق المدنيّة التي هي هشّة أصلاً.

وكانت هذه الفكرة قد طُرحت في السابق من طرف مفكرين فلسطينيين وتبنتها قوى سياسية في الداخل، كما أن جمعيّة الثقافة العربيّة عرضت هذه الفكرة منذ تأسيسها في أواسط تسعينيّات القرن الفائت، وظلّت تحاول أن تدفع بها قدماً، وبقيت الراحلة تعتقد أنّ الظروف والأوضاع الحاليّة باتت مؤاتية لبذل مزيد من الجهود الرّامية إلى وضعها موضع التّنفيذ.

ولا شك في أنه إرث كبير وجدير بالحياة والبقاء.

والأهم من ذلك أنه ينطوي على الملامح المطلوبة لمشروعنا الثقافي المشتهى هنا والآن والذي تتقزّم بإزائـه جميع المشروعات، سواء ما كان معروضاً في الماضي، أو ما يُطرح لماماً في الحاضر، ويعوزه نقاء الحلم وسعة الأفـق ووضوح الرؤيـة.

التعليقات