27/08/2014 - 16:49

أسئلة ملحة تطرحها المنازلة الأخيرة../ عوض عبد الفتاح

إذا كان القطاع الصغير والمحاصر وذو الإمكانيات المادية والتسليحية المتواضعة، ورغم الظرف الإقليمي والدولي البائس، يخوض نضالاً جسوراً ويسجل صموداً خارقاً أمام أقوى الجيوش. فكيف لا يخرج إبداعاً مماثلاً من قيادات الشعب في الضفة، والمقصود إبداع في مجال النضال الشعبي المدني، وهذا ليس مكلفاً في الأرواح والمعدات كما هو الحال في المنازلة المسلحة في قطاع غزة؟

أسئلة ملحة تطرحها المنازلة الأخيرة../ عوض عبد الفتاح

 لا حرب بدون جروح. جروح عميقة في الجسد وجروح في النفس.
وحين يكون الأمر ناتجا عن مقاومة شعب يحيا تحت نير قهر ظلم طويل فإن هذه الجروح تؤخذ كجزء من دفع ثمن الحرية. هذا ليس مفروغاً منه، فالمجروح حتى الصميم؛ في فقدان عائلته، وأبنائه، وفي إصابة آخرين، وفقدان البيت، لن يقوى عل لملمة الجراح وتضميدها، إلا إذا حضر شرطان:
الأول إغاثته فوراً، والوقوف إلى جانبه والتخفيف من معاناته؛
ثانياً، تثمير صموده من خلال مده بالأمل، وإشعاره أن تضحياته، وفقده، ودماءه لم تذهب هدراً. وهذا يتصل بالاستثمار السياسي الصحيح.

الحديث يدور عن قصة شعب، يتطلع في كل لحظة إلى الانتهاء من هذا الظلم الفظيع. وأفهم استعداده للموت على أنه ليس حباً به، ولا استهتاراً بالحياة، بل رغبة جامحة بحياة حرة كريمة، تُخلصه من هذا الظلم، تُخلص أبناءه وحفاده. لقد أثبت هذا الشعب في المعركة الأخيرة، كما في المعارك السابقة، أن لديه مقاتلين أشداء، وأن قدرته على التضحية غير محدودة، ومقدرته على الالتفاف حول مقاومته أيضاً لا جدال فيها، والجبهة الفلسطينية الداخلية صمدت أمام كل حملات الحرب النفسية التي شنتها إسرائيل خلال عدوانها. ولا يقل أهمية عن ذلك أن لديه قيادة تتعلم باستمرار، وتتفادى الأخطاء السابقة، وتراكم المعرفة.

كتب الكثيرون، عن الصمود، وحلّل الكثيرون معاني هذا الصمود بالنسبة للشعب الفلسطيني. وكتبوا عن تداعيات ذلك على إسرائيل، وعلى وضعها الداخلي، التداعيات القريبة والبعيدة المحتملة. وستحتاج متابعة الوضع الإسرائيلي الداخلي إلى رصد متواصل ودقيق بعيداً عن المبالغة والتهويل، وذلك لمعرفة كيف ستتعاطى إسرائيل مع نتائج العدوان وكيف ستكون نظرتها وتعاملها مع قضيتنا. هل ستعيد حساباتها، أم أنها ستمضي في غيّها وجنونها؟ خاصة وأن هناك تطابقاً في الجنون بين الحكام ومجتمعهم.

لكن هناك أسئلة كثيرة، وتحديات كبيرة، لا بدّ أن تشغلنا جميعاً، أن تشغل كل قيادات شعبنا، وكل الأوساط ذات التأثير على الرأي العام. وبغض النظر عن كيفية النظر إلى هذه الجولة من الصراع ونتائجها سواء وصفت بالنصر، أو بإحباط أهداف العدوان الإسرائيلي، فإن هناك شبه إجماع على أن المقاومة في غزة هزت فرضيات ظنّ البعض أنها معطيات ثابتة، وأكدت أنه بالإمكان مقاتلة إسرائيل وفي ظل أصعب الظروف إذا ما توفرت الإرادة.

وتتعلق الأسئلة بشكل خاص، في كيفية تفاعل صمود غزة الأسطوري على مسار الوحدة الفلسطينية، وهل ستترجم إلى وحدة مؤسسات، ووحدة رؤية سياسية، ووحدة الوسائل.

وفيما يتصل بهذا السؤال، كيف سيكون تأثير هذا الصمود على مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، وكيف نترجم هذا التأثير، إذا افترضنا أنه إيجابي (على المستوى المعنوي والإستراتيجي، وهو إيجابي بالطبع)؟ كيف سيكون تأثير ذلك على أهالي الضفة والقدس؟ من يقوم هناك بتأطير المناخ الجديد الناجم عن صمود غزة  لتجديد النضال ضد الاحتلال؟ وهل هناك تفكير جدي واستعداد عملي لذلك؟ نقول ذلك لأن قيادة القوى ذات النفوذ والتأثير والتي تتمتع بحرية نسبية، حزب السلطة- فتح بالتحديد، مقارنة مع حركة حماس مثلاً والجبهة الشعبية، لا تزال مترددة في حسم الأمر.

نطرح هذا السؤال، لأن أهالي الضفة والقدس ونظراً لموقعهم، ولوضوح قضيتهم في عرف المجتمع الدولي باعتبارهم تحت احتلال عسكري، ونظام فصل عنصري، هم القادرون، إذا ما أرادوا، أو إذا أرادت قيادتهم، تشكيل سند حقيقي لمطالب المقاومة  في قطاع غزة. من الواضح أنه بعد وقف اطلاق النار، لن تتمكن غزة من استئناف دورها المقاوم لفترة من الزمن، فهي ستنشغل بتضميد جراحها، وفي خوض معركة سياسية ودبلوماسية صعبة لانتزاع مطالبها، وللمساهمة وفي فضح إسرائيل وملاحقة حكامها كمجرمي حرب.

ويُشتق من نفس السؤال أيضاً، سؤال فرعي، هام، وهو هل قيادة السلطة الفلسطينية، التي مجدّت المقاومة في الأسابيع الأخيرة، بعد أن كانت استخفت بها ونعتت صواريخها بالعبثية في الأيام الأولى من العدوان، وقبل ذلك أيضاً، قادرة ومؤهلة على ترجمة هذا الانتقال، القسري، إلى نهج صدامي، في المستوى الميداني، والمستوى الدبلوماسي، أم ستعود "حليمة إلى عادتها القديمة" بعد أن تشتد معركة التفاوض في القاهرة، وبعد أن تتعاظم ضغوط الامبريالية الأمريكية للعودة إلى التفاوض بدون مرجعية.
وإذا كان صحيحاً، أن لدى قيادة السلطة خطة سياسية دبلوماسية جريئة تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، فهل ستمضي بها؟ وإذا ما مضت بها هل سيكون ذلك على حساب تحريك الشارع الفلسطيني ضمن إستراتيجية نضال شعبي صدامي مع الاحتلال؟ أم تترك الشارع مُحيّدا أو مقموعاً، انتظاراً لما ستسفر عنه مفاوضات مجموعة صغيرة من المفاوضين؟

وتساؤل آخر فيه كثير من الشك. هل أصلاً القيادة الحالية للسلطة ولفصائل منظمة التحرير المترهلة قادرة على إدارة معركة ما بعد غزة؟

هل لدى هذه القيادات قدرة على الإبداع السياسي، وفي مجال قيادة نضال شعبي بمستوى إبداع شباب حماس والجهاد والشعبية في المجال العسكري؟ هذا الإبداع الذي تجلى في التحضير الطويل لمعركة غزة، وفي إدارتها المهنية والمتماسكة التي أذهلت العدو.

لقد تأكد في الأيام الثلاثة، التي تم فيها تحرير شعفاط وقلنديا، على أثر اغتيال الشاب محمد خضير وعلى أثر اقتحام عشرات آلاف الشباب الفلسطيني وبقيادة شبابية، حاجز قلنديا، وامتداد المواجهات في مختلف مدن ومخيمات الضفة، أن لدى شعبنا قيادات من الجيل الفلسطيني الشاب قادرة ومؤهلة لذلك. لقد جرى بعدها لجم هذه الاندفاعة، إما مباشرة، وإما بسبب غياب الدعم التنظيمي من الكبار (القادة)، وذلك لأن الترهل والعقم كان حائلاً أمام ذلك. لقد أتلفت قيود وعقلية أوسلو العقل والإرادة لدى النخبة والدائرة المرتبطة باتفاق أوسلو. فهل يمكن الرهان على إمكانية أن تُصلح مقاومة غزة، بصورة جذرية، ما عطب في هذه العقلية، وتُحرر الإرادة نهائياً.

صحيح أن إحداث انعطافه حقيقية في النهج، يحتاج أولاً إلى قراءة سياسة للميدان ولمزاج الناس، وللواقع الإقليمي والدولي، ولكن أيضاً يحتاج إلى تغيير في نمط الحياة، والخروج من حالة الاسترخاء والسكون والانتظار.

الدرس الأهم الذي يجب أن نأخذه من غزة، هو: إذا كان القطاع الصغير والمحاصر وذو الإمكانيات المادية والتسليحية المتواضعة، ورغم الظرف الإقليمي والدولي البائس، يخوض نضالاً جسوراً ويسجل صموداً خارقاً أمام أقوى الجيوش. فكيف لا يخرج إبداعاً مماثلاً من قيادات الشعب في الضفة، والمقصود إبداع في مجال النضال الشعبي المدني، وهذا ليس مكلفاً في الأرواح والمعدات كما هو الحال في المنازلة المسلحة في قطاع غزة؟

ألا يحتّم ذلك كله إجراء مراجعة حقيقية وجذرية لعقلية الارتهان للخارج، وإلى تحرير الإرادة المحتجزة بعد أن أحدثت غزة اختراقاً في هذا العقلية. المطلوب سدّ الطريق نهائياً أمام عقلية التواكل والارتهان.
 

التعليقات