03/06/2015 - 16:00

التطبيع والتواصل والكوسموبوليتانية/ نمر سلطاني

دعوني أيضًا أستبعد أحد الأسباب التقنية التي يستخدمها معارضو التطبيع وهو موضوع التأشيرة الإسرائيلية. فهذا السبب في رأيي غير مقنع لأن الحاجز النفسي مع الاحتلال لا يتعلق بوجود التأشيرة أو انعدامها

التطبيع والتواصل والكوسموبوليتانية/ نمر سلطاني

لا يجب اختزال المدى السياسي الفلسطيني والعربي في موضوع التطبيع والتواصل. وقد لا تكون المقاطعة الثقافية والأكاديمية أهم الوسائل النضالية في جعبتنا. وليست المقاطعة سوى وسيلة لتحقيق غاية، لا الهدف نفسه. ومع ذلك تتوالى المناسبات التي تستدعي إثارة النقاش جدّيًا لتوضيح الموقف من الأمر. قارن/ي ما يلي: زيارة إدوارد سعيد إلى الناصرة في النصف الثاني من التسعينيات؛ أمسية محمود درويش في حيفا في تموز/ يوليو 2007؛ حفلة المغني العراقي إلهام المدفعي في رام الله في تموز/ يوليو 2009؛ زيارة المفتي المصري علي جمعة إلى الأقصىى في نيسان / أبريل 2012 (في زيارة وصفها شخصية وبالتنسيق مع الأردن دون الحاجة لتأشيرة إسرائيلية)؛ زيارات الكاتب علي سالم المتعددة لمؤسسات وجامعات إسرائيلية؛  تنظيم حفلات تجارية في حيفا لفرق أردنية مثل 'حرق كرت' و'أوتوستراد' في عام 2014؛ تنظيم أمسية شعرية (وتجارية) لهشام الجخ في الناصرة وباقة الغربية؛ زيارة شريف بسيوني إلى الجامعة العبرية وجامعة تل أبيب في شهر أيار/ مايو 2015؛ واحتفالية فلسطين للأدب والثقافة في حيفا التي حضرها بعض الأدباء العرب الذين يحملون الجنسيات الأجنبية في شهر أيار/ مايو 2015؛ تصوير فيلم للمخرج اللبناني زياد الدويري في تل أبيب؛ ونيّة المخرج الجزائري إلياس سالم ثم تراجعه عن المشاركة وعرض فيلمه في مهرجان السينما في إسرائيل. ما هو التطبيع وما هو التواصل؟

المعايير بين الماهية والتقنيات

في ورقة موقف أصدرها حزب الكونغرس الأفريقي بتاريخ 25 أيار/ مايو 1989 (انظر/ي هنا ) طالب الحزب المناهض للأبرتهايد بعدم جواز دخول المثقفين والفنانين والرياضيين والأكاديميين الأجانب إلى جنوب أفريقيا 'ما عدا الحالات التي يكون فيها مثل هذا السفر وبشكل واضح دعما للنضال الديموقراطي والوطني أو أحد أهدافه'. وكان الحزب في ورقة سابقة بتاريخ 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1983 (انظر/ي هنا) قد أشاد بالفنانين الذين رفضوا العرض في أي مكان أو صالة في جنوب أفريقيا يطبّق فيها الفصل العنصري بين البيض والسود.

بناءً على هذه المعايير، من الحريّ بنا أن نسأل ما سبب معارضة أو قبول أي من الأحداث المذكورة أعلاه على أنها تطبيع أو تواصل؟ ومقاربة هذا السؤال تحتاج للتفكير من منظورين متكاملين: منظور رفض التطبيع من قبل الشعوب العربية حتى تلك التي أقامت دولها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل؛ ومنظور رفض التطبيع من قبل العديد من الفلسطينيين أنفسهم.     

الحالات الأوضح هي حالات بسيوني وعلي سالم ودويري  وإلياس سالم بسبب زياراتهم لمؤسسات صهيونية هي جزء لا يتجزأ من النظام الاستعماري وشرعنة سياساته واحتلاله. ويصح ذلك أيضًا على فرق موسيقية تأتي بالأساس لأغراض تجارية وتؤجر قاعات إسرائيلية، وبذلك تتفاعل مع الاقتصاد الإسرائيلي. ولا يشفع في هذه الحالة امتلاك بسيوني لجواز سفر أجنبي غير مصري. كما لا يغيّر من الأمر الكثير لو كان الجخ أو فرقة 'حرق كرت' يحملون جوازات سفر أجنبية. كما أن هؤلاء يخرقون قرارات نقابات وهيئات شعبية عربية في بلادهم مما يرسل رسالة سلبية للجمهور العربي داخل فلسطين وخارجها.   

ودعوني أيضًا أستبعد أحد الأسباب التقنية التي يستخدمها معارضو التطبيع وهو موضوع التأشيرة الإسرائيلية. فهذا السبب في رأيي غير مقنع لأن الحاجز النفسي مع الاحتلال لا يتعلق بوجود التأشيرة أو انعدامها. فنحن نعرف الكثير من العرب الذين لم يدخلوا إسرائيل يومًا، ولم يحصلوا على تأشيرتها، ومع ذلك فهم مستعدون للتطبيع بكل أشكاله لو أتيحت لهم الفرصة. ومن ناحية أخرى هناك العديد من المناضلين الذين حصلوا على الهوية الإسرائيلية (وليس فقط التأشيرة) بسبب كونهم مواطنين في الدولة، ولكنهم وطنيون من الدرجة الأولى ولا غبار عليهم. الحاجز النفسي، كاسمه، هو نفسي ولا علاقة مباشرة له بالتقنيات الخارجية. ولذا، لا يشفع للمفتي علي جمعة حضوره من دون تأشيرة. كما أن ادعاءه أن حضوره كان بصفته الشخصية لا الرسمية غير مقنع لأن زيارته حتى لو كانت فعلا شخصية في نظره، فإنها تكتسب اهتماما إعلاميا بسبب رمزية مكانته الرسمية. وقوله إنه قدم لدعم مؤسسة إسلامية وفلسطينية غير مقنع أيضًا، لأن بإمكانه دعمها بالتصريحات وربما بالمال من الخارج. والأهم من ذلك، كان بإمكانه دعم المقدسيين عن طريق الضغط على حكومته المصرية بما يتعلق بسياساتها تجاه إسرائيل. 

لكن هل يمكن القول عن الحالات الأخرى أنها 'وبشكل واضح' تصب في خانة دعم وتعزيز 'النضال الديموقراطي والوطني'؟ الداعمون لهذه الزيارات يرون فيها تواصلا. وهنا علينا أن نستبعد حالتين من جدل التطبيع والتواصل: سعيد ودرويش. سعيد لأن زيارته أتت في زمن لم يخرج به فلسطينيو الداخل من حالة الحصار السياسي والثقافي تماما بعد، كما أتت قبل بداية حركة المقاطعة كحركة منظمة. ودرويش لأنه كان مواطنًا سابقًا وليس زائرًا بهذا المعنى. ويجب استبعاد كليهما لأنهما لم يذهبا إلى مؤسسات إسرائيلية. كما  يجب استبعاد اسمهما لأن الحديث عن أسماء كبيرة ومهمة على الصعيد الوطني، وبالتالي فإن التواصل معهما يجتذب قطاعات واسعة، ويساهم في النضال الوطني. وغنيّ عن الذكر أن هذه ليست الحال مع الفرق الأردنية المغمورة ولا مع الشاعر الجخ.  

ولكن منذ زيارة سعيد، وبسبب القنوات الفضائية (وعلى وجه الخصوص 'الجزيرة'، ولكن أيضًا المحطات السورية واللبنانية)، وبشكل أكبر بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد ممكنا الحديث بجدية عن العزلة، وعن ضرورة التواصل لكسرها. لأن العزلة الكاملة لم تعد ممكنة. هذه المحطات عرّفت المشاهد العربي على فلسطينيي الداخل، وأحضرت العالم العربي وثقافته إلى كل بيت وشاشة داخل فلسطين. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي سهّلت التواصل من الشباب في العالم العربي متجاهلة ومتحدية الحدود الجغرافية.

السؤال، إذًا، هو: هل هناك حاجة للوجود الجسدي للفنان أو الشاعر العربي؟ ما القيمة المضافة لهذا الوجود؟ بإمكان كل شاب أو فتاة في داخل فلسطين اليوم أن يستمع إلى الشعراء والفنانين العرب ليس فقط جسديًا في حفلات في الأردن ومصر، ولكن أيضا الكترونيًا على الانترنت. هل حضور أهداف سويف وصبحي حديدي إلى حيفا لساعتين سيزيد من زخم التواصل الذي من الممكن أن يتمّ أصلا عن طريق قراءة كتبهم ومقالاتهم؟ هل سيساعد ذلك على صمود الواقعين تحت الاحتلال وكيف؟

تواصل من مع من؟

والسؤال الآخر، من هو جمهور هذا التواصل من أبناء الأقلية الفلسطينية؟ من الواضح أن الحديث عن التواصل محدود ومقصور على شريحة صغيرة ونخبوية من الفلسطينيين، إن كان ذلك في رام الله أو في داخل إسرائيل. على سبيل المثال، الجمهور الذي حضر أمسية الجخ في الناصرة أو احتفالية حيفا لا يزيد عن الخمسين شخصًا بكثير أو 200 في أمسية الجخ (في حين حضر أمسية درويش، على سبيل المقارنة، ما يزيد عن الألف شخص). وليس صدفة أن معظم هذه النشاطات التي نتحدث عنها هي في المدن الكبيرة مثل رام الله في الضفة الغربية أو بشكل خاص المدن المختلطة (العربية-اليهودية) مثل حيفا. ذلك أن هذه المدن تسمح بتشكل شريحة من المجتمع الذين سأسمّيهم هنا 'الكوسموبوليتانيين'. ذلك أن هذه الشريحة تمتلك من الفسحة في المدينة الكبيرة للفردانية ولتقمص وتبني الذوق المعولم (من أنواع الموسيقى واللباس التي تُستهلك وأنماط السلوك والرفاهية التي تنتشر).

وبالتالي، ليس صدفة أن هذه الشريحة هي الأكثر طلبا للتواصل. أولا، لأنهم يرون أنفسهم عالميين من ناحية الثقافة والأذواق. وثانيًا، لأنّ هويتهم تتعرض لضغوط مختلفة بعض الشيء عن الضغوط التي يتعرض لها باقي الفلسطينيين. وذلك نابع من كونهم ليسوا جزءًا مباشرا من الأنماط الاقتصادية المحلية. فهم يعملون إمّا بالشركات الإسرائيلية خارج القرى العربية أو بمؤسسات دولية وجمعيات غير حكومية تتلقى موارد من خارج البلاد. وعلى وجه التعميم، من الممكن وصفهم كأبناء طبقة وسطى من ناحية أنماط السلوك إن لم يكن من الناحية الاقتصادية. وإضافة إلى ذلك، أنماط الهجرة إلى المدن لتوسيع الحيّز الفرداني تغذّي الوهم عند بعض أبناء هذه الشريحة بأنهم خارج المجتمع إما لأنهم 'متمردون' على المجتمع، وإما لأنهم 'تجاوزوا تماما جدلية الانصياع والتمرد' ليحلقوا في سماء الفردانية الخالصة والوعي غير الاجتماعي (لأنه منفصل عن صيرورات التفاعل مع المجتمع). ولكن هذه الشريحة حاضرة بكثافة في العالم الافتراضي بشكل يوهم بأنها غير هامشية في المجتمع.

وبعضهم يريد التواصل مع العالم العربي بسبب هامشيتهم في المشهد الثقافي والفني الإسرائيلي. ولكن مرة أخرى، هذا التواصل يستنفذ في إصدار كتب في بيروت والقاهرة أو كتابة مقالات في الصحف العربية. لا حاجة لتوسيع هذه الحاجة لإحضار جسدي لمثقفين وفنانين عرب الى المناطق الواقعة تحت الاحتلال من منطلق الاحتكاك بالنجوم. ولا حاجة لاستغلال توق فلسطينيي الداخل للالتقاء بفنانين وأدباء عرب من أجل كسر المقاطعة. (وبالمقابل أيضًا لا يجب كسر مبادرات للمقاطعة في أوروبا وأميركا الشمالية عن طريق إصرار بعض الفنانين الفلسطينيين على المشاركة في مهرجانات أفلام تطبيعية).   

وهذا متصل بسببين إضافيين من ناحية تأثير مثل هذه الزيارات: فحتى لو شرعنّا زيارات البعض بسبب امتلاكهم جوازات سفر أجنبية، وعدم زيارة مؤسسات إسرائيلية فمعنى ذلك أننا نسمح بتواصل النخب فقط. في حين أن الكثير من اللاجئين الذين لا يملكون هذه الإمكانية لن يحظوا بهذا التواصل. وثانيًا، لأن هناك كثرة من النشاطات المماثلة تحت مسميات مختلفة، وبالتالي تصبح شرعنة بعض الحالات مثل احتفالية فلسطين (إذ يحضرها مثقفون عرب) تبريرًا عندهم لشرعنة نشاطات تطبيعية أو أقرب إلى التطبيع. فهناك أثر تثقيفي لإشهار المشاركة أو المقاطعة. وهذا الأثر متعدد الاتجاهات. فعلى سبيل المثال، كيف ستؤثر زيارة صبحي حديدي، حتى لو كان ذلك إلى فلسطينيي حيفا فقط، وهو المعدود على المعارضة السورية العلمانية الديموقراطية الحرة على سمعة هذه المعارضة (فقد يستغل النظام السوري ذلك للطعن بها وبشرعيتها)؟    

بين رام الله وحيفا      

النقطة الأخيرة التي تستدعي الانتباه هنا هي وجود فرق أم لا بين رام الله وحيفا. هل المكانة الخاصة للفلسطينيين في إسرائيل تبرّر موقفا مختلفا من ناحية المطبّعين أو المتواصلين العرب؟ في رأيي لا، لأنها من وجهة نظر خارجية من المفروض أن تعامل رام الله وحيفا بنفس الطريقة: وهي أنّ كلتيهما محتلتان. بالإمكان القول إن مسألة حيفا يجب أن تكون أكثر وضوحًا من ناحية المقاطعة لأن رام الله تحت الحكم الذاتي في إطار أوسلو. ومن هنا إذا كان للمدفعي أن يغني في رام الله، فليس له أن يغني في حيفا. ولكن الفرق هنا هو فرق في الدرجة لا النوع. علينا أن نتذكر أيضًا أن منظمة الكونغرس الأفريقي عندما أعلنت وطالبت بالمقاطعة لم تفرّق بين البانتوستانات والمدن الكبيرة البيضاء التي يسكنها بعض الملونين والهنود وبعض السود. لذا يجب أن ينطلق الموقف من التواصل والتطبيع من فهم عامّ وشامل لبنية الاضطهاد المتكاملة، لا من نظرة جزئية.

كما أن غناء إلهام المدفعي في رام الله أو حيفا يعطي الواقعين تحت الاحتلال الشعور الزائف بأنهم يملكون مساحة من الحرية، ويستطيعون التعايش مع الوضع القائم. ومن يرفض مشروع أوسلو عليه أن يرفض التطبيع في رام الله، لأن خلق مثل هذه الأجواء يعين السلطة الفلسطينية على مواصلة مشروعها المنضوي تحت المنظومة الاستعمارية وبدون تحدي علاقات القوة الناتجة عنها. هذا موقف أخلاقي وسياسي يجب عدم الهروب منه إلى ادعاءات من نوع لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. ولا يصحّ القول هنا إن من حق المناضلين الترفيه عن أنفسهم بعض الشيء، ذلك أن غالبية رواد هذه الأمسيات الفنية (وهم في الغالب من الشريحة الكوسموبوليتانية المذكورة) ليسوا من صفوف المناضلين الذين يحتاجون لاستراحة المحارب. والأهم من ذلك، لا يحتاج أحد من هؤلاء، مناضلين أم لا، لفنانين من العالم العربي من أجل الترفيه عن أنفسهم، فهناك فرق فنية محلية عديدة، مثلما هناك ثقافة محلية وشعراء محليون. وهناك الانترنت والتلفاز أيضًا.

طبعًا بالإمكان الادعاء أنّ هذه الإجراءات التي تتطلب موقفًا حازمًا من التطبيع وموقفًا أوضح من التواصل قد 'تضر' بالفلسطينيين أنفسهم (خسران التواصل عن طريق فقدان هذه النشاطات). وهذا ادعاء سمعه الجنوب الأفريقيون السود عندما دعوا إلى مقاطعة الأبرتهايد. ولكن كما قلت أعلاه، الجمهور المتعطش لهذه الأنواع من التواصل محدود. والمقاطعة المطلوبة هي على مستوى التضامن والضغط الخارجي أكثر مما هي على المستوى الداخلي. وذلك نظرًا لضعف الفلسطينيين الاقتصادي وعدم وجود أعداد القوة العاملة المشابهة للحالة الأفريقية القادرة على التأثير على الاقتصاد الإسرائيلي. لذا، يجب ألا تتمحور المقاطعة على العامل الفلسطيني في الضفة أو غزة الذي يضطر لكسب قوته في مستوطنة، ولا على الفلسطيني داخل إسرائيل الذي يشتري الحليب أو يستعمل الكهرباء والهاتف من الشركة الإسرائيلية.

وخلاصة الأمر، حتى لو أدت معارضة التطبيع إلى شيء من 'عدم الراحة' عند بعض الفلسطينيين فإن ذلك ليس كافيًا للسماح بالتواصل بشكل فضفاض ودون ضبط. ففائدة التواصل غير واضحة على ضوء وجود بدائل، وأضراره واضحة في غياب مشروع وطني وقيادة جمعية شرعية. وعلينا أن نقاوم النزعة الكوسموبوليتانية الواهمة لأن حواجز الاحتلال في نهاية الأمر حاضرة في تفاصيل المكان والجغرافيا.

(د. نمر سلطاني، محاضر في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن)

التعليقات