06/07/2014 - 19:56

عن الاحتجاج والشغب/ نمر سلطاني

يتكرر السيناريو بإختلاف بعض التفاصيل. تشتعل شرارة الاحتجاج وتتجلى بعض أشكاله بما يمكن أن نسميه أعمال شغب وتخريب للممتلكات العامة. ثم تتعالى بعض الأصوات لتندب هذا العنف والشغب وتطالب بالعودة إلى الحياة اليومية وتتباكى على خسارة بعض الزبائن نظراً للإخلال بالأمن. وتنقسم هذه الأصوات إلى نوعين من حيث النبرة التي يتقمصها أصحابها: البعض وطنيّ ومؤيد للاحتجاج ولكنه يخاف من خروج الأمور عن السيطرة ويحاول جاهدًا تحديد الخط الفاصل ما بين الاحتجاج والشغب. والبعض معارض للإحتجاج أصلاً ولا يرون فيه إلا شغبا.

عن الاحتجاج والشغب/ نمر سلطاني
يتكرر السيناريو بإختلاف بعض التفاصيل. تشتعل شرارة الاحتجاج وتتجلى بعض أشكاله بما يمكن أن نسميه أعمال شغب وتخريب للممتلكات العامة. ثم تتعالى بعض الأصوات لتندب هذا العنف والشغب وتطالب بالعودة إلى الحياة اليومية وتتباكى على خسارة بعض الزبائن نظراً للإخلال بالأمن. وتنقسم هذه الأصوات إلى نوعين من حيث النبرة التي يتقمصها أصحابها: البعض وطنيّ ومؤيد للاحتجاج ولكنه يخاف من خروج الأمور عن السيطرة ويحاول جاهدًا تحديد الخط الفاصل ما بين الاحتجاج والشغب. والبعض معارض للإحتجاج أصلاً ولا يرون فيه إلا شغبا.
 
في نظري، كلا الصوتين يضلّ عن الصواب. الأول لأنه يفترض وجود سيطرة أصلا على الأحداث وبالتالي فإن النقد متأخر وعقيم. والثاني لأنه عاجز عن فهم الشغب كظاهرة سياسية وتاريخية واجتماعية. أي أن خطأ الموقف الأول ينبع من سياق خاطىء والثاني ينبع من انعدام كليّ للسياق. كما أن الموقف الثاني 'اللاسياسي' يحمل في طياته الإدانة السياسية للإحتجاج الذي قد يؤدي إلى تغيير الواقع، خاصة أنه يتمّ بطرق لا يسمح بها الوضع القائم (لكي يضمن استمراريته وسيطرته على إيقاع التطورات). وقد يذكر القراء أن لجنة أور للتحقيق في 'أحداث أكتوبر' وصمت هبة الأقصى في أكتوبر ٢٠٠٠ بأعمال الشغب.     
 
سوسيولوجيا، قد لا نرى فرقا بين الاحتجاج والشغب. هما في هذه الحالة إخلال بالأمن وخرق للقانون وكسر للروتين. بهذا المعنى كل احتجاج يتضمن بالضرورة درجة ما من الشغب. ولكن عندما يحاول علماء الاجتماع فهم 'الشغب' كظاهرة جماعية في حالة أقليات عرقية أو قومية فإنهم يبحثون عن الأسباب الفورية التي أطلقت الشرارة والأسباب الأعمق على شاكلة التمييز والعنصرية والاحتقان. مثلا بحثت جانيت أبو لغد ظاهرة الشغب عند الأقلية السوداء في المدن الأميركية، شيكاغو ولوس أنجلس ونيويورك. وخلصت أبو لغد إلى أن الشغب هو 'شكل من أشكال السياسة' ويظهر بشكل خاص عندما لا يكون هناك مجال للتنفيس عن مطالب الأقليات ولا يتجاوب النظام المسيطر مع مطالب الاصلاح والتغيير. 
 
إذا، حتى التحليل السوسيولوجي يقودنا بالضرورة إلى السياسي. خاصة أن الشغب هو ليس ظاهرة نادرة بل ظاهرة تاريخية متكررة في الكثير من الدول. مثلا، قام السود في أميركا (ونسبتهم السكانية هناك أقل من نسبة الفلسطينيين في إسرائيل مع أن أعدادهم أكبر) بالكثير من الاحتجاجات التي رافقتها أعمال شغب (وهم الذين عانوا من الفصل العنصري حتى نهاية الستينيات وما زالوا يعانون من التمييز والعنصرية). مثلاً، في عام ١٩٦٥ اندلعت الاحتجاجات لستة أيام في ضاحية واتس في لوس أنجلس بعد اعتقال الشرطة لسائق أسود ثمل واعتداءها عليه. وخلّفت هذه الاحتجاجات ٣٤ قتيلا وأكثر من ألف جريح وما يزيد عن ٣ آلاف معتقل و٤٠ مليون دولار من الخسائر للممتلكات. أما الاحتجاجات في ديترويت في ١٩٦٧ فقد بدأت بسبب إغارة بوليسية على حانة غير مرخصة واستمرت خمسة أيام ونتج عنها ٤٣ قتيلا وأكثر من سبعة آلاف معتقل وما يقارب الثمانين مليون دولار من الأضرار للممتلكات. وفي عام ١٩٩٢ انتفض السود في لوس أنجلس بعد تبرئة عناصر الشرطة الذين اعتدوا على رودني كينغ. واستمرت الاحتجاجات ستة أيام ونتج عنها وعن قمعها من قبل الشرطة والجيش ٥٣ قتيلا وأكثر من ألفي جريح.     
 
هذه المقارنة مع السود في أميركا لها ما يبررها لأن الفصل السكاني والتعليمي بين الأكثرية والأقلية وعزل الأقلية في غيتوات فقيرة تعاني من الفقر والكثافة السكانية والبطالة والإجرام، كلها عوامل حاضرة في الحالتين. ذلك أن نوعية النظام القائم والقوانين السائدة التي تنتج أنواعا معينة من أنماط التصرف والهويات تساهم بإمكانية حدوث الشغب. وذلك يستدعي فهم الظاهرة بشكل أعمق من مجرد كونها طفرة خارجة عن المألوف. هي فعلا طفرة بمعنى أنها ليست شكل الحياة اليومي الذي تعوده الناس وخارجة عن حساباته. ولكنها ليست طفرة إذا كنا نعني بذلك أن حدوثها غير مبرّر من قبل السيرورات المجتمعية.
 
ومما يستدعي التفكير هنا: لماذا يتظاهر البعض من أجل عودة النظام وضد الشغب مع أنهم لم يتظاهروا ضد الأسباب التي أدّت إلى الشغب؟ وقد يكون جواب ذلك أن الأسباب العامة للاضطهاد لا تتجلى بشكل مباشر كتهديد لمصالح الناس العاديين لأن الكثير منهم تعلم التعايش معها أو لا يرى مقدرته على تغييرها (أي أنهم قاموا بتشييء الواقع ويرونه خارج إرادتهم وقدرتهم على الصنع والتغيير). في حين أن الشغب (إغلاق شارع، حرق سيارة، منع مجيء زبائن) هو خسارة مادية مباشرة. بإختصار، الاضطهاد العام مجرّد وبعيد بينما الشغب محسوس وقريب.        
 
هل معنى ما تقدم أنه لا يجب السيطرة على الاحتجاجات ومحاولة تسييرها من قبل قيادات؟ المشكلة هنا أن الذين يرغبون في السيطرة على الاحتجاجات لكي لا تصبح شغبا يتناسون أنها كأحداث غير مخططة تماما وبالتالي إمكانية السيطرة عليها محدودة. ومرة أخرى فإن التجربة النضالية للسود في أمريكا تزودنا ببعض العبر. فرغم أننا جميعا نعرف أسماء زعماء مثل مارتين لوثر كينغ كرمز للنضال الأسود ('حركة الحقوق المدنية') بصوته الجهوريّ إلا أن المؤرخين السود أمثال كليبورن كارسون قد أوضحوا أن دور القيادات والتنظيمات القطرية كان محدودا في قيادة نضال السود والحملات العينية ضد الفصل العنصري في الباصات والمطاعم وغيرها في الخمسينيات والستينيات. لقد كان دور القيادات المحلية أهمّ. وفي حين وفرّت القيادات القطرية الإلهام والموارد إلا أنهم لم يسيطروا على الأحداث ولم يكونوا بالضرورة المبادرين إليها. إنّ دور قيادات مثل إيلا بيكر لا يقل أهمية عن كينغ. بل كانت بيكر تدّعي أن التنظيم من الأسفل أهمّ وأنجع من التنظيم الهرمي الذي يبنى على تنفيذ قرارات من القيادة العليا. ذلك أن الناس يجب أن ينظّموا لكي يصبحوا مستقلين ولا يعتمدون على 'قيادة' لكي 'تقودهم' إلى حياة أفضل.
 
وذلك يعني أن القيادة الحقيقية هي التي تعمل على تنظيم الناس أكثر مما تعمل على قيادتهم وتمثيلهم. وذلك يعني أن هناك حاجة لتخطيط طويل الأمد لكي تكون هناك جاهزية كفاحية على مستوى الناس عندما تأتي المناسبات الاحتجاجية 'فجأة' مرة أخرى. من دون مثل هذا التنظيم على الأمد البعيد سيكون من الصعب الاستفادة من هذه الاحتجاجات وسوف يكون من الصعب تغيير الوضع القائم.        
 

التعليقات