02/04/2015 - 20:04

عمي علي، الجديد../ نجوان سمري - ذياب

وإن أعراسًا كثيرة لم نشارك بها، وعزاءات كثيرة لم تبكِنا، وأفراحًا وأحزانًا لم نشعر بها معكم، ولم تشعروا بها، معنا، لا تقل ذلك بالله عليك..

عمي علي، الجديد../ نجوان سمري - ذياب

قبل نحو سنتين، وصلتني رسالة عبر فيس بوك من شخص ألقى التحية ثم قالها ببساطة إنه أحد أقربائي، إنه عمي. هل هذا صحيح، تساءلت؟ أنا لا أعرفك، ولا أعمام لي لا أعرفهم، هذا ما رغبت أن أقوله له لأنني وببساطة لست من عشاق فيس بوك ولا أثق بهذه العلاقات من خلاله. ولكني لم أقل له ذلك، وسمحت له أن يروي حكايته كاملةً.. حكايتنا، ثم أصبح عمي، في الفيس بوك.

كنت أعرف أن جدتي والدة أبي وحدها تمكنت من العودة إلى فلسطين بعد التهجير، وأن جميع إخوانها وأخواتها هُجّروا إلى لبنان وسوريا، ولكننا لم نكن على تواصل معهم، ولا أعرف السبب.

كتب لي أنه إبن خال والدي، يعيش حاليًا في أبو ظبي، ولد في لبنان المخيم، هُجّر أهله في النكبة، من قرية البروة المهجرة، يشتاق إلينا كثيرًا.

هكذا، سأقابل النكبة من جديد، وسأغضب من جديد، وسيذهلني الواقع من جديد، وسيصحو بي شعور العجز من جديد، وسأكره أكثر.

أوَلَم تكن تكفيني طريق بيتي التي أسلكها من القدس إلى الجليل مرورًا بقريتنا وقريتك، هناك، عند ذلك المفترق تتمزق أحشائي في كل مرة أصل إلى البروة ولا أصل لبيتي، هناك تأخذني الكلمات العبرية على لافتات الطرق إلى بيت آخر في قرية أخرى، صارت قريتنا.

فلا تأتِ الآن لتقول إنك عمي، وإنك شقيق لأعمام آخرين لا أعرفهم، وإن لك أخوات هن عماتي ولا أعرفهن، وإنك إبن عم لآخرين لا أعرفهم، وإنك والد لأبناء وبنات لا نعرفهم، وإن أعراسًا كثيرة لم نشارك بها، وعزاءات كثيرة لم تبكِنا، وأفراحًا وأحزانًا لم نشعر بها معكم، ولم تشعروا بها، معنا، لا تقل ذلك بالله عليك.. لا أريد أعمامًا معذبين آخرين لي على هذه الأرض.. ولا أعرفهم.

في محادثاتنا الفيسبوكية طغت العبارات الرسمية على الكلام، كانت أشبه بمحادثات ثقيلة تعود على بعضها، نتحدث فيها عن الصحة وعن العائلة وعن العمل وعن حالة الطقس وعن كل شئ ما عدا غربتنا.

فكيف لهذه المحادثات مهما طالت أن تنسج علاقة جديدة بين أهل لا يعرفون بعضهم البعض؟ علاقة أقرباء وليس أصدقاء؟ كيف يمكن أن نعوّض هذه السنوات؟ ومن سيعوّض من؟

قبل فترة قصيرة، قال عمي إنه سيأتي مع ابنته في زيارةٍ إلى عمان ويتمنى لو نلتقي. قلت نعم سنأتي، سنلتقي في عمان.

حددنا موعدًا للقاء. انطلقت أنا وأخي وأختي لنقابل عمنا، سلكنا طريق الأغوار، كانت الطريق جميلةً جدًا، مررت من هنا مرات عد،ة ولم أعهد هذا الربيع من قبل، ربما لم أدقق في ملامح الطريق بهذا الشكل، أو أنني كنت سعيدة ومنفعلة لدرجة أنني لم ألتفت إلى أيِّ شيء غير جميل في الطريق، ولا حتى إلى تسميتها الغريبة عن تضاريسها وعن ربيعها.

وصلنا إلى حاجز عسكري يفصل بين الأغوار وبيسان، أذكر أن مجندة قبيحة المنظر سألت عن بطاقات هوياتنا، ومن أين نأتي، وإلى أين نذهب، حقًا؟ هل تريدين أن نقص عليك إلى أين نحن ذاهبون؟ هزأ منها أخي، وضحكنا فضحكت ظنًا منها أنه يمازحها، الغبية.

وصلنا إلى جسر الشيخ حسين، عبرنا الحدود، رأيت في جهة الأغوار الأردنية خيامًا بيضاء نثرت عشوائيًا في أراضٍ فارغة بين القرى المتلاصقة، ووضع عليها رمز الأمم المتحدة، ما أكرم الغرب في توزيع الخيام، قلت في نفسي، هذه للسوريين، قال سائق التاكسي الذي لم يتوقف عن الثرثرة طيلة الطريق، الطويلة. تحدث كثيرًا عن مشكلته الخاصة مع اللاجئين السوريين، سمعته يقول إنهم جاؤوا لينافسوه، لا بل وليسرقوا منه لقمة العيش. أما نحن فلم نقل شيئًا سوى "الله يعينهم ويعينكم ويعين جميع الناس على مآسيهم". خلال حديثه عنهم كان يستحضر قصصًا وأمثالًا ليثبت لنا صدقه، شعرت بغصة تخنقني وتذكرتنا، تذكرت اللاجئين الفلسطينيين.

بعد سفر مرهق وصلنا إلى الفندق، وبعد ثلاث ساعات سيصل عمي، علي.

انتظرته أنا وأخوتي بشغف الأطفال، أخذنا نرسم صورًا مختلفة لهذا اللقاء، وصرنا نطرح أسئلة سخيفة ومضحكة عن شكل اللقاء، مثل: هل نضمهم ونقبّلهم أم نكتفي بسلام الأيادي فقط؟ في البداية أضحكتني أسئلة إخوتي، والآن صرت أفكر كيف فرضت هذه الأسئلة نفسها في لقاءات الأقرباء؟

تأخر عمي علي وابنته سارة، لم يصلا في الوقت المتوقع.. حاولنا أن نتصل بهم عدة مرات وكانت هواتفهم مغلقة، بدأت أشعر بالقلق.. نعم، قلقت أن يتأخر لقاؤنا حقبة أخرى.

في الساعة التاسعة مساءً رنّ هاتف الغرفة، رفعت أختي السماعة واستطعتُ أن أسمع صوت رجل يقول بصوت عالٍ باللهجة اللبنانية: "لك وينكن.. نحن وصلنا".

خفق قلبي مليون مرة في طريقي من الغرفة إلى بهو الفندق، ها هو.

ضمّني إليه بقوة، ضمّنا جميعنا، تسمرت، شعرت أن لا كلام يقال في هذه الأمكنة، وحده الصمت، وحدها الدموع المخنوقة في القلب ستتحدث.

رأيت به الكثير من ملامح والدي وجدتي رحمها الله، لا أعرف إن كان بينهم شبه حقيقي أم أنني تخيلت ذلك. بعد دقائق قليلة وقبل حتى أن يستلم مفتاح غرفته من موظفة الاستقبال، قال: "لك إنتو ما بتعرفوا شي عن معاناتنا.. انتو ما بتعرفوا شو يعني لاجئ فلسطيني، بوثيقة سفر ما بتسوى شي، لك وجعنا كبير، مش عارف من وين أبلش أحكيلكن، نحن ذقنا الموت والمذلة.. لك بس لحصلت على الجواز الأميركي لحسيت إني صرت بني آدم متل كل البشر، لك أنا مني مصدق أني جد شايفكن..".

هكذا لخص لنا في دقيقتين ما كان سيحكيه خلال لقائنا في اليومين القادمين، هكذا في دقيقتين لخص لي قصة سنوات غربته وغربتنا، هكذا في دقيقتين حكى عن وجعٍ اعتدتُ أن أسمعه عبر الشاشات فقط، من لاجئين لا أعرفهم، أتعاطف معهم وسرعان ما يغيب عني وجع قصتهم.. مهما آلمتني.

غابت حواجز الغربة وسنوات البعد بيننا، وامتلأت أحاديثنا بالمشاعر الصادقة، كما لو كنا قد تعارفنا منذ زمن طويل، أو كما لو أننا لم نفترق أصلًا. قضينا ثلاثة أيام قصار، ضحكنا فيها كثيرًا، كان فرحنا أكبر من الحزن.. أو أننا كنا نحاول تجاهل وجوده فتناسيناه. حكى لنا عمي عمّا سمعه من والده ووالدته عن النكبة، عن طريق الآلام إلى لبنان وفي لبنان، تحدث بحرقة عن وفاة والده، وبحرقة أبلغ عن وفاة والدته قبل أن يحققا ما حلما به أبدًا، العودة.

تحدث عن تنقله بين الخليج وأميركا، عن ولادة جديدة لحظة حصوله على جواز سفر أميركي بعد ذل طويل عاشه مع وثيقة لاجئ فلسطيني، في مطارات الدول العربية ومخيماتها، أخذ يسأل بإهتمامِ بالغٍ عن أناس من قريتنا بدأ يتعرف عليهم من خلال الفيس بوك: "شو بيأربونا هدول؟"، تحدث عن زوجته وأولاده الثلاثة وابنته وتعليمهم وعملهم، عن إخوته وأخواته وأبنائهم وبناتهم وأسمائهم، عن قصص عشقه، عن صداقاته، عن أكلاته المفضلة، عن شوقه لفلسطين ولأهل فلسطين، وعن خشيته من اللقاء مع فلسطين وأهل فلسطين.

نعم، عليك أن تخشى هذا اللقاء، فلسطين تغيرت كثيرًا، وبدأت تغيب ملامحها شيئًا فشيئًا. لم تعد تلك التي حدثك عنها والدك ووالدتك، أنتم لم تتغيروا، وبقيتم في ذات الزمان، تعيشون ذات الحلم، ولكن بعيدًا عن أشعارنا وقصائدنا الجميلة ورغباتنا وشعاراتنا، فقد صارت تسمى إسرائيل.

لا، لم أقل له ذلك، ردّدتُ على مسامعه القصائد والشعارات فقط. 
حان وقت العودة، عودتنا نحن فقط. تعمدت اختصار وقت الوداع للحظات سريعة.
 توجهنا نحو الحدود من جديد، شعرت بضيق الوقت والمكان، وتمنيت لو أصل بسرعةٍ إلى أيِّ بقعة أخرى على الأرض، أو في السماء. إلى اللقاء عمي الطيّب، إلى اللقاء سارة الجميلة.

عدنا.. لم أتأمل الطريق من عمان إلى المعبر، لم أرَ خيام السوريين.

ساعتان من الوقت أمضيتهما، وأنا أعيد لحظات اللقاء، كدت لا أميّز بين الحقيقة والحلم. فجأة وجدت نفسي أقف في صف المنتظرين للتفتيش، ورأيت لوحة رسمت عليها القدس وكتب عليها، أهلًا بكم في إسرائيل. نظر إلي الجندي الأشقر مبتسمًا وقال: "ممكن جوازك"، لا، أرجوك لا تبتسم، ولا تقل جوازك.. هذا جوازكم أنتم، فلتعد لي جوازي.. أنا.

لم أحتمل في تلك اللحظة سماع هذه اللغة، ولا رؤية هذه الوجوه، ولا تصديق الواقع، فكيف يكون عمي هناك وأنتم هنا؟ كيف؟

بصمت مطبق سلكنا طريق الأغوار إلى القدس، كانت الطريق كئيبة حالكة مظلمة سوداء قاتمة، شاهدت عدة لافتات كتب عليها طريق غاندي- رحبعام زئيڤي، ولافتات أخرى لأسماء المستوطنات التي ملأت الدنيا. لم أر شيئًا آخرًا سوى الظلام وهذه اللافتات. وحدها أضواء خافتة انبعثت من قرى الأغوار الأردنية فلمعت على يسارنا ولم تصل قلبي. أذكر جيدًا أن ثلاثتنا التزمنا الصمت طوال الطريق، وأذكر أن دموعًا حارة سالت على وجهي وحاولت أن أخفيها في الظلام الأسود.

كيف تعود إلي النكبة كل مرة من جديد، وبشكل جديد؟ كيف رسمت لنا إسرائيل علاقاتنا مع أهلنا وأقربائنا وأصدقائنا وأحبتنا بهذه الطريقة؟ كيف قسّمتنا إلى كل هذه الفئات والمسميات بين الشتات والضفة وغزة والقدس والداخل والمقابر؟ كيف كان ممكنًا لشكل حياتنا أن يكون معهم وبينهم ومعنا وبيننا ومع كلنا؟ ولكن كيف لنا أن نعرف؟ لا يمكننا أن نعرف، ولن نعرف، أبدًا لن نعرف، هذه هي النكبة.

التعليقات