19/09/2014 - 09:40

ملاحظات في الوضع الراهن../ عوض عبد الفتاح

التحدي المباشر أمامنا يتمثل في النجاح في تنظيم صفوفنا، والإسراع بمأسسة هيئاتنا التمثيلية العربية، وعلى رأسها "لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب" لتتحول إلى مرجعية سياسية-وطنية حقيقية لحوالي مليون ونصف فلسطيني في إسرائيل. هكذا يمكننا أن نُدير نضالنا بصورة أفضل ونُدير حياتنا الاجتماعية، والتعليمية، والثقافية والاقتصادية بصورة ناجعة

ملاحظات في الوضع الراهن../ عوض عبد الفتاح

 

لم تكد تمرّ أيام قليلة على توقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وعلى ملحمة الصمود الأسطوري للمقاومة، حتى بدأت الآمال والتوقعات بإمكانية حدوث تبدل بالواقع السياسي سواء داخل الجسم الفلسطيني أو داخل الائتلاف الصهيوني اليميني الحاكم، تتكسر.

فالساحة الفلسطينية، وقبل أن تجف دماء الشهداء من الأطفال والنساء والمقاتلين الأشداء، شهدت عودة سيزيفية للانقسام والتشرذم.

أما الساحة الإسرائيلية، فرغم فشل أهداف العدوان، فإن الصراع الذي نشب، أو تجدد، داخل الائتلاف الحاكم ليس متعلقًا بالتراجع عن نزعة العدوان، وبالجنوح نحو السلم، إنما حول درجات التطرف وحول صراع قوى.

وفي هذه الأثناء جاء الحشد الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ليضعنا في مشهد أشبه بذلك المتشكل بعد تدمير البرجين في نيويورك في 09/11 2001، وكان ذلك في أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي أعادت تذكير العالم بأن قضية فلسطين لم تجد حلاً لها بعد، وأن "أوسلو" لم يكن سوى سراب.

إذًا عاشت القضية الفلسطينية، في صيف 2014 فترة أيام من الانتعاش والحياة، بفضل مقاومة فلسطينية باسلة وصمود أسطوري لجمهورها المسجون في قطاع صغير يخضع لحصار إجرامي قلّ نظيره منذ ثمان سنوات. دماء غزيرة سالت، وأرواح كثيرة أزهقت، وأحياء كاملة مسحت، بكبسة زر من طيار صهيوني يُحلق في الأعالي دون أن يرى ما فعلت أصابعه. ولكنه يفعل ذلك براحة بال وراحة ضمير لأن المقتول ليس الصحفي الأمريكي بسكين داعشي، بل أناس ليسوا محسوبين على الجنس الأبيض.

والآن يبدو المشهد وكأنه استمرار لما كان قبل الحرب، بل يبدو أخطر مما كان. فالعالم يعود ليشيح بوجهه عن قضية فلسطين، وعن جرائم صنيعته، إسرائيل، ليتحول إلى محاربة عدو لا يجد صعوبة في تجنيد خصومه وأعدائه وأصدقائه وحلفائه في حلف واحد.. وهو عدو ساهم كل هؤلاء في تنميته بصورة مباشرة وغير مباشرة. هم، وأية مصداقية لهم!، يحاربون وجوده العسكري، دون البيئة والسياسات التي ولدته.

وفي إطار هذا الحلف، تجد إسرائيل، عدو الشعوب العربية قاطبة، باعتبارها كيانًا استعماريًا استيطانيًا اقتلاعيًا وتوسعيًا، مكانها الطبيعي، سواء كانت شريكًا بصورة رسمية أو غير ذلك. إن التيار العربي المتصهين لم يعد يرى أي حرج أو يشعر بأي ذرة خجل في التنسيق والتعاون مع هذا الكيان لتصفية حسابات مع أنظمة عربية أخرى، أو مع منظمات مقاومة فلسطينية أو عربية، خاصة حركة حماس وحزب الله.

على مدار ثلاثة أعوام فشل العرب في الاتفاق حول صيغة للتعامل مع الزلزال الذي هزّ أقطار الوطن العربي عام 2011. إهتزت الأنظمة المستبدة وسقط بعضها، وأخفقت قوى التغيير في إدارة الثورات، وبعضها جنح وارتمى في أحضان الأعداء متوسلا تدخلهم وصولاً إلى دخول معظم الأقطار العربية في نفق مظلم. في حين أن الإدارة الأمريكية تجمعهم في أيام قليلة. لم يكن للغرب ومعهم الكثير من العرب أي مصلحة في إحداث تغيير جذري في المجتمعات العربية التي سئمت الاستبداد، والتبعية للخارج. هذا الاستبداد والتبعية ولّد المزيد من البؤس تمثل في الذلّ، والفقر، والقمع، والتخلف الحضاري والاقتصادي والثقافي.

هكذا الآن ترسم لنا الإمبريالية الأمريكية والأنظمة الرجعية، الطائفية، والاستبدادية، معالم مرحلة أكثر خطورة تتسم بالمزيد من الهدم والتأخر والقتل والاقتتال، ولا أحد يعرف كيف ومتى تتمكن قوى التغيير الشعبية الحقيقية من العودة إلى الإمساك بالأمور وإعادة فتح الطريق نحو الحرية، حرية المواطن، وحرية الوطن. بعد أن جرى قمعها بطريقة وحشية منذ اليوم الأول من انطلاق ثوراتها.

إن الإدارة الأمريكية تتحدث عن ثلاث سنوات من الحرب على داعش، ما يعني أننا أمام فترة طويلة من القتل، والنزاعات، وتصفية الحسابات. وفي خضم هذا العبث؛ سيبقى الإنسان الفلسطيني يصارع الاستعمار الصهيوني وحده، ويعاني المزيد من التجاهل والتهميش الدولي، وكذلك سيبقى المواطن العربي الذي انتفض على الظلم يكابد وحده إلى حين بزوغ أفق جديد. وفي اعتقادنا أن لا حل، في ظل ما وصل إليه الوضع، سوى العودة إلى المحاولة لإيجاد تسويات انتقالية تفاديًا لمزيد من القتل والدمار، وحفاظًا لما بقي من كيانات.

القضية والحركة الوطنية الفلسطينية بعد أسطورة الصمود

إن إضفاء صفة الأسطورة على صمود المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من قبل الجميع، لم يكن وصفًا شاعريًا أو عاطفيًا، بل وصفا لسلوك إنساني نبيل لمجموعة من الناس تدافع عن أرضها وأهلها وقضيتها ببسالة لافتة وبإيمان عميق وبإرادة فولاذية.

لقد نبع هذا الوصف والتقييم من عدة عوامل:

العامل الأول: التجرؤ على خوض مقاومة في ظرف جغرافي وإقليمي ودولي وفلسطيني صعب، بل في غاية التعقيد لم تعرفه أي حركة مقاومة في تاريخ حركات التحرر الحديثة، دون أن تستسلم أو ترفع الراية البيضاء. والأكثر أنه أثناء العدوان وخاصة في الأيام الأولى، لم تقتصر جبهة المناهضين لحماس والمعادين للمقاومة، على أعدائها الإمبرياليين والصهاينة، وكذلك من خصومها العرب كالنظامين المصري والسعودي والإماراتي، إنما أيضًا، وهو الأخطر من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، والذي لم يُغيّر موقفه (لفترة وجيزة جدًا) سوى تيقنه من قدرة صمود المقاومة، وخوفه من اجتياح الجماهير الفلسطينية مقرّه في المقاطعة والإطاحة به كما فعلت الجماهير المصرية البطلة بنظام محمد حسني مبارك، فقط حينها أرخى قبضته قليلاً، ولأيام قلائل، عن كوادر فتح القاعدية الأصيلة، وعن جيل الشباب الفلسطيني المتفجر غضبًا، والذي رأيناه يقتحم بشجاعة حاجز الذل في قلنديا، ويخوض مواجهات بطولية في كافة أنحاء الضفة الغربية وفي أحياء مدينة القدس العربية.

العامل الثاني: الحصار الخانق، الجغرافي والاقتصادي والسياسي، وما يُسبّبه من استنزاف ومعاناة وحرمان وإحباط. فمن كان يتصور أن تتجرأ المقاومة الفلسطينية على الردّ بهذا المستوى من القوة على عدوان أكبر وأقوى جيوش العالم الخمسة في ظل هذا الظرف الخانق. وقد كان هذا من الفرضيات التي بنت إسرائيل سلوكها السابق عليها، (أي عدم قدرة حماس على الردّ) ولذلك رأى العديد من المحليين الإسرائيليين أن نتنياهو جرّته حماس إلى هذه الحرب.

العامل الثالث: هو الخبرة المتراكمة في تنظيم المقاومة وأدواتها وتكتيكاتها، وطريقة إدارتها للمعركة، والتي فاجأت العدو، وفاجأت حتى جمهورها، كما فاجأت أولئك الذين ناهضوها العداء، وأخرجوها من خانة المقاومة منذ اندلاع الثورات العربية. وهذا أهم عنصر في هذه المعركة.

خطر تبديد معاني الصمود

مع أن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، انخرطت فيها جميع الفصائل، وإن كان لحماس الدور الأكبر والأكثر تأثيرًا، بحكم موقعها، فإن قيادة السلطة الفلسطينية أظهرت بسلوكها، وقبل أن تمضي أيام قليلة على توقف العدوان، بأنها غير راضية ومتخوفة من كون الفرصة التي توفرت للنهوض بمكانة القضية الفلسطينية جاء بتأثير معركة صمود يخوضها تيار تعتبره خصمًا لها، حماس، وبسبب ثبوت مصداقية فكرة المقاومة المنبوذة في قاموس الرئيس.

فكيف يرتاح لإنجاز جاء من خصم، ولنهجه التفاوضي العبثي والجاحد لفكرة المقاومة أصلاً. وما زاده قلقًا وخوفًا، هو صدور نتائج استطلاع للرأي في الضفة الغربية والتي أظهرت التفاف 88% من الفلسطينيين هناك، حول المقاومة، في حين حظي محمود عباس بأقل من 30% على أدائه خلال الحرب. ودخلت على الخط المخابرات الإسرائيلية، التي زار ممثلها مكتب عباس في رام الله (باعتراف عباس نفسه) وأقنعه بأن حركة حماس تخطط لانقلاب على السلطة في رام الله، الأمر الذي دفع المحللين الحياديين إلى الاستخفاف بصحة المحاولة والقول؛ إنه لا يعقل أن تفكر حماس بهذا الأمر، إذ كيف تحكم حماس الضفة وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر المتغلغل في كل زاوية بوجوده العسكري، وغير قادرة أصلاً على دفع رواتب الموظفين لدى سلطتها في قطاع غزة. ويأتي هذا الهجوم، من قبل محمود عباس، رغم اتفاق المصالحة بين الطرفين، ورغم البراغماتية، بل المفرطة حسب البعض، التي أظهرتها حركة حماس من خلال توكيل عباس بمواصلة تحركاته السياسية في إطار الثوابت الوطنية.

والأخطر أن هناك محاولات حثيثة تتورط فيها أنظمة عربية، وأوساط في السلطة الفلسطينية لتبديد نتائج الصمود واحتواء دروسها وعدم تحولها إلى نهج مقاوم، في الضفة الغربية.. حتى بشكلها غير المسلح، وهو الذي تميل إليه غالبية الفصائل والأطر الوطنية في هذه المنطقة الفلسطينية. هذه الأوساط الفلسطينية المتنفذة داخل سلطة رام الله لا تريد أي شكل من المقاومة، الواسعة، الفاعلة حتى المقاومة المدنية.

جحود وانتفاع

إن هذه الأوساط وعلى رأسها محمود عباس، تظهر الجحود لما قدمته تجربة غزة الأخيرة، من مساهمة في إعادة فرض القضية الفلسطينية على الساحة العالمية. ولكن السلطة الفلسطينية تأخذ هذا الصمود إلى المحافل الدولية، وترمي صانعيه الحقيقيين جانبًا لأنها ببساطة لا تريد استكمال الطريق. هي تعود إلى نهج الاستثمار المتسرع. نعم رئيس السلطة الفلسطينية أخذ دفعة جديدة من هذا الصمود دون أن يعترف بذلك، نحو التوجه إلى المحافل الدولية، باستثناء المحكمة الدولية، ولكنه يفتعل الخلاف، مع حركة حماس، أو يقوم بتضخيم هذا الخلاف، بهدف التخلص من عبء الضغوط الدولية والعربية الرسمية المتمثل بالشراكة مع حماس، وبهدف احتكار الثمار والنتائج المحتملة لهذا الحراك الدبلوماسي، أو أنه يعتقد أن العالم؛ أمريكا تحديدًا (وحليفتها إسرائيل) تستجيب لطلباته حين لا تكون حماس شريكة. وهو وهم ثبت سقوطه المتكرر.

إن الخطة التي تحدث عنها عباس، والتي نقلها صائب عريقات، وماجد فرح رئيس المخابرات الفلسطينية، إلى واشنطن ووجهت بالرفض، وهي بالتالي ولدت ميتة.

وتشمل الخطة التقدم إلى الإدارة الأمريكية بطلب العودة إلى المفاوضات الثنائية مع وعد بإنهاء الاحتلال خلال ثلاث سنوات، وبعدها التوجه إلى مجلس الأمن لإقرارها، وبعدها الانضمام إلى المؤسسات والمواثيق الدولية، ولكن الإدارة الأمريكية هددت باستعمال حق النقض الفيتو.

إن العودة إلى المراهنة على الإدارة الأمريكية، وعبر مواصلة التخلي عن كل مصادر القوة الفلسطينية؛ الوحدة الوطنية والمقاومة الشعبية، هو استمرار للنهج الكارثي لا بدّ من وقفه نهائيًا.

كيف يواجه الفلسطينيون الوضع الحالي وما هي الخطوات المطلوبة؟

على خلاف ما كان متوقعًا أثناء العدوان، حيث تجسدت وحدة ميدانية وسياسية غير مسبوقة منذ الانقسام المأساوي، فإنه بدل أن ترتقي هذه الوحدة إلى مرحلة متقدمة، تحدث انتكاسة خطيرة هذه الأيام، حيث تجاوز الأمر التراشق بالكلام والاتهامات، وذهبت السلطة الفلسطينية إلى ممارسة الانقسام والتفرد مرة أخرى، وتقوم باستئناف الحراك الدبلوماسي بنفس العقلية والنهج القديم الذي أفلس وشبع إفلاسًا.

إن القوى والأوساط والكوادر الفصائلية المتيقظة تطرح تحركًا  شعبيًا حقيقيًا، يقوده النشطاء والأكاديميون وكل من له علاقة بصياغة الرأي العام الفلسطيني، وبشكل خاص قيادات فتح الناقدة، للضغط على رئيس السلطة وفريقه، للتخلي عن هذا النهج واعتماد نهج العمل الوحدوي، والنهج المقاوم. كما يحملون حركة حماس مسؤولية عن النهوض بالوضع وإجراء محاسبة ذاتية أيضًا.

تُجسّد هذه القوى والأوساط صوتها عبر المبادرة التي يشرف عليها مركز "مسارات" بعقد مؤتمر وطني فلسطيني عام تشارك فيه الفصائل الفلسطينية المعنية باعتماد خيارات بديلة، وهذا هو الرد العملي على هذا النهج.

أما حركة حماس، والتي تحملت كفصيل مقاوم وتتحمل القسط الأكبر من التضحيات، تبدو وكأنها حصرت مرة أخرى في المأزق الذي عاشته قبل العدوان.. حصار وعداء وحرمان مالي. ولذلك هي أيضًا مطالبة بأن تحسم أمورًا هامة، وأن تتصرف كحركة تحرر وطني مع كل ما يعني ذلك، وليس كجزء من حركة أممية إسلامية عالمية تنشد الخلافة. وكلك أيضًا مطالبة أن تواصل إعادة قراءة الخريطة السياسية الإقليمية، والمشهد السياسي العالمي، ولكن دون براغماتية مفرطة ومضرة.

لقد أجرت الحركة مراجعات هامة في السنوات العشر الأخيرة، وهي مراجعات هامة، لكنها غير كافية. وعلى سبيل المثال، قد تضطر إلى التعامل بواقعية أكثر من النظام المصري الجديد - القديم، إذ قد يستمر  هذا النظام الجديد لفترة طويلة.. ومعروف أن حكم العسكر في العالم العربي يعمّر طويلاً.. وإن كان المواطن العربي أصبح اليوم أكثر جرأة وأكثر تحررًا. ولكن ماذا نفعل حين يكون جزءٌ كبير من الثوار ضد نظام مبارك هم من المساندين الأشداء لنظام عبد الفتاح السيسي. ولنترك أمر التغيير القادم للقوى المصرية المعارضة، والتي من المفترض أن تعتمد النهج الشعبي السلمي طويل النفس من أجل تحقيق أهداف ثورة 25 يناير 2011. كما أنها أيضًا مطالبة بتحسين إدارتها للمجتمع الفلسطيني في غزة، على أساس احترام قيم الديمقراطية والتعددية والمدنية. فالحركة التي رفضت الاصطفاف إلى جانب النظام السوري، لا يمكنها ممارسة أشكال من القمع والإكراه على المواطنين.

إسرائيل لم تنتصر لكنها على حالها

لم تنتصر إسرائيل في غزة.  كيف؟ هي أرادت أن توجه ضربات قوية لحماس ولقوات المقاومة. وأن تستعيد قوة الردع. وأرادت أن تدفع حماس إلى الاستسلام وطلب وقف النار. وهي لم تخطط لحرب طويلة، فاستمرت لـ 50 يومًا بدل يومين أو ثلاثة. شلت وشوّشت المقاومة حياة الملايين من الإسرائيليين، وهجرت الآلاف منهم من مستوطنات محيط غزة. هذا ناهيك عن الخسائر الاقتصادية. كل ذلك أدى إلى المزيد من القضم بمفهوم القوة ومحدوديتها في نزال مع حركة وطنية لشعب محتل. وهذا يشكل ذخرًا إستراتيجيًا في معارك قادمة.

بهذا المعنى، إسرائيل أخفقت إخفاقًا ذريعًا. كما احتدم النقاش مجددًا داخل الائتلاف وداخل حزب الليكود، حزب رئيس الحكومة، حول طريقة إدارة العدوان وحول نتائجه. وهذا الائتلاف يتزعزع ومهدد بالانهيار، ويفتح الباب على تقديم الانتخابات.

بالنسبة للمقاومة، هذا نصر تاريخي، ومن المفترض أن يُصبح جزءًا من عملية التراكم المتواصلة، وأن تقوم القيادات الفلسطينية باستثمار الصمود.

لماذا لم يغيّر الإخفاق الإسرائيلي نهج الائتلاف الحاكم؟

لكن على مستوى التوجه السياسي للائتلاف الإسرائيلي الحاكم لم يتغيّر شيئًا. إسرائيل تواصل سياساتها ومخططاتها التهويدية والاقتلاعية كأن شيئًا لم يكن. مصادرات واسعة في منطقة القدس، خطط لتهجير الآلاف من البدو الفلسطينيين في منطقة القدس، وإجراءات قمعية واسعة. أما على مستوى الشارع فقد تصاعدت الروح العنصرية والفاشية وتعمقت في المجتمع الإسرائيلي.

لأن غالبية البيئة العربية الرسمية، والدولية كانت مساندة لإسرائيل في عدوانها، وكان صادمًا دعم النظام المصري للأهداف الإسرائيلية المتمثلة بإضعاف حماس، أو تدميرها. وكان النظام المصري أشدّ عداءً لحماس. ولم يكن ذلك في الحقيقة عداءً لحماس فقط، بل أيضًا لفكرة المقاومة، التي لم تعد تعني معظم الأنظمة العربية عمومًا منذ زمن طويل، بل تناهضها العداء.

أيضًا بسبب هيمنة اليمين الإسرائيلي على الحكم والمجتمع في إسرائيل. وهناك من رأى في إسرائيل، أن الحرب على قطاع غزة هو استمرار للحرب على السلطة داخل الائتلاف الحاكم، أي داخل اجنحة اليمين نفسه: بين أنصار الحفاظ على الأمر الواقع (نتنياهو) وبين أنصار أرض إسرائيل الكبرى الذي يقوده حزب البيت اليهودي بقيادة وزير الاقتصاد، نفتالي بينيت. كما أن هناك الصراع داخل الجناح الأكثر يمينية وتطرفًا، بين أنصار الضم الشامل (بقيادة نفتالي بنت) وأنصار الفصل الشامل، بما فيه فصل جزء كبير من المواطنين العرب عن دولة اليهود. بقيادة أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب يسرائيل بيتينو.

إن أنصار وجمهور المعسكر اليميني، وحسب الاستطلاعات كانوا يطالبون أثناء الحرب بمزيد من القتل والتدمير، وسحق حركة حماس حتى لو كان بثمن مسح أحياء أخرى كاملة. وهناك من يعتقد أن فرصة ثمينة جرى تضييعها بسبب "جبن نتنياهو".

إذًا، من توقع لهذا المجتمع أن يبدأ بمراجعة حساباته والبدء بإدراك محدودية القوة، تبيّن أنه كان واهمًا. ولذلك أيضًا من غير المتوقع أن تكون هناك حركة احتجاج حقيقية على التقليصات الحادة التي ينوي هذا الائتلاف اعتمادها، في مجالات عدة، في التربية و التعليم والصحة وغيرها، على الأقل في المدى المنظور. فهذا المجتمع كان داعمًا لهذه الحرب، وداعيًا طيلة فترتها إلى مزيد من التصعيد. إن المعسكر اليميني، يستند إلى الفكرة الصهيونية الأصلية والقديمة، والقائلة بأن الصهيونية تستطيع أن تعيش فقط في حالة الحرب وليس في حالة سلام. وبالتالي، فإن اليسار الصهيوني وهو المسؤول تاريخيًا عما آل إليه الوضع في فلسطين، ليس أمامه فرصة أن يقود إسرائيل. وهذا المعسكر، في واقع الأمر، الذي كان جزءًا من معسكر الحرب على غزة، كما كان دائمًا في حروب إسرائيل، لا يختلف عن معسكر يمين-المركز جوهريًا. خاصة فيما يتعلق بمضمون وحدود الدولة الفلسطينية.

هكذا يتضح أن اليمين الإسرائيلي لم يستنفذ كل خياراته، فلا يزال يطمح ويعمل على استكمال تهويد القدس والضفة الغربية.. وأيضًا في استكمال تهويد ما تبقى من أرض عربية داخل الخط الأخضر. والآن توفر له الحرب على داعش، إضافة الى الانقسام الفلسطيني وغياب الإستراتيجية الكفاحية في الضفة والقدس، فرصة ذهبية للمضيّ في غيه، والاندفاع في استكمال تهويد وضمّ الضفة الغربية والقدس.

العرب الفلسطينيون داخل الخط الأخضر

كما في الجولات العدوانية السابقة على الشعب الفلسطيني واللبناني، أيضًا في هذه الجولة، طال القمع الإسرائيلي هذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي يحمل أفراده المواطنة الإسرائيلية. غير أن مستجدات طرأت في بنية وممارسة القمع، تمثلت في نوعيتها وهوية المشاركين فيها، إذ انضم الشارع الإسرائيلي إلى هذه الحملة، وراحت أوساط فيه تساهم مباشرة  في عملية القمع سواء عبر الاعتداء الجسدي أو اللفظي، أو الفصل من العمل، أو المقاطعة الاقتصادية للمحال العربية. إنها درجة جديدة أو أكثر، في مسيرة القمع والعداء للوجود العربي، ولمبدأ التماثل مع الشعب الفلسطينية ومحنته.. وهو تماثل وتضامن مع أنفسنا. وهذا يؤشر لتغيّر جذري في مزاج المجتمع الصهيوني، وليس ظاهرة عابرة، مما يعني أننا في مرحلة أكثر خطورة.

إن المؤسسة الإسرائيلية تترجم، بهذا القمع، عداءها المتأصل لحقوق العرب الفلسطينيين في البلاد، وتترجم مخاوفها من تعاظم تأثيرهم في عرقلة مسيرة المشروع الصهيوني، وهو التأثير الذي يُترجم في ثلاثة مسارات: الأول الإصرار على البقاء في الوطن، والحفاظ على هويتهم الوطنية. الثاني رفعهم شعار المساواة الكاملة التي تنطوي على فضح التناقض بين هذا الحق المدني والقيمة الإنسانية الأساسية، مما يُثقل على الدعاية الصهيونية التي تروج لكيانها بأنها دولة الديمقراطية والمساواة والتنور. والمسار الثالث التماثل مع قضية شعبنا الفلسطيني والحراك الذي يخوضه من أجل مساندة هذا النضال. فالمؤسسة الإسرائيلية، باتت تقرأ تصاعد حراكهم تجاه القضية الفلسطينية، والنابع ايضًا  من كونهم يعانون من ظلم النظام العنصري. ويعزز هذا الاعتقاد، ما كتبه عاموس هرئيل في صحيفة هآرتس عشية العدوان الأخير، أن أحد أسباب تردد بنيامين نتنياهو في تنفيذ العدوان هو الخوف من "المواطنين العرب في إسرائيل". وقد يكون هذا الخوف نابعًا ليس فقط من استحضار هبة القدس والأقصى حيث ظهرت قدرة هذا الجزء من الشعب الفلسطيني على تشويش الحياة العامة بصورة جدية، بل أيضًا من الحراك ضد مخطط برافر الاقتلاعي وهو حراك كان أقل حجمًا واتساعًا، ولكنه كان يهدد بالاتساع وتكرار نسخة هبة القدس والأقصى التي استشهد فيها 13 شابًا فلسطينيًا، وجرح المئات، الأمر الذي دفع الحكومة الإسرائيلية إلى تجميد القانون. يذكر أنه رغم العدد القليل نسبيًا الذي شارك في المواجهات ضد مخطط برافر طيلة العام الماضي، فقد تمكن المتظاهرون من  إغلاق الشوارع العامة في مختلف أنحاء البلاد.

تعرف إسرائيل الرسمية أن الظروف العالمية الراهنة لا تسمح بتنفيذ طرد جماعي، وأن طروحات ليبرمان بإخراج مواطنة مائة ألف عربي من إسرائيل، وضمهم إلى مناطق بانتوستونات السلطة الفلسطينية (وليس إلى الدولة الفلسطينية)، وإن كانت أوساط أكاديمية تتداولها، لن تحصل وذلك بسبب الرفض الفلسطيني، ورفض المواطنين العرب أنفسهم. فمن السهل مواجهة الخطة الإسرائيلية محليًا وعالميًا، بدمغها بالعنصرية والمعاداة لجزء من مواطني دولة إسرائيل. مع ذلك يجب ألا يغيب عن الذهن الصمت العالمي على ما يجري من مجازر إسرائيلية، ومجازر في أقطار الوطن العربي. وهذه الأفكار، أفكار الترانسفير، قد تُدغدغ عقول أوساطً إسرائيلية رسمية.

هناك توجهان داخل المؤسسة الإسرائيلية. توجه يدعو إلى المزيد من القمع وتكريس الواقع الدوني للمواطنين العرب، باعتبار أن هذا كل ما يجب أن يحصلوا عليه، واتجاه يعترف بالتمييز وعدم المساواة، ولكنه غير مؤهل ولا يريد أن يذهب إلى أبعد من تحسين ظروفهم واحتواء "شرهم".. أما الأوساط التي تدعو إلى مساواة أكبر دون المسّ بيهودية الدولة، فإنهم يشكلون قلة.

بطبيعة الحال، ليس السياسة الإسرائيلية العامل المؤثر الوحيد في خط تطورنا، إنما للعامل الذاتي العربي دور هام، في الحفاظ على الوجود والهوية، وتحقيق إنجازات نوعية في كافة المجالات مما اضطر المؤسسة الإسرائيلية في الماضي، وسيضطرها دائًما، إلى التعامل مع هذا الواقع.

بحوزة الأقلية الفلسطينية، أوراق قوة كثيرة أهمها: عدالة قضيتها؛ وجودها في وطنها؛ وحملها للمواطنة الإسرائيلية. هذا فضلاً عن الإنجازات التعليمية والثقافية التي تُرجمت إلى وعي سياسي متقدم تمكنت من خلاله من اجتراح معادلات مركبة تحافظ على وجودها وتمنحها الفرص لمجابهة الفكرة الصهيونية دون استدعاء ردّ فعل ساحق من النظام الصهيوني. أيضًا، هذا الوعي أوصلنا إلى طريق العمل على الساحة الدولية، حيث ترسخت مسألة عرب الداخل لدى محافل هامة، باعتبارها ليست قضية مدنية فحسب، بل قضية وطنية وجزء من قضية الشعب الفلسطيني، وتحتاج إلى حل.

التحدي المباشر أمامنا يتمثل في النجاح في تنظيم صفوفنا، والإسراع بمأسسة هيئاتنا التمثيلية العربية، وعلى رأسها "لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب" لتتحول إلى مرجعية سياسية-وطنية حقيقية لحوالي مليون ونصف فلسطيني في إسرائيل. هكذا يمكننا أن نُدير نضالنا بصورة أفضل ونُدير حياتنا الاجتماعية، والتعليمية، والثقافية والاقتصادية بصورة ناجعة.
 

التعليقات