13/05/2015 - 20:46

ملاحظات عن الطيرة/ نمر سلطاني

من هنا يجب أن نرى زيف الانتقادات الموجهة لحنين زعبي التي تقوم بتصويرها كمن اتخذ موقع الهجوم في حين أن حقيقة الأمر أنها كانت في موقع الدفاع عن حيز يتضائل ويتلاشى تحت ضغط الهيمنة.

ملاحظات عن الطيرة/ نمر سلطاني

أثارت تصريحات حنين زعبي عن قضية إلغاء الماراثون في مدينة الطيرة حفيظة الكثيرين من سكان الطيرة ومن المتدينين عموما. وفي صلب هذه التصريحات أمران: أولا، وصف مانعي تنظيم الماراثون والمتهجمين لفظا وفعلا على المُنظّمّة والمشاركات بالأوباش. وثانيًا، إثارة موضوع التسربل بالدين من أجل تبرير مواقف اجتماعية محافظة من المرأة وموقعها في الحيز العام.

والسؤال: لماذا أثارت هذه التصريحات حفيظة الكثيرين؟

هل السبب هو 'الأسلوب الاستفزازي' و'إثارة الفتنة'؟ بالطبع لا، فكم من التصريحات الاستفزازية والعنصرية تمر مر الكرام. فالبعض مثلاً ومنذ سنوات ثلاث يطلقون من على كل منبر خطابًا طائفيًا تحريضيًا على خلفية ما يجري في العالم العربي. ومع ذلك لم نر رد فعل ضد تصريحاتهم مشابها للرد على حنين زعبي.

هل السبب هو تدخل حنين زعبي بـ'الشؤون الداخلية' للطيرة؟ بالطبع لا، فغالبية منتقديها انتقدوا النواب العرب والأحزاب العربية في السنوات الأخيرة مرارًا وتكرارًا بسبب 'عدم اهتمامهم' بشؤون المحلية (وهو انتقاد مغلوط كما سيتضح لكل من يراجع سجل النواب العرب بنزاهة). لذا من الغريب أن ينتقدوها الآن لأنها تتدخل بـ"الشؤون المحلية" لهذه البلدة أو تلك.

لذا، في رأيي، سبب إثارة حفيظة الكثيرين هو كون تصريحاتها أصابت كبد الحقيقة وهي المعركة على وجه المجتمع والسيطرة على الحيّز العام. وهذه المعركة مرتبطة بقضية العنف وقضية التيار المحافظ الذي يتسربل بالدين. فمن ناحية، أحسنت حنين زعبي صنعًا عندما ربطت قضية الماراثون بقضية العنف العام الذي يجتاح مجتمعنا منذ سنوات. ومدينة الطيرة هي أحد الأمثلة على تطور الأقلية الفلسطينية إلى مجموعة من أحياء الفقر المهملة والمكتظة ذات المدارس المتهالكة ومعدلات الإجرام العالية. والمشكلة في هذا الإجرام والعنف أنه أصبح نمط تعامل مهيمن ومقبول في مختلف العلاقات الإجتماعية. فمثلا تجد أن مظاهرة منددة بالعنف والقتل في الطيرة لا تستقطب أكثر من ثلاثين مشاركًا، في الوقت الذي تستقطب فيه مسيرة عيد الفطر المئات. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن الناس لا يرون بمجابهة العنف أولوية قصوى إما من قبيل الاستكانة أو الخوف أو اللامبالاة أو النأي بالنفس أو حتى من قبيل قبول العنف كنمط لحل الخلافات. ولا شك أن القضية ازدادت سوءًا مع تبرير الكثيرين المتواصل للعنف وللمذابح الطائفية في العالم العربي.

لذا، لا عجب أن هؤلاء حتى لو أدانوا العنف ضد مُنظِمة الماراثون يقولون في الوقت ذاته إن تصريحات حنين زعبي أكثر خطورة من العنف الجسدي ذاته. هذا المنطق مقبول على من لا يرى بمجابهة العنف أولوية ولا يرى بالعنف بحدّ ذاته مشكلة حقيقية لأنه مستعد لتبرير العنف في كثير من الحالات: ليس فقط في سوريا وإنما أيضًا في قضية حقوق المرأة. وقضية العنف مرتبطة بالعقلية الإقصائية التي انتشرت كثيرًا بيننا. وهذا الفكر الإقصائي يتسربل كثيرًا بالدين لكي يمنع إمكانية الحوار العقلاني على المضامين. ويتمّ إدانة التفكير العقلاني على أنه علماني. ومن ثمّ يتمّ إدانة العلمانية على أنها مستوردة من الغرب وعلى أنها تتطابق مع الإلحاد. وبذلك يصبح الموقف العقلاني فاقدًا للشرعية. وليس هنا المجال لتبيين جهل مثل هذا الموقف بمعنى العلمانية. 

لذا، النقطة الثانية التي أثارتها حنين زعبي صحيحة أيضًا. هناك حاجة للحوار على المضامين التي تبث في الجوامع. فهذه المضامين هي في الغالب اجتماعية لأن المضامين السياسية شبه محظورة. وبعض هذه المضامين الاجتماعية خلافي ونقاشها واجب، لأن الجوامع (وخصوصا خطب الجمعة) هي حيز عام يلتقي فيه الآلاف من المصلين أسبوعيًا بمن فيهم الكثير ممن ليسوا إسلاميين أو متدينين بالمعنى الأيديولوجي. وهذا يعطي القيّمين على المساجد الكثير من القوة وإمكانية نشر أفكارهم. وكثير من هذه المضامين الاجتماعية لا تمس العقيدة وبالتالي هي قضايا قابلة للنقاش وتعدد الآراء. فقبل عدة أشهر على سبيل المثال انشغل الكثير من أئمة المساجد في الطيرة وباقة الغربية وغيرهما بقضية تحريم تهنئة المسيحيين بمناسبة السنة الميلادية أو مشاركتهم في احتفالاتهم! أو تجد أحيانًا أن الخطيب يتحدث عن "النساء المتبرجات المتعطرات" رامزًا إلى فساد في الأخلاق.

لكن الربط بين الديني والخطاب المحافظ والإقصائي ليس مقصورًا على الجامع كمنبر عام وإنما ظاهرة تتغلغل في كافة مناحي الحياة. ذلك أن الخطاب المحافظ والديني أكثر حضورًا في الحيز العام لأنه خطاب إصلاحي في توجهه ودعوي في بعض تجلياته يسعى لفرض نفسه على المجتمع. وبالتالي مقياس نجاحه مرتبط بسيطرته على الحيز العام. في حين أن الخطاب غير المتدين (وخاصة العلماني منه) هو خطاب يرتكز في الغالب على الحقوق الفردية وعلى التشبث بالحيز الخاص كملاذ الفرد من البنى الاجتماعية السائدة، لكي يستطيع الفرد في هذا الحيز الخاص وضمن حماية الحقوق الفردية تطوير خياراته. وهنا يكمن التناقض: الخطاب الديني في العقود الأخيرة نما وترعرع بسبب علمنة الدولة (أي بسبب خصخصة قضية الانتماء الديني وتحويلها إلى قضية فردية).أي أنه ترعرع في الحيز الخاص وبسبب انسحاب الدولة من الحيز الخاص. في حين أن الخطاب العلماني الذي بدأ كنموذج للحيز العام تقهقر إلى الحيّز الخاص. ورغم ارتكاز الدين على الحيز الخاص فإنه يبتغي السيطرة على الحيز العام. ورغم ارتكاز العلماني على الحيز العام فهو يسعى للحفاظ على الحيز الخاص!

خذي عزيزتي القارئة، مثلا، قضية الأعراس المختلطة. تجدين أن المتدين يرفض حضور هذه الأعراس حتى لو كانت أعراس أقاربه وأصدقائه نظرًا لأنها لا تتوافق مع إيمانه، وهذا تصرف مقبول اجتماعيًا. في حين أنه من المتوقع اجتماعيًا من غير المتدين أن يحضر الأعراس الدينية المنفصلة التي ينظمها معارفه. ومن المقبول اجتماعيًا على المتدين/ة أن يسائل غير المتدين/ة عن صلاته/ا وصيامه/ا أو حتى لباسه/ا، ويستطيع رجال الدعوة طرق كل البيوت. ولكن من غير المقبول اجتماعيًا على غير الصائم أن يجاهر بعدم صيامه في رمضان. وفي معظم بلداتنا العربية غير المختلطة طائفيًا، ومنذ مطلع الثمانينيات على وجه التحديد، من غير المقبول بيع الكحول. هذه الأمثلة تدل أن الخطاب المحافظ (والذي يتم عرضه في الغالب في إطار ديني) هو الخطاب والممارسة المهيمنان. ومع ذلك يرتكز الخطاب الديني على الوعي المحاصر والمهدد ('انتشار الفساد والقيم الغربية') مهما امتلأت المساجد بالمصلين. ونجد نفس الخطاب عند الحركات الإسلامية حتى في الدول ذات الغالبية الإسلامية والتي تجعل من الدين دين الدولة. ورغم التناقض في هذا الخطاب إلا أن هدفه واضح: التجنيد والتحشيد. 

من هنا، يجب أن نرى زيف الانتقادات الموجهة لحنين زعبي التي تقوم بتصويرها كمن اتخذ موقع الهجوم في حين أن حقيقة الأمر أنها كانت في موقع الدفاع عن حيز يتضائل ويتلاشى تحت ضغط الهيمنة. كان الأحرى بمهاجميها أن يعترفوا بقوة الخطاب والممارسة اللتين يدافعان عنهما وأن يهاجما شطط هذه التوجهات المحافظة الذي يتجلى بالعنف والتكفير. ففي نهاية الأمر يتفق الكثير من المحافظين الذين يهاجمون تصريحات حنين زعبي مع شاتمي العداءات ومطلقي الرصاص على المدربة الرياضية من ناحية الهدف والقيم، حتى لو اعترضوا على الأسلوب. مثلما تتماثل حنين زعبي مع العداءات ورغبتهن في ممارسة حريتهن الشخصية التي لم تعتدِ على أحد (ما عدا أولئك الذين يرون في أنفسهم مالكي الحيّز العام وأسياده)، رغم أنها لا تشارك في الماراثون. وعندما يتمحور سخطهم على حنين زعبي لا على مطلقي الرصاص، ويطالبونها بالاعتذار، فإنهم يريدون بذلك تحقيق ما أراد الرصاص تحقيقه: الدفاع عن ملكيتهم للحيز العام. وهذا يتطلب ليس السيطرة على النساء فحسب وإنما على الرجال وغير المتدينين أيضًا. لذا فالموضوع يتجاوز قضية أبوية وذكورية المجتمع.

لا تعتذري عما قلت يا حنين.  

التعليقات