05/02/2014 - 14:24

اعبروا الـ (روبيكون)../ محمد الخطيب*

إن ما يقلقني كفلسطيني ليس السياسة الأمريكية فحسب بل "الموقف بحد ذاته"، والذي يعني الرضى عما هو قائم، وترك حلبة الصراع في "ديمومة متفاقمة" مع الإدراك التام بأن لا تكافؤ بين المتصارعين، وهذا بمجمله يعني إعطاء مهلة أطول للطرف الأقوى – إسرائيل – لإنزال أشد البأس في الطرف الضعيف – الفلسطينيين – تحت ذريعة رد الفعل ومحاربة العنف وتحقيق الأمن، وفي الوقت ذاته دشدشة أماكن القوة المتبقية فيه بهدف إفراغه من محتواه وإحالته إلى طبل أجوف

اعبروا الـ (روبيكون)../ محمد الخطيب*

أحيانا كثيرة يكون اللجوء إلى التعددية الرأيية المتماهية بالديمقراطية المزعومة تذويبا للقضية المصوت عليها.

فعملية الذهاب إلى الهيئات الأممية لاكتساب الشرعية للموقف الفلسطيني، واعتبار فلسطين دولة تقع تحت الاحتلال من قبل دولة أخرى كان من الضروري أن يحصل مجرد أن حظيت فلسطين باعتراف أممي بها دون اللجوء إلى التصويت على هذا القرار باعتباره قرارا صائبا يضعنا على جادة الصواب.

وما اللجوء إلى الديمقراطية في حينه، والانزياح إلى مربع الدبلوماسية الناتج عن التصويت الخاطئ على ذلك القرار إلاّ تبديدا وتبهيتا لزخم الموقف، الأمر الذي وضع الفلسطينيين أمام مسالخ الذات، وأتاح الفرصة الماسية أمام إسرائيل للتسريع في عملية إزهاق روح القضية، ومحو حلم طالما انتظرناه، وفي الوقت ذاته أماط اللثام عن حقيقة الانحياز الأمريكي التام لإسرائيل، هذا الانحياز الذي استطاعت أمريكا أن تغلفه بغلاف الوعود الكاذبة للأمة العربية بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص لحقب زمنية طويلة، الأمر الذي أتاح لها ان تشرع باللعبة الإملائية بشكل سافر ما ترك العرب والفلسطينيين يلعقون جراحهم بعد فوات الأوان.

فمع استمرار لعبة الإملاء الأمريكي التي تبدو جلية دون مواربة إزاء الأحداث الدامية المتلاحقة في الرقعة الجيوسياسية الشرق أوسطية بشكل عام، والفلسطينية – الإسرائيلية بشكل خاص، والباعثة على التشاؤم يستثار إحساس بالخوف من القادم الغامض بل ربما الحالك.

لذا أتساءل كما غيري الكثيرين إلى أين ستقود السياسة الإملائية في ظل تخاو عربي وتهافت على نيل الرضى الأمريكي من جانب، والتمرد الإسرائيلي على قرارات الشرعية الدولية من جانب آخر، وضعف الموقف الفلسطيني من جانب ثالث؟

إن ما يقلقني كفلسطيني ليس السياسة الأمريكية فحسب بل "الموقف بحد ذاته"، والذي يعني الرضى عما هو قائم، وترك حلبة الصراع في "ديمومة متفاقمة" مع الإدراك التام بأن لا تكافؤ بين المتصارعين، وهذا بمجمله يعني إعطاء مهلة أطول للطرف الأقوى – إسرائيل – لإنزال أشد البأس في الطرف الضعيف – الفلسطينيين – تحت ذريعة رد الفعل ومحاربة العنف وتحقيق الأمن، وفي الوقت ذاته دشدشة أماكن القوة المتبقية فيه بهدف إفراغه من محتواه وإحالته إلى طبل أجوف.

وحسبنا كفلسطينيين فهما أن قضيتنا لم تعد قضية لاجئين أو انسحابا من هنا وهناك أو تصحيح تحريف مفردات تلحق الأذى المقصود بمفاهيم أيديولوجية سواء كانت تكتيكية أم إستراتيجية فحسب، بل أضحت من الشمولية بمكان حيث تشتمل على أهم ما يمكن التطرق للحديث عنه ألا وهو (المصير) وأقصد مصير الشعب والوطن والقضية برمتها.

هذا المصير – حسب فهمي لمعادلة الصراع – لم يكن يوما رهينا بتقلب الحكومات أو تغيير الوسطاء كون القضية الفلسطينية أسمى من أن تشطب من قاموس السياسة العالمية لمجرد رغبة يرتضيها زعيم ما أو وسيط ما أو سياسة ما.

فالظروف الجيوسياسية المحيطة بالقضية الفلسطينية والافتراضات المشروطة على الصعيدين الفلسطيني من جانب، والإسرائيلي من الجانب الآخر خلقت هوة واسعة من التباين الذي يحتم تجدد الصراع الذي لا يمكن أن يتوقف ما دام هناك هضم للحق وهشاشة في آلية معالجة الموقف.

فعلى الصعيد الفلسطيني اعتبر أن المطالب الفلسطينية التي إذا ما تزحزحت قيد أنملة عن مجموع الثوابت فإن ذلك يعني التفريط بالحقوق الوطنية التي ذهب ثمنا للدفاع عنها عصارة جهود سنين من المسير النضالي، وإدراكا مني أن كل جهابذة السياسة يدركون تماما أنه ضمن الحسابات السياعسكرية لا يمكن إطفاء الجذوى الصراعية ما دام هناك شعور لدى صاحب الحق باستلاب حقه وامتهان كرامته على الرغم من حالات المد والجزر التي قد تعتري حالة صاحب الحق في ظل وطاة غياب التكافؤ.

ولعلي أرى من المسلمات "أن إعادة الحق كاملا يعني بالضرورة إنهاء المطالبة به، وانتهاء المطالبة يرتبط جدليا بخمود الجذوة".

وعلى الرغم من أن لهذا المفهوم تصريفات أخرى لدى البعض والتي يمكن أن تكون خاضعة لإعادة الحسابات النابعة أصلا من "مدى الفهم الأيديولوجي لكل من الطرفين " والتي تعني أنه إن كان الصراع مجرد صراع مطلبي حقي) فبالإمكان وضع حد له من خلال إعادة الحق، وتلبية المطالب وبالتالي إنهاء الصراع. أما إذا كان الصراع "عقائديا" فهنا يمكن القول إنه لا يمكن إنهاء الصراع إلا بانتهاء أحد طرفي النزاع، كون هذا الصراع سيبقى متوارثا رغم ما يعتريه من حالتي الشبوب والخبو المرهونتين بمتغيرات موضوعية وأخرى ذاتية على المستويين الإقليمي والدولي.

وفي هذا المضمار يمكنني القول: إنه إذا كانت النية الإسرائيلية بمنأى عن الصراع العقائدي فإن بإمكانها إنهاء الصراع والخروج من حومة الدم بإعادة الحقوق المشروعة لأصحابها الشرعيين بالرغم من بترها وبهذا تكون قد حققت إنجازا ذا بعدين:
أولهما: أنها قد حقنت دماء شعوب المنطقة وجنبتها ويلات الحرب؛
والثاني: أنها قد جلبت الأمن لشعبها وللفلسطينيين، وأنهت صراعا طال أمده، وأراحت العالم من قضية طالما أرقته.

ورغم كل هذه الافتراضات فلا ضير من التعاطي مع ما هو قائم ضمن مقولة: "لك الطول المرخى" التي تبرز أن الإستراتيجية المعالجة لمعضلة ما قبل السلام تعالج القضية العربية بشكل عام، والفلسطينية بشكل خاص ضمن نظرية شوفينية أنه لا يمكن إقامة سلام إلا من خلال دولة قوية تستطيع تفصيل سلام بمواصفات ومقاييس ترتضيها مع ترسيخ الاعتقاد السائد بتصوير الفلسطينيين بـ"البعبع " الذي لا يمكن التعايش معه إلا بترويضه ولو كان ذلك بقطع رأسه.

وهنا يتم اللقاء في نقطة التقاطع بين الموقفين الأمريكي والإسرائيلي حيث يظهر سعي الساسة الأمريكان إلى إنقاذ الموقف بإغراق الموقف على الرغم مما جوبهوا به من عقبات كؤد أظهرت لهم كم هي صعبة مهمتهم على الرغم من تربعهم على عرش السياسة العالمية وامتطائهم صهوة الجواد الجامح إزاء الراجلين.

وهنا وعلى ضوء ذلك يمكنني القول: إن الخطأ المميت هو الوقوع في التناقض مع المنهج التاريخي القائل "أن النظام الجائر يبدأ بالانهيار مع بداية استرخائه على فراش الوهم – الغطرسة –ورسم السياسات صعبة التحقيق".

فالحري بالساسة الأمريكان أن يقلعوا عن هذه العادة، ويلعبوا دور النزيه الجدي الفعال – على الرغم من شكنا في ذلك – الذي يجسر الهوة بين الطرفين آخذين بعين الاعتبار أن أي شرارة في المنطقة قد تضرم لهيبا طالما تضرعنا إلى الله وما زلنا ان يجنبنا لهيبه.

وعلى السيد كيري وسواه أن يدركوا أن أولئك الذين قادوا شعوبهم في ذروة الأزمات السياسية والعسكرية "أنه ليس بقائد من يدع مصالح وطنه قصبة في مهب رياح التقلبات المزاجية، وأن يأخذوا بعين الاعتبار أن القضية الفلسطينية هي مفتاح أبواب الوطن العربي الموصدة على الرغم من بقاء البعض منها مواربا، خاصة وأن هناك إشارة واضحة تمثلت في مبادرة السلام العربية، والتي تعني ضمنيا أن حل القضية الفلسطينية حلا عادلا ينهي حالة البغض الوجداني لدى الأمة العربية، ويلغي هاجس الخوف الإسرائيلي مما قد يحصل مستقبلا جراء تغيير دراماتيكي على بعض الساحات العربية التي تخيف إسرائيل وتهدد أمنها كونها – إسرائيل - قد حقنت المنطقة ببلسم السلام.

ونحن كفلسطينيين نفقه أن قضيتنا ما زالت رهينة في أروقة الأمم المتحدة التي لا يصل مجموع سكان ثلث دولها الأعضاء إلى مجموع سكان ولاية أمريكية كبيرة، الأمر الذي جعل من الأمم المتحدة مسيّرة من قبل أمريكا وليست مسيّرة لها.

وعلى ضوء تلك المعالجة يمكن أن نعصبها بناصية القادة، فإلى متى ستظل القيادة العربية متفرجة على هذه الدراما التاريخية؟

لقد بات لزاما على الأمة العربية والمجتمع الدولي أن ينهجا الواقعية في المساحة السياسية الشرق أوسطية بشكل عام، والفلسطينية بشكل خاص، وأن يتجنبوا استمرار الوقوع في خطأ الصمت القاتل الهادف إلى تطويق المشروع الفلسطيني والزج به إلى رقعة الركوع.

وبات لزاما عليها أن تخرج من هالة الرعب التي أحاطت نفسها بها، والناجمة عن عدم القدرة على مجابهة الأمور بواقعية وجدية المسؤول مغلفة بوجل الكرامة الفردية على حساب الكرامة الوطنية.

إن الخمول الزعاماتي العربي واللهاث المتواصل لكسب الود تحت ذريعة درء الأذى والتوكؤ على العصا الاقتصادية الغربية، وافتقار الشعب الفلسطيني للمقومات الكفاحية المضاهية بمعناها المادي كل تلكم الأمور قد عززت قوة افتراس الحق.

نحن لا نطلب من القادة العرب استنفار جيوشهم وآلتهم الحربية لاستعادة الحقوق المسلوبة كوننا لسنا ساذجين ولن نكون كذلك، ولكن جل ما نطالبهم به هو الوقوف الحازم بكل الطرق التي تعيد الحق دون إراقة دماء، وعدم تركنا وحيدين على حلبة الصراع، خاصة وأن الحكومات الإسرائيلية المنصرمة قد تركت موروثا ضخما من التخبطات لوريث متزمت، الأمر الذي أغرق الوضع الدولي في بحر متلاطم الأمواج أوصل المنطقة إلى حافة الهاوية أكثر من مرة، وجعل من القضية الفلسطينية قصبة في مهب رياح الأحزاب الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.

إن على القادة أن يراقبوا علامات التحذير التي تلوح في الأفق، سيما وأن عقلية طرف المعادلة الآخر آخذة بالصيرورة نحو الأكثر تزمتا والأكثر صرامة في الوقوف أمام الاستحقاقات المشروعة غير آبهة بما تحمله هذه السياسة بين ثناياها من سوس النهش المهدد بنخر كل ما تم بناؤه على الرغم من ضآلته، وفي الوقت ذاته دفع المنطقة بقوة نحو الهاوية.

لذا فمن الحري بكل من يحملون على كواهلهم عبء القضية العربية بشكل عام، والفلسطينية بشكل خاص، أن يحذوا حذو يوليوس قيصر عندما قرر العبور هو وجيشه لنهر "روبيكون" الذي كان محظورا على الجيوش عبوره، ووقت ذاك قال جملته الشهيرة: (لقد أطلق السهم) أي بما معناه أنه قد اتخذ القرار الجريء الحازم الذي لا يمكن العدول عنه.

فاتخذوا القرار الحازم واعبروا الروبيكون كي يخلدكم التاريخ وتجلكم شعوبكم.

التعليقات