11/02/2014 - 14:47

من سفينة الهبّاش إلى قطار كيري، قراءة في السلوك الفتحاوي../ بلال الشوبكي*

ما هذه السطور إلّا اجتهاد الحريص على صلاح حركة يشكّل منتسبوها شريحة واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، فإن استمر الحال دون تغيير أو بحث في إمكانية التغيير على أقل تقدير، فهذا يتطلّب من أبناء حركة فتح الاستعداد الدائم لتسلّق "الطارئين" على ظهر حركتهم، والاعتياد على مشهد تدخّل إسرائيل في إعادة تشكيل نُخب الحركة بالعزل والأسر، وربما الاغتيال أو العكس

من سفينة الهبّاش إلى قطار كيري، قراءة في السلوك الفتحاوي../ بلال الشوبكي*

قبل عامٍ أو يزيد، وبعد أن نوديَ للصلاة من يوم جُمعة، اعتلى الهبّاش منبراً من ثلاث درجات. صدح عاقد الحاجبين بكلّ ما أوتي من استخفاف بعقول السامعين: أن هذه سفينة النجاة قد انطلقت نحو دولتنا الفلسطينية، فليتّخذ كلّ منكم موطئ قدم فيها، ومن لن يفعل فقد اختار لنفسه الطوفان. أخفى الهبّاش في خطبته أنّ ربّان السفينة يسير دون بوصلة يستدلّ بها على الدولة، وتجاهل أن حركة سفينته محكومة بوقودها المتدفّق من بروكسيل وواشنطن، لكنّه يدرك اليوم؛ أنّ العتمة التي غدت سفينته تائهة فيها "كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب".

الهبّاش ومَن قَبِلوا أن يكون الهبّاش ناطقاً باسمهم، يحاولون إقناعنا أن الإطار "المؤسساتي" الغامض الذي يتحركون من خلاله هو إطار وظيفيّ متمثّل في تلك السفينة، مهمّته إنجاز حلم الدولة. وبتجاوُز ما إذا كانت هذه المحاولات نتاجاً لسوء تقديرٍ أو نيّة، فإنّ المطلوب هو نقاش ما بعد نقطة الإجماع في طرح هذه الفئة، ونقطة الإجماع هي في كون هذا الكيان "المؤسساتي" -(السلطة المتداخلة مع المنظمة)- كياناً وظيفيّاً، فخصوم العلاقة التي أنتجت هذا الكيان يَسِمُونه بالوظيفيّ، ومؤيدو تلك العلاقة وأنصار الكيان الوليد لا يخفون وظيفيّته. أما ما بعد نقطة الإجماع فيتمثل في ماهيّة الوظائف التي يؤدّيها هذا الكيان وأسباب عزوف أنصار الكيان عن مراجعة هذه الوظائف.

إشكالية نقاش ماهيّة هذه الوظائف تتمثل في اعتباره (بطاقة) مناكفة فصائلية، مما يعني عجزه عن تشكيل تيّار تصحيحي مدعوم من قواعد الأنصار كما الخصوم، فكلّ ما يقال نقداً لوظيفة السلطة هو مجرّد ادّعاءات مغرضة من وجهة نظر أنصار العلاقة التي أنتجتها، خاصّة أن من يقوم على هذه السلطة ويتولّى إدارتها ويؤمّن لها الإسناد الشعبي اللازم لبقائها هي حركة فتح، وأبناء هذه الحركة كالكثير من أبناء الحركات والأحزاب يعتبرون كلّ صيحة عليهم، ولا ينظرون إلى انتقاد "محميّتهم" إلا كجزء من التطاحن الدائر وطنياً، وهم ما زالوا على استعداد للتّصديق أن أهداف حركتهم لم تتغيّر، ولذا تجدنّهم أكثر النّاس قدرة على استخدام خطاب ثوريّ يتناقض تماماً مع خطاب قيادتهم دون أن يثير لديهم أيّ تساؤلات، بل إن تشبّثهم بمواقفهم يزداد كلّما ازداد انحراف مركبة الحركة.

وحال أبناء حركة فتح هنا، كحال من استقلّوا مركبة كبيرة، ما أن انطلقت بسرعة خاطفة نحو هدفٍ أجمع ركّابها عليه حتى انحرف مسارها إلى هدف جديد، فما كان من معظم ركّابها إلّا أن تشبّثوا بمقاعدهم في مقاومة لتلك الحركة المفاجئة، وتصرّفهم هذا طبيعيّ ينسجم مع نظرية القصور الذاتي في الفيزياء. لكن المثير للتساؤل هو ما بعد ثبات حركة (الحركة) على مسار جديد لا يقود للهدف المجمع عليها لحظة الإنطلاق، فبدلاً من أن يبدأ مستقلّو تلك المركبة بالتساؤل عن الوجهة الجديدة، أخذوا يهنئون بعضهم بالسلامة، بل إن بعضهم استرخى كثيراً، فما عاد المسار الجديد مليئاً "بالمطبّات" كما السابق.

ثمّة الآن حاجة ملحّة لفهم سلوك جماهير حركة فتح المحيّر، فذات الشخص الذي يحلم بافتتاح مقهىً على شاطئ يافا بعد التحرير، وابنته الأولى اسمها بيسان، هو ذات الشخص الذي يدعم المفاوضات القائمة على أساس التنازل عن يافا وبيسان. قلت لنفسي: تخيّل أنّك معهم في تلك المركبة التي انحرفت عن مسارها، ما الذي سيمنعك من المطالبة بتعديل المسار؟ أهي الثقة العمياء بمن يحتلّون المقاعد الأمامية؟ أم أنّ زجاج نوافذهم عتمٌ بحكم سرّية العمل "النضالي"، فلا هم قادرون على التعرّف على ملامح المسار الجديد، ولا هم قادرون على رؤية من يلوّح لهم من بعيد؟ لا، لا هذه ولا تلك، فالقيادات انقسمت وانقسمت الجماهير، وما عاد هناك مبرّر لتعتيم النوافذ.

تأسيساً على ذلك، فإن أبناء حركة فتح بحاجة إلى اليقين بأن مركبتهم انحرفت عن مسارها، وحتى أتجاوز النقد النظريّ المحتمل والقائل بأن المنظمة التي انحرفت وليست فتح،  فإنّه ليس مهمّاً هنا تحديد هويّة المركبة التي انحرفت -فتح أم المنظمة- كون المسؤول واحد. عودة إلى اليقين المطلوب؛ فإن النّاس أصناف، ووصولهم إلى مرحلة الإيمان بضرورة الثبات أو التراجع أو التعديل يتطلب أنواعاً متفاوتة من اليقين، فمنهم من يكفيه علم اليقين، كأن يخبره من لا يشكّ في صدقه بما يجب أن يسمع، ومنهم من يحتاج إلى عين اليقين، كأن يرى بأمّ عينه ما قد سمع، ومنهم من يحتاج إلى حقّ اليقين كأن يجرّب ما قد سمع ورأى.

في حالة أبناء حركة فتح فقد توفّرت لديهم مراتب اليقين الثلاثة، ومع ذلك فإن سلوك معظمهم لم يتغيّر، وهنا أودّ مشاركتكم هذا المشهد الذي توفرت فيه كلّ مراتب اليقين حول انحراف المسار، ومع ذلك كانت النتيجة مخالفة للمنطق. المشهد هو الآتي: كانت الصدفة قد جمعتني مؤخراً على طاولة مستديرة مع أحد أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، وهو وزير سابق يتم تداول اسمه حالياً لخلافة أبو مازن، بصحبته أحد سفرائنا، وشخصية من اليسار، وأحد شباب فتح ممن تربطني به علاقة جيدة. من نقد اليسار لإخوان مصر، مروراً باستهزاء السفير بما قرّره مؤتمر حركة فتح السادس حول التمسّك بالكفاح المسلّح، إلى أن وصلنا إلى المختصر المفيد؛ رفع الوزير شماله وقبض كفّه، ثم رفع الوسطى والبنصر والخنصر، وقال: حين أسّسنا السلطة أردنا لها أن تقدّم الخدمة لثلاث جهات بنسب متفاوتة، وأمسك بالوسطى وقال هذه خدمة السلطة للفلسطينيين، وأردف مستدركاً: اخترت هذا الإصبع لطوله لا لرمزيته، فقد كان الفلسطيني هو المستفيد الأكبر من السلطة بعد تأسيسها، ثم أمسك بنصره وقال: هذا مثّل خدمة السلطة للمجتمع الدولي، فيما الخنصر قد مثّل خدمة السلطة لإسرائيل. تنهّد وأكمل: أمّا اليوم؛ فإنّ الوسطى هي خدمة إسرائيل باعتبارها المستفيد الأكبر من السلطة، يليها المجتمع الدولي ومن ثمّ الفلسطينيون.

ظننت أنّ هذا المشهد كفيل بدفع زميلي الفتحاوي إلى التساؤل حول المسار الطارئ على الحركة الوطنية، لكنّي لم أوفّق في تقدير استجابته لما شَهِد، ففحوى ما شاركني به من انطباعات بعد أن رُفعت الجلسة، أنّه معجبٌ جدّاً بصراحة الوزير. أدركت وقتئذٍ أن المسألة أضحت مخالفة للمنطق، وأن التحليل السياسي يقف عاجزاً أمام هذا الموقف، ولا بدّ من مدخل آخر لفهم هذا السلوك. قّدرت هنا أنّ المدخل النفسيّ قد يفسّر سلوك جزء كبير من أبناء حركة فتح، بما يسمح لاحقاً لمن يهمّه صلاح أمر الحركة أن يقدّم مقترحات الحل.

عطفاً على ذلك، فإنّي أزعم أن أحد أهم العوامل النفسية المثبّطة للتغيير داخل الجسم الفتحاوي، هو كون الحلقة التي تربط بين عضو فتحاويّ وآخر في سلسلة "التنظيم" هي حلقة شخصية جدّاً، ففي ظل غياب التنشئة السياسية وضعف الهيكل الإداري وضبابية الرؤية السياسية تتجه العلاقات إلى نمطية جديدة يسود فيها الطابع "الشلليّ" أحياناً والقبليّ أحياناً أخرى، وفي ظل هذه النمطية من العلاقات يميل الفرد عادة إلى النفور من تعديل الافتراضات المألوفة، وهو ما يعني حاجة الفرد إلى أدلّة دامغة للاقتناع بتشكيل رأي جديد حول التنظيم أو أفراده، فعلاقته الشخصية بالتنظيم وأفراده تحول دون تصديقه معظم المعلومات المناقضة لحبّه لشخص أو تنظيم، بشكل يعكس مثالاً  على نظرية "الجمود المعرفي" (Cognitive inertia)، لكنّه مثال من واقع التنظيمات السياسية.

لكن ماذا لو كانت الأدلة الدامغة متوفرة لدى الكثيرين؟ ما الذي يفسر عزوفهم عن التغيير؟ هذه التساؤلات تحيلنا إلى إحدى نظريات علم النفس الإجتماعي، وهي نظرية الانحياز التأكيدي (Confirmation bias). وفقاً لهذه النظرية فإنّ الإنسان قد يعكف أحياناً على ممارسة الانتقائية في اعتماد معلومة أو تجاهلها، بحيث يعتمد تلك المعلومات التي تعزّز من من افتراضاته ويتجاهل تلك التي قد تدفعه إلى التغيير دون أي اكتراث لمدى صحة المعلومات المعتمدة أو المهملة، وفي حالة حركة فتح؛ فإن اللجوء إلى اعتماد معلومات وتجاهل أخرى يعود ربما لما ذكر في السطور أعلاه من محاولة للحفاظ على تماسك تلك العلاقة الشخصية.

في بعض الأحيان قد لا يكون هناك مجال لتجاهل معلومات دقيقة بحكم أنّها أصبحت متداولة على مستوى الشارع، وهنا نجد أن بعض أبناء حركة فتح تجاوزوا مرحلة الإنكار كما هو في النظرية الأولى ومرحلة التجاهل كما هو في النظرية الثانية، ووصلوا إلى مرحلة إعادة صياغة المعلومات وتقديمها بشكل يلغي الصراع النفسي في داخل كلّ واحد منهم. وهي مرحلة حرجة جدّاً من الانفصال عن الواقع والبدء في تشكيل أفكار غير منطقية تتحول إلى مرجعية جديدة في تقييم السلوك، وفي مثل هذه المرحلة فإن صراع الأضداد يختفي وتصبح خدمة إسرائيل لا تتناقض مع هدف التحرير، ودعم مفاوضات حل الدولتين لا يعني التنازل عن فلسطين المحتلة عام 1948، والاعتقال السياسي هو إجراء احترازي لدرء الفتنة، بل إن التنسيق الأمني قد يغدو حرصاً على سلامة وأمن عناصر المقاومة.

هذه المرحلة من تغيير الأفكار المرجعية في حال عدم القدرة على تجاهل أو إنكار المعلومات تفسّرها نظرية التنافر المعرفي Cognitive Dissonance)). بناءً على هذه النظرية فإنّ وجود أفكار أو معلومات أو مواقف متناقضة لدى الفرد تؤدي إلى معاناته من القلق والتوتر، وبدلاً من أن يقوم بحسم هذا الصراع وفق أسس سليمة، يلجأ إلى تغيير معيار أو مرجعية تقييم السلوك، بحيث يقوم بإيهام نفسه أن لا تناقص لديه، تماماً كالمدخّن بشراهة في ظل إدراكه لخطورة التدخين، حين يبدأ الصراع الداخلي بشأن سلوك التدخين، يلجأ إلى توليد مرجعية جديدة غير منطقية، كأن يقول مثلاً: "أعرف مئات المدخنين منذ سنوات ولم يشتكوا من شيء"، وهو بذلك لم يكتف بإنكار خطر التدخين أو تجاهل المعلومات المؤكدة حول ذلك، بل أنتج معلومات جديدة خاطئة تنسجم مع رغبته في بقاء الحال على ما هو عليه.

وسواء كان هذا المدخل النفسيّ دقيقاً في تفسير سلوك أبناء حركة فتح أم لا، فإنّ هذا لا ينفي وجود تناقض في السلوك السياسي وبأبعاد نفسيّة واضحة، وما هذه السطور إلّا اجتهاد الحريص على صلاح حركة يشكّل منتسبوها شريحة واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، فإن استمر الحال دون تغيير أو بحث في إمكانية التغيير على أقل تقدير، فهذا يتطلّب من أبناء حركة فتح الاستعداد الدائم لتسلّق "الطارئين" على ظهر حركتهم، والاعتياد على مشهد تدخّل إسرائيل في إعادة تشكيل نُخب الحركة بالعزل والأسر، وربما الاغتيال أو العكس، كما عليهم ألّا يتوقعوا من سفينة الهبّاش أن تقودهم إلى غير الذي قادتهم إليه من ظُلمات، وإن كان لها أن تخرج يوماً من بين الأمواج التي تتقاذفها غرباً وشرقاً، فلن ترسو بهم إلا على أقرب رصيف إسرائيلي يؤدي عبر ممرّ آمن إلى محطّة هندسها كيري، يتمدّد فيها قطار صُنع في الصين على عجل، ستسمّونه حينها دولة.

التعليقات