27/01/2014 - 16:18

ثورة مصر 3 أعوام: "25 يناير" لم تأكل الوحش.. ولم يأكلها../ وائل عبد الفتاح

الجنون الجهادي أيقظ القاهرة على جمعة الفزع الكبير، تفجيرات في أرجاء العاصمة عشية الاحتفال بالثورة، وكأنها هدايا العيد الثالث الذي تتجمع عنده تناقضات، وإحباطات، وخطايا، ومكاسب، وخيبات الآمال المتراكمة منذ خرج المصريون من أقفاصهم الافتراضية، وحطموا جدار برلين المقام داخل كل شخص، وقرروا في ذلك اليوم من العام 2011 أن يزيحوا بأجسادهم نظام الديناصورات الميتة إكلينيكاً

ثورة مصر 3 أعوام:

ـــ 1 ـــ

الجنون الجهادي أيقظ القاهرة على جمعة الفزع الكبير، تفجيرات في أرجاء العاصمة عشية الاحتفال بالثورة، وكأنها هدايا العيد الثالث الذي تتجمع عنده تناقضات، وإحباطات، وخطايا، ومكاسب، وخيبات الآمال المتراكمة منذ خرج المصريون من أقفاصهم الافتراضية، وحطموا جدار برلين المقام داخل كل شخص، وقرروا في ذلك اليوم من العام 2011 أن يزيحوا بأجسادهم نظام الديناصورات الميتة إكلينيكاً.

لحظة تشبه يوم القيامة الذي لا رجعة فيه، وما زال مستمراً مثل رحلات "دانتي في الجحيم الإلهي"، وتلك الكوميديا الكونية الكبرى، التي حوّلت شوارع بلد راكد مثل مصر إلى مسارح كبرى للصراع بين القوى الحية والميتة.

الإرهاب يتجول في شوارع القاهرة بعد يوم واحد من استعراض "عنتري" لوزير الداخلية، قال فيه إن وزارته أمّنت مقارها بالأسلحة الثقيلة. ماذا يعني أسلحة ثقيلة؟ وفي مواجهة من؟ ولماذا تتصّور أن الاحتفال بالثورة سينتهي إلى حفلة دموية او إعادة تمثيل ما حدث في أيامها الأولى؟

ثقيلة؟ لكنها لم توقف الإرهابي عن تجواله في مدينة تعيش لحظة استثنائية ممتدة منذ "25 يناير"، وأخرجتها من سيرورة الحياة في الأقفاص حيث كانت الدراما المتاحة هي فقرات من الآلهة ساكني قصور الحكم يتبادلون فيها الأدوار، ويتلصص الجمهور على الكواليس ليعرف: هل يحكمنا بعد رحيل المومياء الكبيرة الابـن جمال أم حامل مفاتيح السـرداب المخابراتي عمر سليمان؟

شخصيات كانت كالأساطير، وتكسيرها أو وضعها في الحجم الطبيعي أفقد الجمهور الواسع توازناته، ومنح مغامرة الخروج من مدافن الأبوة الرئاسية، مغامرة تعتبرها قطاعات الإخلاص للاستقرار المميت لعنة تكرهها، وتعتبرها القطاعات الشابة لعبة لا تنتهي من أجل قتل الوحش.

ـــ 2 ـــ

تحت ثنائية اللعنة واللعبة تسكن التفاصيل.

فالذين يعتبرون ثورة "25 يناير" نكسة صادقون لأنها "نكستهم" فعلاً، فالدولة تعرضت لشرخ كبير بسبب خروج الجسد الكبير من القفص، ولأنها دولة مرنة لديها هامش حركة اكبر من دول قمعها قديم (سوريا وليبيا)، وقد ملأت الشق بخطابات نجاتها أو استيعابها للطوفان المقبل من الشوارع.

وفي هذا الاستيعاب سقطت مصالح شرائح واسعة في الشق، وكادت ان تغرق تماماً وتدفع فاتورة التغيير، فهي شرائح مقيمة على الحافة، مكانياً حيث تسكن المنتجعات، ومعنوياً حيث يعيشون في غيتوهات تكاد ان تكون مغلقة، وسياسياً حيث لا خطاب لديها سوى شعارات عن ابوة الحاكم، ومصر التي تبدو في الاغاني وبقية حواشي وبهارات الوطنية «المسخسخة» في معناها، الفاشية في نزوعها.

هذه الشرائح عاشت فترة كمون بعد اصطياد رموزها، الذين لم يدفعوا ثمن فسادهم أو طغيانهم، بل فشلهم في الحفاظ على النظام. وبالنسبة لقطاعات ما فالفشل كان على مستوى "تكنوقراطي" أكثر منه على مستوى "سياسي"، بمعنى أن هذه القطاعات ترى الخيبة في فشل إدارة الأزمة، لا في صناعة الأزمة نفسها.
والثورة بالنسبة لهؤلاء كانت تخلصاً من "نخبة فاشلة" إلى "نخبة أكثر كفاءة في إدارة الأزمة". هذه القطاعات فقدت صلاتها بالتدريج مع قوى تحطيم الوحش للنهاية، وأعادت خطوط اتصالها مع شرائح المنتكسين بالثورة للخروج من نفق "الاخوان" وحكم محمد مرسي.

ـــ 3 ـــ

إنها أرجوحة الطبقات..
وفي مجتمع لم يتشكل طبقياً بحسب بعض الأدبيات الماركسية، فإن أشباه الطبقات كانت تتماهى مع حركات الأرجوحة. ولا يمكن أن تفهم هنا كيف عادت الدولة لتكون ملاذاً لقطاعات هرستهم الدولة أو ألقت بهم في سنوات مبارك وما قبلها إلى جحيم الهامش الاجتماعي على اعتبارهم قطاعات "محدودي" أو "معدومي" الدخل، أو حتى كانوا من بين الـ40 في المئة من المصريين، الذين أجبرتهم سياسات هذه الدولة ذاتها على الإقامة خلف خط الفقر.

معظم هؤلاء هائمون في سرديات انتظار لا نهاية له، ويشاركون أحياناً في طقوس عبادة الدولة، هرم المصريين ومعجزتهم، حيث لم يكن لدى الثورة قوة أو وعيٌ لتغيير هذه العبادة، أو تعديل بناء العلاقة بين الدولة والشعب لتكون على شكل هندسي آخر غير الهرم، ذلك المخبأ الكبير الذي يهرب فيه الشعب بغريزة الخوف، وذلك المدفن الكبير للتغيير.

وهنا يبدو أن مأزق الثورة الواضح، وهو اعتمادها المطلق على "العفوية"، ميزتها التي جعلتها تنتصر على القوى الغاشمة لداخلية حبيب العادلي، ولكنها ميزة اصبحت عبئاً أو ثقلا في غياب "التسييس".

هذه "العفوية" أدخلت الملايين مسرح السياسة، ولكن غياب التسييس والنزوع إلى "نقاء الاحتجاج المطلق" أحيا خطابات العواطف والمؤامرات وأناشيد المازوخية الوطنية، لتشغل الحيز المفتوح في المجال السياسي بما هو "ضد سياسي"، ولتتحول كل جولة في الذهاب إلى الصناديق إلى احتفال بالميتافيزيقيا السياسية المسماة الاستقرار.

وبرغم أن آخر استحقاق انتخابي في عهد مبارك (انتخابات 2010) كانت سبباً مباشراً في إسقاط النظام، أي أنها حطمت خرافة الاستقرار من دون عناصره السياسية: الديموقراطية والعدالة والكرامة، فإن الخمس جولات التالية بعد الثورة، كان محور دعايتها الاستقرار من دون عناصره أيضاً، فكانت تؤدي إلى المزيد من القلق والفوضى.

برغم كل التجارب لا تسقط خرافة "الصناديق هي الحل"، وكل مرة عبر إقصاء طرف أو عبر دفع الصراع السياسي إلى حالة "وفاة سياسية"، يدخل فيها المصريون أو قطاعاتهم التي تلبي نداهة الصناديق في المتاهة، أو حضرة الذكر سواء في الطريق إلى الجنة، أو إلى إنقاذ مصر.

وفي استفتاء العام 2014 ذروة الطقس الصندوقي، الاستقراري، الذي يخفت فيه الاهتمام بموضوع التصويت لصالح هدف آخر. كان في استفتاء العام 2011 ترسيخ عملية قطع الطريق على الثورة بتحالف المجلس العسكري مع "الاخوان" والسلفيين. وأدى الاستفتاء إلى كارثة تلو كارثة ليسلم البلاد الاستفتاء على دستور "الاخوان" تكريساً لحكم القبيلة أو الجماعة، وقد وضع الحجر الأساس لدولة الفقهاء، وهنا كانت الكارثة الثانية، فالمنتصر يدفع ثمن انتصاره مبكراً، ويزاح من مكانه في قصر الرئاسة بعدما عادت الدولة بكامل رونقها وتألقها كمنقذ من "الغزاة".

ـــ 4 ـــ

في انتظاره.
بدا الاستفتاء على الدستور تصويتاً مبكراً على اختيار الفريق السيسي رئيساً.
20  مليونا من المصريين قالوا نعم للسيسي تحت مشاعر الخوف واليأس بعد سنة "الاخوان" السوداء والتعسة.

وهذا يعني أن الجنرال هو عبارة عن اختيار اليأس من عبور محنة مبارك أو الحالة التي كانت سبباً في الخروج الكبير يوم "25 يناير" للمطالبة بإسقاط النظام، ثم كانت سبباً في خروج كبير آخر في ٣٠ يونيو، طبيعته وتحالفاته مختلفة، لإسقاط نظام أراد وراثة مبارك وإعادة بناء نظام سلطوي بنكهة إسلامية.

الثورة قامت ضد السلطوية، التي جعلت المصريين شعباً من الخائفين والمرعوبين واليائسين من حياة كريمة كالحياة التي نراها ونشعر أنها بعيدة أو لا نستحقها.

استحق المصريون بخروجهم في يناير 2011، وجسارتهم في مواجهة آلة أمن شرسة حياة أفضل. لكن كيانات السلطوية خططت ودبرت وقاومت من أجل إعادتهم إلى مربع الإذعان والخوف واليأس.

وهذا درس سقوط "الاخوان"، وسر الثورة على مرسي وجماعته بعد قطع الطريق على محاولة بناء مجتمع، أي فضاء يشعر الفرد فيه بحريته وكرامته.

السلطوية الاخوانية تخيلت أنها بديل لسلطوية الجنرالات القدامى، التي عشنا معها أياماً سوداء ورمادية، وأشعرتنا أننا بشر درجة رابعة، ولا نستحق إلا حياة مثل الفئران نختبئ في جحورنا خوفاً من الضباع الجائعة، التي احتكرت السلطة والثروة والحياة الحلوة.

ولكن لماذا يستمر الخوف وقد خرج 20 مليوناً ليواجهوه في الصناديق؟ ألم يحن الوقت وتعبر مصر بالإجماع حاجز الخوف ويشعر أهلها ببعض البهجة؟

لماذا يبدو المستقبل رهن اختيارات اليأس، حتى أن الحملات الداعمة لترشيح السيسي خرجت بصوره بعد انفجار مديرية أمن القاهرة، كأنه استثمار لعملية إرهابية، أو تحضير لأيقونة تعبر عن عجز من يرفعها لا أكثر.
الأسئلة تردم تحت غبار الخوف.

ـــ 5 ـــ

وبينما الإرهابي يتجول في شوارع المدينة، كانت المدينة تتداول في سرها حكايات عن أهوال في كمائن الشرطة التي عادت إلى أساليبها القديمة في تحويل الأمن إلى وسيلة قمع أو ردع لمشاعر الكرامة.

الدولة جعلت الصناديق صك إذعان، وكذلك جعلت من غاراتها الليلية على العابرين كوابيس تشعر الفرد العادي بأن القهر قدر، والإهانة لا فكاك منها.

هذه محاولة لصنع يأس أبدي في محو لذاكرة "28 يناير"، حين أسقط الغاضبون "هيبة" الآلة الأمنية المتوحشة. كسرت الهيبة ولم تكسر المؤسسة. فلم يكن هناك وعي عام في الثورة يسعى إلى احتلال مؤسسات الدولة أو ترويضها في إطار عمليات التغيير، لم يكن العنف حاضراً ولا معترفاً به كأداة إنهاء الصراع إما باستخدامه أو بالخوف منه.

وهكذا فالخوف من الإرهاب يخيل للشرطة العائدة بأن لها قاعدة شعبية، ولهذا فإنها تمارس قهراً يومياً في البحث عن أصابع الحشيش، بينما تمر منها أصابع الديناميت، في ظل احتفاء بنظريات مؤامرة لدى كل منها طرف صحيح. ولكنها في النهاية تعبر عن عدم رغبة في مواجهة الإرهاب، ولكن في اتخاذه ذريعة تمنع التحقيق والمحاسبة كأدوات في دولة حديثة لا تترك الأخطاء لتتحول إلى ثقوب، ثم إلى ممرات حماية لأشخاص وأجنحة تبدو أحياناً أكبر من الدولة...
هذه دولة تقتات عفنها.

ـــ 6 ـــ

انتهى تحالف "30 يونيو" أو دمر إلى حد كبير قبل الاستفتاء، أولاً وقبل كل شيء بسبب اعتماده على "الخوف" أو إثارة الرعب من "وحش رابض بجوارنا" اسمه "الإخوان" أو "الإرهاب".

الاعتماد على الخوف وحده، منزوعة منه الرؤية السياسية، ومعتمداً على الهستيريا، جعل البقاء للأكثر قدرة على تلبية نزعة الهسترة إلى الدرجة التي جعلت التعبير عن رفض الدستور ليس رأياً، ولكن "خيانة" أو شراكة مع الوحش المخيف.

وانتهت الخطوة الأولى من خريطة الطريق بإعلان مصر محمية للخائفين من الوحش "الإخواني"، والانتصار عليه بعدما ساهم بنفسه وبأدواته في ترسيخ صورة "عدو الشعب".

و"الإخوان" ليسوا أعداء الشعب، ولكنهم أعداء "صورة الشعب عن نفسه"، باعتباره كياناً منسجماً متماسكاً له ملامح واحدة. هذا الشعب الذي اخترع بعد يوليو 1952 ليخفي الشعب أو المجتمع بما يعنيه ذلك من تعدد مصالح وثقافات وانحيازات ورؤى وأديان.

"الإخوان" من الطينة ذاتها القادرة على الكلام عن "الشعب" باعتباره في جيبها اليمين، تعلم كيفية ترويضه ومداعبته، وتصفه بالعظيم، وتعني أن عظمته في التعلق بالجماعة.

هذا "الشعب" هو الذي قرر أن يعود إلى حالته المتراصة والمصفوفة، ولم يكن أمامه سوى الجيش.
وهكذا بقي من تحالف "30 يونيو" ملامح تكوّن "شعب" يسعى إلى أن يكون كتلة متماسكة ونقية لا تحتمل الآخر، وترى أن هذه طريقة إنقاذ مصر من العدو الرابض في داخلها، ويمنح كل يوم مبررات هذه العداوة بانتظار المستحيل أو بمعاندة وعقاب الشعب لا الدولة فقط، وأيضا بمبالغات الإعلام والأجهزة الأمنية.

هذا الشعب يخرج نزعته المحافظة بأقصى حالاتها الهستيرية، التي لا تخجل من "الإقصاء" (الآباء والأمهات في بعض العائلات لم يحتملوا خروج الأبناء عن الغالبية القريبة من الإجماع، وطاردوهم كأن الاستفتاء واجب من واجبات المدرسة أو تعليمات المواطنة الصالحة).

المواطنة الصالحة تعني من هذه النظرة التماسك في مواجهة الخطر، وذلك لن يتم إلا في محراب الدولة أو هرمها الكبير المقدس، هذا الاحتماء في الدولة ليس في مصلحة قوى سياسية بعينها كما يتوهم أيتام مبارك، والذين أرسلوا طيورهم الجارحة العجوز في طلعات بدت مثيرة للشعب المقيم في مخبأ الدولة.

غارات الطيور الجارحة وطلعات "الإخوان" الفاشلة تغذي الإحساس بالخطر والضعف، وتغذي أيضاً الرغبة المطلقة في الانتصار على "العدو"، حتى لو كان ذلك بسحق المختلفين وحرقهم وإلقائهم في البحر.

الهستيريا في مواجهة الجنون...

و"الإخوان" يحفرون تحت أقدامهم بإعادة تكتيكات مستهلكة كما حدث في بيان دعوا فيه إلى استكمال ثورة لم يشاركوا فيها، ولكنهم شاركوا في الميدان من أجل توسيع مساحات مناورتهم مع السلطة.

في البيان اعتذار عن "أخطاء" لم تحدد ما هي، ولا معناها في إطار الصورة، ولكنها أخطاء بما أن "الجميع أخطأ"، وعلينا الآن الوقوف في مواجهة "العدو الواحد وهو الحكم العسكري". هكذا من دون اعتراف بالجرائم، ولا محاسبة للقيادات، ولا رؤية سياسية عن التنظيم ومستقبله ومستقبل الحركة فيه.

"تماحيك".. وليست سياسة، هذا ما تبين لدى جماعة ليس لديها القدرة على الخروج من أسر خرافتها أو مواجهة جمهورها، ولكنها ما زالت تتعامل معهم على أنهم "زبائن"، ولا بضاعة تبيعها الجماعة لهم إلا الوهم والمظلومية.

وفي المواجهة يتقدم السلفيون ليحتلوا مكان "الإخوان" في هندسة السلطة، ولأنهم ليسوا تنظيما، والسياسة بالنسبة لهم "دكان بيع الهوية"، فإنهم أقل خطرا على السلطة، وأكثر خطرا على المجتمع، فهم حلفاء الجالس على الكرسي، يبررون له وباسم الدين، بينما يبتزون باسم الدين المجتمع في تغطية على معارك اجتماعية وسياسية وحقوق وحريات بنزوع هوياتي يمنح السند للإرهاب.

وفي مقابله هناك النزوع الفاشي لدى قطاعات اجتماعية تشعر بالتهديد، وتقفز على الخوف بصيحات "افرم يا سيسي". وأن الفاشية ابنة الإنجاز لا الخيبة، فإنها مجرد نزوع يحقق بعض الحضور لقوى تقليدية تريد أن ينتصر لها البطل الشعبي في معاركها.

النزوع للفاشية المتخيلة يسحب الواقع إلى مناطق الضباب، ويضع "شعبية" السيسي في مواجهة بناء نظام ديموقراطي.

هذه المواجهة ليس المهم فيها اختيار السيسي، ولكن قطع الطريق على استكمال مسار إعادة البناء، ليصبح مجرد إصلاح أو ترميم (تنكيس) لنظام. والعلامات على اتجاه قطع الطريق لا تنتهي بداية من نسبة التصويت بـ"نعم"، التي تقترب من النسبة الكاملة وتذكر باستفتاء الأنظمة الشمولية، التي عرفناها منذ يوليو 1952، والتي لا تحتمل إلا الإجماع أو ما يقترب منه، لان هذا قرين الإذعان أو إعلان الولاء أو ما يسمى "مبايعة"، وهي أسلوب الحكم الذي استُدعي من عصور الدولة الأموية وما بعدها.

ليس في الديموقراطية بيعة، ولا يُنتخب رئيس بتفويض شعبي، وهكذا فالمطلوب من ترشيح السيسي عند من يريدون مبايعته هو استغلال شعبيته لتتجمع صفوفهم حوله. ولأنهم ورثة دولة أمنية فاشلة وعصابات فساد أكلت بأنانيتها الدولة، فإنهم من دون خطاب سياسي ولا رؤية للمستقبل، وكل مهارتهم اللعب على غريزة الخوف لتخرج الجماهير تطلب منقذها.

هناك قطاعات شعبية أخرى ترى السيسي حلاً، لأنها تنتظر مخلصاً أو منقذاً لديه الحل السحري للخروج من النفق، وهو حمل فوق قدرة شخص بمفرده، فالدولة لا تحتاج أبطالاً، ولا البطل قادر على صنع المعجزات.

مصر تحتاج الآن إلى مؤسسات ودولة لا بطل ولا منقذ ولا مخلص، تحتاج الى إرادة بناء حقيقية وشراكة من القوى السياسية والاجتماعية التي لها مصلحة في التغيير، لا في "الترميم" ولا في "الرمرمة" بتجميع نفايات الاستبداد والفساد، ليتحلقوا حول بطل له شعبية يورطونه ويورطون البلد كلها فيه، ويدفعونها إلى كارثة لا إفاقة منها.

فليس المهم من سيترشح.. المهم كيف؟

وهذا على ما يبدو سر تحفظات يتسرب صداها من المؤسسة العسكرية مضمونها يقول إنه "آن الأوان لتسليم الدولة إلى مدنيين والحفاظ على الدولة من بعيد"، و سر التحفظ هو "عدم انجراف المؤسسة الى مغامرة الحكم، تلك التي تهدد فقط استعادة مكانة الجيش في المجتمع بعد فترات الصدام مع المجلس العسكري وإدارته للمرحلة الانتقالية الأولى".

الخوف من المغامرة قد يصطدم بالطموح الشخصي، فمن يمكن أن يفلت من سحر هذه الشعبية الجارفة؟
وهناك أيضاً مؤشرات شعبية، فالاكتساح في الاستفتاء كشف عن الرغبة في "الإجماع" لدى 38 في المئة من الذين يحق لهم التصويت، وهذا يعني أن التعبير السياسي عن الترشح لا يتجاوز هذه النسبة، كما أن هناك قوى غاضبة، مثل قطاع كبير من الشباب الذي نزل الشوارع يوم 25 يناير لإسقاط نظام مبارك، وقوى نائمة منتظرة تريد حلولاً، ولكنها عادت إلى بالوناتها الشخصية لتبحث عن الخلاص الفردي، وقوى أخرى مضادة "بمظلوميتها الكبرى".

ما هي القوى الاجتماعية التي ستدعم ترشيح السيسي، ليس كمرشح عادي ولكن كبطل سوبر؟ وكيف سيشكل الجنرال جهازه السياسي للحكم؟ فالحاكم لا يحكم بإلهامه ولا بوحي منه ولا بجسده الممتد، والمجتمع ليس ثكنة عسكرية تحكمها هيراركية القرار العلوي.

في الدول الشمولية جهاز الحكم هو تكوين سياسي كبير يمثل امتداداً لجسد الحاكم، هو حزب واحد يبتلع الأحزاب، ويختصر الحكم في السلطوية لا في الإدارة المدركة لطبيعة أنها مؤثتة عابرة قيد التنافس الانتخابي، كما يحدث في الدول الديموقراطية حيث يمثل كل حزب جهازاً سياسياً يسعى إلى الحكم. ولأن ديموقراطية ما بعد عبد الناصر لم تكن ديموقراطية، ولكنها شمولية مقنعة، فقد دمر السادات الاتحاد الاشتراكي واستخدم جزءا منه في الحكم عبر "حزب مصر العربي الاشتراكي"، الذي دمره أيضاً وشكل بدلاً منه "الحزب الوطني الديموقراطي"، الذي ورثه مبارك لكنه لم يثق به فلم يكن حزباً، ولكن ناد لطلاب الحظوة، ولهذا لجأ إلى جهاز أمن الدولة ليحكم.

بأي جهاز سيحكم السيسي؟ هل سيحكم بالأجهزة الأمنية؟ أم بتكوينات سياسية جديدة؟ وهل سيبني سلطة أم سيبني نظاماً؟

هذه أسئلة تتعلق ببناء النظام، إذا ترشح السيسي أو غيره. أما حفلات الغلوشة الكبرى، التي تقيم الجدل حول الترشح من عدمه، فإنها خطر ليس على الرئاسة فقط، ولكن على السيسي نفسه، فهذه هي المرة الأولى، التي يثار فيها جدل حول "صاحب شعبية" قبل أن يتمكن من السلطة. وعبد الناصر نفسه لم يتقدم إلا بعد سنتين من طرد الملك، ولم يقف في البداية ضد الديموقراطية وبدا بعيداً عن ترتيب تظاهرات تهتف بسقوط الديموقراطية.
باختصار، هل يريدون السيسي رئيساً أم ديكتاتوراً يحمي مصالحهم؟

ـــ 7 ـــ

الخيبات أكثر.. كما يليق بالمغامرات الكبرى والكيانات الديناصورية تبث أنفاسها الأخيرة، فقد أصبحت طاردة لأجيال عصية على الترويض.

الوهن يأكل مؤسسات البطريركية من الكنيسة إلى السلطة، مروراً بالأزهر. كلهم في حرب خفية مع أجيال تكسر علاقة الأبوة والوصاية.

إنها لعنة لم يعد يغويها الجنون الجهادي باعتباره الطريق الوحيد. ولكنها تفكك علاقتها بهذه الكيانات المحكومة بعفن استبدادي، خادم لكل سلطة، أو مقيم في ظلها.

وبالنسبة لكل سلطة في المستقبل ليست قادرة على مد الجسور مع تباينات المجتمع أو حتى تقيم شرعيتها على قمع ومذابح وسحق الآخرين، فإنها ستواجه بعد قليل ما تعجز عنه إلا بما يسميه سمير أمين "التنمية الرثة"، لتوظف فيها أموال قادمة من الخليج لتأجيل الأزمات الاجتماعية سنوات من دون حلول جذرية أو تنمية تعتمد على بناء اقتصاد قوي، كما حدث مثلا في ألمانيا بعد سقوط النازية.

وغالبا سيدفع المنتصر في الحرب بين الهستيريا والجنون فاتورة انتصاره مضاعفة.

التعليقات