12/02/2014 - 16:45

ودعوة "وافق وتحفَّظ" خطرة أيضاً../ علي جرادات

خطر خطة كيري لا يكمن في قبول إبرام "اتفاق نهائي" على أساسها، فحسب، بل أيضاً في قبولها بصيغة "وافق وتحفظ" التي تدعو إليها إدارة أوباما المتسلحة بموافقة "اللجنة الرباعية"، وبصمت، كيلا لا نقول تواطؤ، "لجنة وزراء الخارجية العرب" الناطقة باسم جامعة الدول العربية

ودعوة

تُبنى الأمور على مقتضاها. ومخطط الحركة الصهيونية لإنشاء إسرائيل كـ"دولة قومية للشعب اليهودي" في فلسطين وعلى حساب شعبها، كان يقتضي اختراع الشعب والوطن اليهودييْن كما يبرهن بما لا يبقي مجالاً للدحض المؤرخ التقدمي اليهودي الأصل شلومو ساند في كتابين قيِّميْن: "اختراع الشعب اليهودي" و"اختراع الوطن اليهودي".

وكان يقتضي اختراع إنكار وجود الشعب العربي الفلسطيني عبر تعميم أوهى خرافة عرفها البشر في التاريخ الحديث:"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وكان يقتضي جلب ما أمكن من المهاجرين اليهود من أربعة أركان المعمورة وتحويلهم إلى مستعمرين مستوطنين بحسبان "الاستيطان جوهر الصهيونية" كما أكد رمز التطرف السياسي والتشدد الأيديولوجي الصهيوني إسحق شامير بلا لبس أو إبهام. بل كان يقتضي أيضاً، وهنا الأهم، تنفيذ أكبر وأبشع عملية سطو سياسي وتطهير عرقي عرفها التاريخ المعاصر كما يوثق وقائعها بإحكام لا مجال لدحضه المؤرخ التقدمي اليهودي الأصل ايلان بابيه في كتاباته كافة، وفي كتابه-الوثيقة التاريخية- "التطهير العرقي في فلسطين" بالذات.

لكن كل تلك الاختراعات والخرافات الصهيونية بما اقتضته مما لا حصر له من جرائم حرب موصوفة وفظائع قل نظيرها لم تكن لتكون لولا كل أشكال التواطؤ والرعاية والدعم التي وفرتها ولا تزال توفرها- تلبية لمصالحها- دول الاستعمار الغربي التي ورثت الولايات المتحدة قيادتها عن بريطانيا العظمى منذ نهاية الحرب العالمية.

واليوم تعلم إدارة أوباما كل ما تقدم ويزيد من اختراعات وخرافات وجرائم واستباحات صهيونية ما انفكت تُرتكب بحق أبناء الشعب العربي الفلسطيني بخاصة وبحق أبناء الشعوب العربية بعامة، بل بحق أبناء بعض شعوب منطقة الشرق الأوسط أيضاً. وتعلم إدارة أوباما أيضاً أن إيجاد تسوية سياسية-ولو متوازنة- للصراع الناشئ عن إنشاء إسرائيل غير وارد إلا بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بهذا الصراع. وتعلم إدارة أوباما أيضاً أن حكومات إسرائيل السابقة بألوانها، (فما بالك بحكومة "الاستيطان والمستوطنين" القائمة بقيادة نتنياهو)، لم تجنح لمثل هذه التسوية السياسية، بفعل نظامها السياسي الصهيوني القائم على: "نريد فلسطين يهودية كما هي بريطانيا بريطانية وهولندا هولندية" كما قال ثاني رؤساء الحركة الصهيونية حاييم وايزمان قبل نحو عقدين من نشوء إسرائيل في العام 1948.

بل تعلم إدارة أوباما أيضاً أن أياً من حكومات إسرائيل القادمة لن تجنح لمثل هذه التسوية طالما ظل هذا النظام السياسي الصهيوني هو حاكم سياستها والمتحكم بها. أي طالما ظل مطلب الاعتراف بإسرائيل، (غير محددة الحدود والرافضة للاعتراف بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره)، "دولة للشعب اليهودي"، كمطلب رفضت حتى الولايات المتحدة التسليم به يوم موافقتها على قرار تقسيم فلسطين الذي أسس لقرار الاعتراف بإسرائيل عضواً في هيئة الأمم.

ذلك دون أن ننسى أن تجديد مطلب الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي" في السنوات الأخيرة لم يبدأ على يد حكومة نتنياهو- ليبرمان -نفتالي بينت كما يظن البعض، بل كانت "حمامة السلام" السيدة ليفني أول من طرحه بصورة رسمية وعلنية أثناء مفاوضات ما بعد "مؤتمر أنابولس" في العام 2007، بل وكان إيهود باراك يوم كان رئيساً لحزب العمل قد قال في العام 2004: "إسرائيل إما أن تبقى دولة يهودية أو أن تصبح كومة نووية"، ما يفسر إعلان رئيس حزب العمل الحالي، هيرتسوغ، عن تأييده مؤخراً لنتنياهو في هذا المطلب.

ومرة أخرى ما دامت الأمور تُبنى على مقتضاها فإن من الطبيعي أن يفضي تمسك حكومات إسرائيل بالمطلب الصهيوني الناظم والأساس: "نريد فلسطين يهودية كما هي بريطانيا بريطانية وهولندا هولندية"، إلى رفض حق اللاجئين الفلسطينيين في التعويض والعودة إلى ديارهم الأصلية، وإلى رفض التخلي عن القدس "عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل"، وإلى رفض التخلي عن الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة، وإلى رفض التوقف عن بناء المزيد منها، منذ طالب بذلك المرحوم حيدر عبد الشافي قبل خمسة وعشرين عاما أثناء مفاوضات "الأرض مقابل السلام" التي أطلقها "مؤتمر مدريد للسلام" في العام 1991، وإلى رفض حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة وسيدة وعاصمتها القدس ولو على حدود الرابع من حزيران 1967، أي على 22% من أرض فلسطين الانتدابية، وإلى اعتبار أن الفلسطينيين ليسوا شعباً بل مجرد "مجموعات سكانية غير يهودية تعيش على أرض إسرائيل الكبرى يكفي لتلبية احتياجاتها إقامة سلطة حكم ذاتي إداري أو إقليمي في أحسن الأحوال"، وإلى..........الخ من أوجه الرفض الصهيوني التي تصاعدت وتحولت إلى مطالب تفاوضية رسمية علنية بصورة غير مسبوقة على يد حكومتي نتنياهو السابقة والحالية. أما الجديد وغير الطبيعي الذي يحتاج إلى وقفة جدية وعملية فيتمثل فيما تشير إليه كل التسريبات التي لا تنطق عن الهوى وهو:

خطة كيري المنوي تقديمها قريباً مكتوبة وبموافقة شاهد الزور: "اللجنة الرباعية" تتبنى- وإن بضبابية تستهدف الاستدراج- جوهر المطالب الصهيونية المتعلقة بجوهر الصراع أو بـ"قضايا الوضع النهائي": اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والمياه، كما سماها "اتفاق "أوسلو". أي أن خطة كيري لا تتنكر للحقوق والأهداف والرواية والتطلعات والمطالب الوطنية والتاريخية الفلسطينية، فحسب، بل تتنكر لقرارات الشرعية الدولية التي يمكن أن تشكل أساساً لتسوية سياسية- ولو متوازنة- للصراع، أيضاً، ما يجعل الشعب الفلسطيني بعامة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بخاصة أمام خطة لإبرام "اتفاق نهائي" ينهي الصراع وفقاً لجوهر المطالب الصهيونية ويضع حداً لأدنى الأدنى من المطالب والحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية. أي أمام خطة لفرض استسلام وتسليم سياسييْن يعادلان- عملياً- تصفية القضية الفلسطينية من كل جوانبها. وهو الأمر الذي يفوق مشيئة وقدرة أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية كافة، بما فيها أكثرها مرونة واستعداداً لممارسة تكتيكات إستراتيجية التفاوض الثنائي المباشر تحت الرعاية الأميركية بحثاً عن تسوية سياسية في حدود إنهاء الاحتلال القائم على أراضي الضفة وغزة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس عليها وإيجاد "حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين وفقاً للقرار الدولي 194" كما يطالب أصحاب "مبادرة السلام العربية"، إنما دون استعداد منهم لاستخدام عوامل قوتهم ولو في حدود السياسي والدبلوماسي والاقتصادي منها، وكأن حق اللاجئين في التعويض والعودة إلى ديارهم الأصلية ليس جوهر القضية الفلسطينية الذي ترفض الإقرار به الأحزاب الصهيونية كافة، أو كأن "اللا" الصهيونية الكبيرة الطويلة العريضة لهذا الحق لم تتحول  إلى "لا" أميركية رسمية معلنة في خطة كيري.

كل ذلك دون أن ننسى أن وعود كيري بالتوصل إلى"اتفاق نهائي" حول جوهر الصراع خلال تسعة أشهر لم تكن أكثر من نكتة، إنما دون أن ننسى أيضاً أن السيد كيري كان يستهدف منذ البداية بلورة خطة لن يطالب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن توافق عليها وتوقيع "اتفاق نهائي" على أساسها، بل أن توافق على مبدئها وتتحفظ على ما تشاء من بنودها، أي بأن ترد عليها بـ"لعم" تضمن استمرار التفاوض على أساسها، وكأن خطر هذه الخطة على القضية الفلسطينية يكمن في تفاصيلها وليس في جوهرها الذي يعادل التفاوض على أساسه التفاوض على أساس المطالب الصهيونية وناظمها الأساس مطلب الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي".

هذا ناهيك عن أن قبول مبدأ هذه الخطة يعني استمرار التفاوض مع إسرائيل الرافضة لتحديد حدودها، ولوقف عمليات المصادرة والاستيطان والتهويد، ولحق الشعب الفلسطينيي في تقرير المصير، بل الداعية إلى ضم أجزاء من الضفة، وإلى التطبيع مع العرب قبل التوقيع.

لذلك كله ليس من التطير القول: خطر خطة كيري لا يكمن في قبول إبرام "اتفاق نهائي" على أساسها، فحسب، بل أيضاً في قبولها بصيغة "وافق وتحفظ" التي تدعو إليها إدارة أوباما المتسلحة بموافقة "اللجنة الرباعية"، وبصمت، كيلا لا نقول تواطؤ، "لجنة وزراء الخارجية العرب" الناطقة باسم جامعة الدول العربية.                    
                  

التعليقات