28/06/2014 - 15:29

عن الطبقة الكومبرادورية.../ نمر سلطاني

النموذج الثالث لا يضمن بالضرورة عالما أفضل لأن لا وجود لليقينيات والحتميات التاريخية. ولكنه يضمن أن جيلنا قد حاول على الأقل الانعتاق من أسر الانهزامية التي تنتج الهزيمة ومن الإصلاحية التي لا تمنعها

عن الطبقة الكومبرادورية.../ نمر سلطاني

ماذا يجب أن يكون الموقف من السلطة الفلسطينية؟ يبدو أن هناك ثلاثة توجهات في الشارع الفلسطيني والعربي عموما تجاه مثل هذا السؤال. الأول، يرى أنه في ظروف الضعف العربي والفلسطيني لا خيار أفضل من الموجود. وقد يشير هذا الرأي الى الوبال والويلات التي قادها علينا "التهور والاندفاع الثوري" الذي ميّز الستينيات وبداية السبعينيات وفشل الانتفاضة الثانية وما إلى ذلك. وهذا الموقف ذو علاقة قرابة مع نزعة العزوف عن السياسة والرّدة الثقافية الشاملة التي رافقت تراجع اليسار العربي والعالمي منذ نهاية السبعينيات. وتعبيره لا يتجلى فقط في نغمة "بدنا نعيش" وإنما أيضا بالسياسات الساداتية والمباركية وقبلهما الملك حسين. وهذا الموقف ليس مقصورا بطبيعة الحال على القيادات السياسية وإنما على الكثير من النخب الأكاديمية والاقتصادية. وليس صدفة أن بعض أركان مثل هذا الخطاب (أبو مازن ومبارك مثلا) يستعملون النموذج الأبوي. لأن نموذج الأب بطبيعة الحال محافظ في حرصه على أولاده حتى لو كان ثوريا في شبابه. وهذا الخطاب نفسه يعارض التحركات الثورية العربية لأنه ملتصق بالوضع القائم. وليست الفوضى التي تبعت هذه التحركات سوى تصديق لموقف مسبق عند هذا الخطاب (حتى لو كانت هذه النتائج غير مرتبطة عضويا ولا نتيجة حتمية للتحركات ذاتها).

ولكن استعمالي لكلمة خطاب حتى الآن غير دقيق. لأن هذا الخطاب منغمس بشبكة من المصالح والمكتسبات التي تنبع من دور بنيوي يلعبه أصحابه. هذه طبقة كومبرادورية أي أنها تلعب دور الوسيط. فالنخب الفلسطينية تلعب دور الوسيط مع الاحتلال من ناحية، ومع المجتمع الدولي بمؤسساته النيوليبرالية والأمنية من الناحية الأخرى. وحتى لو انتهى الاحتلال غدًا يبقى الدور الذي تلعبه النخب (مثل في كل دول العالم الثالث) من التفريط بالموارد المحلية لمنفعة النظام الاقتصادي الرأسمالي والسياسي المهيمن ولذا الخطاب القومي قاصر بحد ذاته كخطاب تحرر قومي إذا لم يضمن فكرا يساريا تحرريا من كل أشكال علاقات الاستغلال؛

أما الخطاب الثاني فيرى أن المطلوب هو تحسين الموجود بعض الشيء بتعديلات طفيفة على الخطاب والممارسة السياسيين للقيادة الفلسطينية. ويتجلى ذلك بالخلافات الداخلية أحيانا بين موظفي وداعمي السلطة الفلسطينية حول أمور مثل الإعلان عن الدولة، أو الوحدة مع حماس وشروطها وتوقيتها، أو الانضمام إلى المواثيق الدولية هذه أو تلك. وفي الغالب يرى هذا الخطاب أن الإشكالية في أوسلو نابعة من أداء المفاوضين وعدم استشارتهم لمحامين فقط لا غير؛

أما الخطاب الثالث، فيرى أن مشكلة الطبقات الكومبرادوية أنها مرتبطة أيديولوجيا ومصلحيا بنظام الاضطهاد والاستغلال، وبالتالي لا يمكن التعويل على إصلاحات طفيفة لتغيير علاقات القوة المختلة تماما بين الطرف الضعيف والقوي. وبناء عليه، ما كانت علاقات القوة لتنتج شيئا أفضل بكثير من أوسلو حتى لو تسلح المفاوض الفلسطيني بأفضل الخرائط والمستشارين القانونيين. ولن يكون ابن الديكتاتور أفضل كثيرا من أبيه فتغيير الأشخاص لا يغيّر كثيرا في بنى الدول التسلطية.

دعيني، عزيزتي القارئة، أطلق على هذه النماذج: الانهزامي والاصلاحي والثوري. إشكالية الاول واضحة لأن إنهزامية الخطاب لا تترك مجالا لتخيل بدائل للواقع. وإشكاليته تتفاقم مع تفاقم سوء الوضع الفلسطيني والعربي. فقد لا يجد هؤلاء قرارًا للهاوية ولن ينعدموا تبريرات أيديولوجية للدفاع عن تقهقرهم المستمر. هؤلاء خانعون لما يسميه أحد المفكرين "ديكتاتورية انعدام البدائل". وإفلاس هذا الخطاب ينبع من تناسيهم لكونهم جزءا رئيسا من إعادة إنتاج الوضع القائم وبالتالي منع ظهور البدائل التي يتشدقون بعدم وجودها بعد أن منعوا بأفعالهم وأقوالهم ظهورها أو حتى التفكير بها بشكل جديّ.

ومشكلة الخطاب الثاني واضحة: فهو مبنيّ على الوهم أن التكتيك قد يتحوّل بقدرة قادر إلى إستراتيجية. وهو مبنيَ على تجاهل الوضع البنيوي للطبقة الكومبرادورية والتعامل مع الموضوع كما لو كان متعلقا بحسن نية، أو بقصور أداء عيني أو مرحلي، أو بتغيير كلمات خطاب يلقيه رئيس او مسؤول ما. ولكن الكومبرادريين يخذلون هؤلاء في كل منعطف: فبعد أن قررت السلطة تقديم تقرير غولدستون للجنة حقوق الإنسان تراجعوا بعد الضغط. وبعد أن قررت السلطة الإعلان عن دولة اتضح أنهم لم يفحصوا الموضوع جيدا، وبعد أن توجهت مرة أخرى بعد عام، وحصلت على مراقب لم تنضم للمعاهدات، وبعد أن انضمت للمعاهدات لم تنضم لمعاهدة روما بشأن المحكمة الجنائية، وهكذا.

النموذج الثالث لا يضمن بالضرورة عالما أفضل لأن لا وجود لليقينيات والحتميات التاريخية. ولكنه يضمن أن جيلنا قد حاول على الأقل الانعتاق من أسر الانهزامية التي تنتج الهزيمة ومن الإصلاحية التي لا تمنعها.

التعليقات