12/01/2015 - 17:56

وإن منكُم إلّا واردُها.. / أحمد دراوشة

أفقنا، ونحن نرى جيلًا كاملًا تتم تربيته الآن، على أن القضيّة الفلسطينيّة محصورة في الضفّة والقطاع، فلا تطرّق للاجئين، ولا لسكّان فلسطين التاريخيّة المحتلّة عام 1948

وإن منكُم إلّا واردُها.. / أحمد دراوشة

مرّت طموحات الأمّة العربية بوطن جامعٍ للأمة، مذ بدأت بالتبلور أواخر القرنِ التاسع عشر بمحاولات شرذمةٍ عديدة، كانت تحاول الانتقاص منها وإهانتَها، والصدَّ عن تحقيقها، بأيادٍ خارجيّةٍ تارة وأخطاء إستراتيجيّة عربيّة تارةً أخرى.

في بدايات القرن العشرين، ومع التراجع الواضِح في هيمنة الدولة العليّة على مقادير الأمور في بلاد الشام والحجاز وجزيرة العرب، بدأت فكرة الشريف حسين وغيره الكثير من العرب في الإستقلال عن 'الدولة التركيّة' تنضُج، لكِن؛ كان علينا انتظارالحرب العالميّة الأولى حتّى تشِبَّ، لنعَلَمَ حدود 'العالم العربي' الجديد، أو ما أطلِق عليه في ذلك الحين، 'آسيا العربيّة'؛ التي بدَأت ملامحها تتضّح في مراسلات الشريف حسين إيّاه والسيرّ مكماهون.

لكنّ الأمور أفلَتت من عقال الشريف بعد ذلك بقليل، وقلبَت له بريطانيَا ظهرَ المِجنّ، وتعرضّت الأمة العربيّة لأسوأ جريمةٍ، فرّقت جماعتها، وفّتّتَت وحدَتَها، وقَضَت على أملها بالوطن الواحد، الا وهي إتفاقيّة 'سايكس-بيكو'.

 فَتحوّلت بوصلة صراع الأمّة الواحدة من لمّ الجمع، ورَتقِ الفتقِ، إلى صراعاتٍ ودولٍ متقاتلة، وتحوّلت الأمة الواحدة إلى 22 قُطرًا (حتّى الآن)، لكُلٍّ منها همُّه في التخلص من الاستعمار المفروض عليه، ونجحت تلك الدول في ذلك، وإن متأخرةً بعض الشيء، إلى أن تأتيَ الطامّة الكبرى، 'أنْ سُلِبَت فلسطين'.

 فتبدَأ، مع احتلال فلسطين، المرحلة الثانية من صراع الأمّة العربية، وبَدَت فلسطينُ محورَ قضايا الأمّة، بل قضيّتها الأساسيّة متفوقةً على القضايا الداخلية للدول العربيّة ذاتها – أو كما ظهر- لأزيَدَ من ثلاثين عامًا؛ وما تخوضُ دولةٌ عربيّة حربًا مع 'إسرائيل' الّا وارسَلت الدول العربية الباقية دعمًا وسلاحًا ومالًا ونفطًا وجنودًا وطائراتٍ؛ وبَلَغَ ذلك أوجه في حرب رمضان / أكتوبر 1973؛ حين قطعت السعوديّة إمدادات البترول عن الغرب، وأرسلت المغرب فرقًا لدعم الجيش العربي السوريّ على جبهة الجولان المشتعلة بحماسة قلوبٍ قد تاقَت لتحرير الأرض؛ ولا ننسى أيضًا جبهة سيناء التي الهبَت أفئدة العرب، الذي ظُنَّ أنها قد تخشّبت بعد حزيمة حزيران 1967.

لكنّ الأمور لم تدم بتلك الصورةِ الورديّة الجميلة، حين أقدَمت مصر – واسطة عقد العرب – على القبول بوقف إطلاق النار على الجبهة المصريّة دون السوريّة، وما تَبِعَها من المفاوضات التي قادها محمّد أنور السادات (الضابط الثائر وعضو الضبّاط الأحرار وصائغ خطاباتهم ومهندس وحداتهم وقد صارَ في ما بعد رئيسًا للأمّة) التي قادَت لمعاهدة 'كامب ديفيد'، والتي أعتبرها الصفعة الأهم بعد إتفاقيّة 'سايكس-بيكو'.

لم يغرّد السادات خارج السرب، بالرغم من أنه قد بدا في أول الأمر وحيدًا، وتحوّلَ، أو قُل، تحوّلت أفكاره لمناط الأسوة في تعامل الأمة العربية، أو بالأحرى، الدول العربية مع القضيّة الفلسطينيّة.

وتخلّى العربُ عن فلسطين، فإن كانت 'سايكس-بيكو' نقطة تقسيم طموحات الأمة، فإن 'كامب ديفيد' هي إعلان الطلاق بين الأنظمة العربية وفلسطين، وإن تأخرت مدد العدّة بين نظام وآخر، وبدَت المفاوضات مع 'إسرائيل' بأنها المقصودة في الآية الكريمة: 'وإن منكم إلّا واردها'؛ فانشغلت الدول العربيّة بعدها بهمومها المعيشيّة واليوميّة، بدل القوميّة؛ وبدأ موسم الهجرة إلى واشنطن ومؤتمرات سلامِها البائسة، من أوسلو إلى مدريد ووادي عربة فمفاوضات إسطنبول عام 2008.

أمّا ثالثة الأثافي في القضيّة العربية فكانت 'إتفاقيّة أوسلو' حين تخلّى الموقعونَ على جزءٍ كبيرٍ من فلسطين التاريخيّة، وتحوّل الصراعُ من قضيّة احتلال عادلة وسلبِ أرضٍ ومجازرَ يندى لها التاريخ البشري، إلى صراع على كيلومترٍ هنا، ومعبرٍ هناك.

          وقد أفقنا، ونحن نرى جيلًا كاملًا تتم تربيته الآن، على أن القضيّة الفلسطينيّة محصورة في الضفّة والقطاع، فلا تطرّق للاجئين، ولا لسكّان فلسطين التاريخيّة المحتلّة عام 1948.

          علينا أن نصحو من هذا الكابوس سريعًا، ونعلمَ أن فلسطين ليست قضيّة الفلسطينيين فقط كما ريدَ لها أن تكون، وأن القضّية الفلسطينيّة ليست صراعًا على حدود مقيتة جرى ترسيمها في أقبيةٍ مظلمة في إحدى العواصم الباردة، بل هي الصورة الكاملة لكل الصراعات الصغيرة في مخيّم اليرموك وغزّة والناصرة ويافا، وكل شارع يعاد تسميته في حيفا، وكل طفل يُقتَلُ في مخيّمات الأردن؛ وإن فلسطين هي جزء من نزاع الأمّة العربيّة كلها، وواجبنا في استعادة أراضيها العربيّة المحتلّة كلّها من سبتة ومليلة غربًا إلى الأحواز شرقًا.

التعليقات