10/11/2014 - 14:56

بين كفركنا وفيرغسون/ نمر سلطاني

وفقا لبعض التقديرات، قتلت الشرطة الأمريكية اثنين من المواطنين السود كل أسبوع بين العامين 2005 و2012، أقل من نصف هؤلاء كانوا مشتبهين أو ضالعين بالجريمة. آخر هؤلاء القتلى كان مايكل براون، شاب مسالم من مدينة فيرغسون في ولاية ميسوري. وبطبيعة

بين كفركنا وفيرغسون/ نمر سلطاني

وفقا لبعض التقديرات، قتلت الشرطة الأمريكية اثنين من المواطنين السود كل أسبوع بين العامين 2005 و2012، أقل من نصف هؤلاء كانوا مشتبهين أو ضالعين بالجريمة. آخر هؤلاء القتلى كان مايكل براون، شاب مسالم من مدينة فيرغسون في ولاية ميسوري. وبطبيعة الحال، أثار هذا القتل السكان السود فهاجت وماجت مدينة فيرغسون بالمظاهرات بعد الحادثة. وتعاملت الشرطة الأمريكية مع هذه المظاهرات من خلال استخدام القوة المفرطة والآليات المدرعة. وكما في كل حادثة من هذا النوع تثور النقاشات بين اليمين واليسار والأكثرية والأقلية وتستدعى النقاشات حول العنصرية والإجرام والعرق.

ما جرى في كفركنا، إذن، من مقتل الشاب خير حمدان والتعامل مع المظاهرات والتضليل الشرطوي للإعلام والتحريض من قبل الحكومة واليمين ليس مختلفا كثيرا عما جرى ويجري في أماكن أخرى في العالم من تعامل مع الأقليات المقموعة والفقيرة. ويستدعي هذا الموضوع الكثير من القضايا المتشابكة التي لا يمكن ولا يصح اختصارها في خطأ أفراد ومعاقبتهم أم لا. فمن الواضح أن هناك دعما جماهيريا وسياسيا لما قام ويقوم به أفراد الشرطة في هذه الحالات. وقد رأينا مثل هذا الدعم ومحاولة الجهاز القضائي والسياسي التنصل من معاقبة الشرطة على قتل 13 شابا في هبة القدس والأقصى في تشرين الأول (أكتوبر) 2000. هذا الدعم ينفي حصر القضية في خطأ بعض الأفراد لأنه حتى لو كان مرد الحادثة خطأ فعلا، فإن تجييره التلقائي في نزاع سياسي وقومي عام يستدعي التفكير بصدد الأليات الفكرية الفطرية والأنساق المفهومية التي يتم فيها تفسير الوقائع. بهذا المعنى فإن الوقائع لها معنى 'بديهي' ولكن هذه البداهة غير خارجة عن هيمنة سرديات معينة. هذه السرديات تشكلت على خلفية وضمن علاقات قوة (بين البيض والسود، وبين اليهود والعرب) يتم إعادة إنتاجها بشكل يومي. تعتمد هذه السرديات وهذه البداهة (أو 'المنطق') على تشييء الهويات العرقية أو القومية بشكل يمنع رؤية التمايزات الداخلية والصراعات داخل كل من هذه الهويات على حدة.    

 ولكن هذا لا يعني أيضا حصر الموضوع في العنصرية كظاهرة عامة (بدلا من عنصرية أفراد). ففي الحالتين (بعد كفركنا وفرغسون) اتهم ممثلو الأقلية الشرطة أو النظام العام بكونهما مصابين بداء الثقافة العنصرية. ولكن هذه الادعاء غير كاف. لأن علينا أن نرى الآليات المادية والاقتصادية والمؤسساتية التي تجعل من هذه الثقافة أكثر من مجرد خطأ معرفي مرده الجهل أو عدم التسامح أو مرض نفسي. لن تختفي العنصرية كظاهرة جماعية ولن تتوقف الشرطة عن قتل أفراد من الأقلية بمجرد تغيير بعض المنهاج أو صورة المضطهد في الإعلام أو إجبار الشرطة على تدريب أفرادها على تعامل أفضل. وأخطر من ذلك هو مطالبة أحد القادة السود (رئيس منظمة إن اي اي سي بي الحقوقية العريقة) بعد فيرغسون بضرورة زيادة تمثيل السود في الشرطة لئلا تبقى بيضاء. ونرى مثل هذه المطالبات في الداخل الفلسطيني من قبل هؤلاء الذين يحثون على الخدمة المدنية أو حتى العسكرية. فمن الواضح أن مقاومة نظام الاضطهاد لا تتم عبر الانضمام إلى نظام القمع وتذويت قيمه وخطابه والمشاركة في ممارساته.

عسكرة أجهزة الشرطة

 واحدة من هذه الآليات المادية هي قضية عسكرة أجهزة الشرطة في العالم. وقد حظيت هذه القضية ببعض الاهتمام بعد فيرغسون. فمن الواضح أن تقنيات مكافحة الشغب الممارسة من قبل قوات الشرطة، خاصة عندما تواجه أقليات فقيرة ذات معدلا ت إجرام عالية، بدأت تأخذ منحى لتسليح قوات الشرطة وتزويدها بتقنيات ذات فاعلية عالية ومميتة. وفي الحالة الإسرائيلية فإن مثل التطورات مرتبطة بتصدير هذه التقنيات والخبرة إلى الأمريكيين بعد أيلول (سبتمبر) 2001 (حيث قامت الشرطة الإسرائيلية بتدريب العديد من الوفود من الشرطة الأمريكية والمساهمة في أمن المطارات وما إلى ذلك). وقد رأينا كيف تعاملت الشرطة في عام 2000 مع المظاهرات بمنطق عسكري. وهذه القضية مشابهة للمفهوم الإسرائيلي للتعامل مع الضفة غزة بعد أوسلو بشكل يوحي بتمويه الفوارق بين الشرطة والجيش. فمن المفروض أن تتعامل قوات الاحتلال حسب القانون الدولي مع السكان بمنطق الشرطة (المحافظة على الأمن العام). ولكن منذ الانسحابات (إعادة الانتشار)، ومن ضمنها من غزة، تستغل إسرائيل الحالة للتعامل بمنطق الحرب والقوة العسكرية المفرطة. بهذا المعنى، فإن 'السلام' ينتج الحرب المتكررة. 

إضافة إلى ذلك، يتحدث المحللون عن الإجرام (أو الأصح التجريم) كنظام سيطرة وحكم. ففي الولايات المتحدة وإسرائيل نجد أن الخطاب المعادي للأقليات والمجرمين أو المخربين أو حقوق الأسرى هو خطاب يستعمله السياسيون (خصوصًا الوسط واليمين) من أجل أن يحظوا بدعم جماهيري. هم يستغلون الخوف عند الطبقات الوسطى وما فوق الوسطى في مجتمع الأكثرية (البيضاء في أمريكا أو اليهودية في إسرائيل) لكي يبدو كمن يحمي حقوق وأملاك ونمط حياة الأكثرية. ففي مثل هذه الأنظمة 'الديمقراطية' سيخسر من يتم تصويره شعبويا على أنه مهادن للإجرام أو الإرهاب. ومن غباء هذا التوجه أن التجربة أثبتت (كالمقارنة بين أمريكا من جهة وفرنسا أو ألمانيا من جهة أخرى) أن الدول التي تزيد من التجريم والعقوبات وإساءة معاملة الأسرى تؤدي إلى زيادة معدلات الجريمة لا إلى خفضها. بهذا المعنى فإن الديموقراطية تنتج الخوف والإجرام.

 طبعا المقارنة بين الأقلية الفلسطينية والأقلية السوداء لا تنفي وجود فوارق بين الحالتين. ولكن التشابهات المذكورة تستدعي التفكير، خاصة أن الكثير من الفلسطينيين (خصوصًا عندما ينتقدون إسرائيل بالإنجليزية) يجعلون من الولايات المتحدة نمطا مثاليا على إسرائيل أن تحذو مثله. في حين يقوم بعض الإسرائيليين بمطالبة الولايات المتحدة أن تحذو حذو إسرائيل في التوازن بين الأمن والحقوق. لكن كلا الخطابين يغالط الحقيقة. ولكن هذا موضوع آخر.   

على صلة: 
عن الاحتجاج والشغب/ نمر سلطاني
 

التعليقات