08/01/2015 - 14:26

​بصدد دراسة الذات/ نمر سلطاني

يُلاحظ المتابع للعالم البحثي والأكاديمي أنّ هناك اختلالاً بكلّ ما يتعلق بتوزيع الموارد الفكرية في العالم. حيث نجد أن الطالب أو الطالبة القادمة من الدول النامية (من آسيا وأفريقيا مثلاً) للدراسة في الدول الغربية المتطوّرة (أوروبا وأميركا) ك

​بصدد دراسة الذات/ نمر سلطاني

يُلاحظ المتابع للعالم البحثي والأكاديمي أنّ هناك اختلالاً بكلّ ما يتعلق بتوزيع الموارد الفكرية في العالم. حيث نجد أن الطالب أو الطالبة القادمة من الدول النامية (من آسيا وأفريقيا مثلاً) للدراسة في الدول الغربية المتطوّرة (أوروبا وأميركا) كثيرًا ما يسلكون الطريق الأسهل نسبيًا. وأقصد بذلك دراسة النفس. فمثلاً تجد أن اللبناني يكتب أطروحة الدكتوراة في العلوم السياسية عن لبنان. وتجد الفلسطيني يكتب أطروحة في القانون عن الخروقات الإسرائيلية للقانون الدولي. وتجد أنّ الطالبة الهندية تكتب أطروحة في التاريخ عن الهند. وهكذا دواليك.
 
هذا الخيار الذي يسير في مسار دراسة النفس هو الأسهل نسبيًا لأنّ الباحث أو الباحثة لا يحتاج فيه إلى الإبحار بعيدًا عمّا يعرفون في خلفيتهم الثقافية والدراسية. فمن الأصعب بطبيعة الحال سبر أغوار مواضيع لا يعرف عنها الباحث شيئًا بتاتًا ولا يوجد لدراستها هدف أداتيّ مباشر يسعى إليه الباحث. كما أنّ مثل هذا الخيار الأسهل يحصر الباحثين في مواضيع محددة دون أن يروا أنفسهم كمساهمين للفكر الإنساني العالمي.  
 
ولا يوجد لديّ اعتراض مبدئيّ على هذا النوع من الدراسات. فمجتمعاتنا وتاريخنا وما إلى ذلك ما زالت بحاجة للدراسة والتمحيص. كما أنّ دراسة الذات ودراسة الآخر متداخلتان إلى حدّ بعيد. ولكن عندما يكون هذا هو الاتجاه الغالب، بشكل يبدو (للعين المجرّدة) شبه مطلق، يصبح الأمر إشكاليًا. فهذه الظاهرة تُنتج حركة فكرية بإتجاه واحد. تذهب الطالبة أو الطالب إلى الدراسة في الغرب حيث يدرسون آخر الصيحات الأكاديمية في المنهج البحثي وما إلى ذلك ثمّ يطبّقون ذلك على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم في أبحاثهم وحتى في تدريسهم عندما يعودون إلى بلادهم (في أحيان كثيرة دون فهم نقدي لهذه الأدوات البحثية). في حين تجد أنّ المؤسسات الأكاديمية الغربية مليئة بالباحثين الغربيين الذين يبحثون أنفسهم ولكن أيضًا يبحثون في شؤون متعلقة بغيرهم. وبالمقابل قلائل هم الباحثون الذين يأتون من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية لدراسة الغرب نفسه. طبعًا هناك استثناءات معروفة، مثل إدوارد سعيد وكرمة نابلسي وغيرهما. ولكنها الاستثناءات التي توضح القاعدة العامة.
 
وهذه الظاهرة لها علاقة طبعًا بالشرط الإستعماري في شكله الكلاسيكي والحديث. فكون الولايات المتحدة المركز الاقتصادي والعسكري والسياسي والثقافي يبرّر توجه أعداد هائلة من الطلاب من كل العالم إليها للدراسة. مثلما يفسّر الهجرة إلى هذه الدول عمومًا. ويبرّر توفر الكثير من المنح الدراسية هناك، حتى أكثر من المراكز الإمبراطورية القديمة مثل بريطانيا. وإن كانت الأخيرة ما زالت أيضًا مركزًا يستقطب الطلاب. وهذا الشرط الاستعماري حاضر داخليًا في دول مثل إسرائيل. حيث تجد أن الطلاب من المواطنين العرب أيضًا ينزعون إلى دراسة أنفسهم ومجتمعهم. ولا أقصد هنا تفسير مثل هذه النزعة كأنها تعبير عن ما يسمى الـ'نيتيف إنفورمانت' أو المُخبر من السكان الأصلانيين، أي ذلك الذي يتعاون مع المركز الأكاديمي الاستعماري لتزويده بنظرة أفضل للمجتمع الواقع تحت الإستعمار لكي يسهّل ذلك السيطرة عليه. فبطبيعة الحال لا تقع كل الدراسات في هذه الخانة. ولكن، مرة أخرى، هذا الخيار نفسه محكوم بعلاقة القوى في الشرط الإستعماري.
 
آن الأوان لأن يقوم عدد أكبر من باحثينا بتحدي مثل هذا التوزيع للموارد الفكرية ورفض القوالب الجاهزة لما يحق لهم أو يتوقع منهم دراسته وبحثه والكتابة عنه. وسنجد عند ذلك أنّ مثل هذا الخيار البحثي سيساعدنا في نهاية الأمر بشكل غير مباشر على فهم ذواتنا بشكل أفضل. لأنّنا في الحقيقة نصنع ذواتنا في الوقت الذي نصبو فيه إلى بحثها.  

التعليقات