06/08/2015 - 22:52

التراث في خدمة نهضة الأمة../ يزيد سليمان

خلافنا، مع الحركات السلفية لا ينبع من المعاداة للدين، بل لوجود فئة تحتكر فهم النص المقدس، مثلما تطبق على ناصية التراث، ساعية جاهدة لتشويه وشيطنة كل شريك وطني متنور، خارج عن تشكيلاتها السلفية من أجل الاستئثار بامتيازات مجتمعية، وبسط وصايتها على جماهيرنا

التراث في خدمة نهضة الأمة../ يزيد سليمان

الاهتمام الكبير، الذي أولته وتوليه مجموعة كبيرة من المفكرين العرب، أمثال: محمد أركون ومحمد عابد الجابري والطيب تيزيني، للتراث العربي الإسلامي إنما تنبع في أساسها من فكرة إحياء تراثنا الزاخر بالعلوم والأدب، بالحنكة والتبصر، والذي يحتوي في ثناياه على قصة وحكاية العرب، في زمن النهضة العلمية والثقافية وتطور الفنون والعمران وبوتقة الفكر والمعرفة في إنتاجات عظيمة الشأن، شكلت الشمس التي سطعت في سماء الغرب، وكانت ركنا أساسيا استندت علية الإنسانية جمعاء في نهضتها الحديثة، والتي تجاوزت الأمة العربية حيث أن أمتنا كانت قد وقعت في براثن الجهل والظلمة منذ عصر الانحطاط وأفول شمس الدولة العربية الإسلامية، واستبدالها بالدويلات المتناحرة، والأدب الركيك، والتخلف الفكري، ومن ثم السيطرة الاستعمارية على المنطقة والشعوب العربية.

هذا الاهتمام، لم يأت من باب المناكفة للحركات الأصولية والسلفية وغيرها، كما يعتقد البعض بل يريد أن يعتقد، وإنما يرمي إلى استنهاض الأمة، مستنيرة بهذا التراث العظيم، مستندة إليه ليشكل رافعتها المنشودة للتخلص من شوائب الاستعمار والتخلف والتفكك، في انطلاقة نحو الوحدة والتحرر الفكري والسياسي، ولا عجب أن ذكر الحداثة كان ملازما لموضوعة التراث، رغم أن الحوار حولها –أي الحداثة- كان لا يخلو من الصدام المباشر، مع هذه الحركات، كما يحصل اليوم في النقاش الدائر بين أبناء الشعب الواحد من التيار القومي والحركة الإسلامية الشمالية.

كما أن موقف القوميين من الدين والتراث، لا يبحث في موضوع شرعية الدين، ولا يحاول الرد على مسألة أن الاسلام فوق التراث، أو العكس، وليس هم هذا الموقف أن يجعل من الدين جزءاً من التراث في محاولة للنيل منه أو نقضه،  كما يدعي الشيخ كمال خطيب في مقالتة المنشورة في العدد الأخير من صحيفة "صوت الحق والحرية"،  لأن هذا من شأنه ـن ينفر الناس ويبعدهم عن التيار القومي، وبعكس ما يدعيه، فإن التيار القومي يحرص على احترام الدين وأهله، والسير على منهج: "كلٌ على دينه، ربنا يعينه"، أو شعار: "الدين لله والوطن للجميع".

بينما قام ويقوم الإسلاميون (نسبة إلى الحركات الإسلامية) السلفيون بمحاولة إلصاق التهم وتشوية مواقف التيارات القومية من الإسلام من أجل النيل منهم، وثني الجماهير عنهم، بشتى الوسائل والأساليب والتهم السخيفة، والمقالات التهجميه، التي لا تبقي ولا تذر من أصول التعامل الموضوعي، بين أبناء الشعب الواحد، مثل أن يُتهم القوميون "بالاعتراز بالتراث والاختفاء خلف هذه الحيلة واللافتة ليوجهوا الطعنات للإسلام"! كما يصفهم الشيخ كمال خطيب، في نفس المقالة المذكوه أعلاه من صحيفة "الحق والحريّة"، ويضيف أنهم "يرفعون راية التراث لغمز الاسلام وطعنة من الخلف"! مستغلاً مقولات قيلت على لسان قلة قليلة من ممثلي التيار القومي، في موضوعة التراث العربي الفلسطيني، ناسياً بل متناسياً أن هناك من يوتر الأجواء من التيار السلفي، حيث ينهال هؤلاء على التيار القومي سباً وشتماً، فقط لأن أبناءه يعتزون بتراثنا العربي الفلسطيني.

في هذه العجالة، ومن خلال السطور الآتية، ومن أجل الرد على المغرضين، من التيار السلفي، الذين يعتقدون بعداوتنا لهم أو بعداوتهم لنا، سأحاول أن اشرح موقفنا من الدين والتراث، كما نفهمة نحن، وكما نريد أن نثقف رفاقنا عليه. ورغم تطرق الرفيق عمر سعيد في مقالاته الأخيرة حول نفس الموضوع، إلا أنني لا أرى مشكلة في الكتابة حول هذا الشأن من أجل تذويته في مكنونات شخصيتنا الوطنية والقومية.

إن الابتعاد عن الدين إلى درجة المعاداة، يعتبر فهماً منحرفاً وخاطئاً، وفي نفس الوقت، يؤدي إلى الخسارة في جميع الميادين، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الفهم الخاطئ، لا يمكنه حل مسألة تسييس الدين من قبل البعض، خاصة الحركات الإسلامية الاصولية، بل على العكس تماما، حيث يصبح القول في هذا الموضوع، حطبا جاهزا لإذكاء نار الفتنة ومن ثم تقوية هذه القوى أو الحركات على حساب إضعاف التيار القومي، "بفضل" أصحاب الفهم المشوة لحقيقة الدين، وتأثيره على الجمهور.

وإذا قمنا بإقحام أنفسنا في المسألة الدينية، فإن هذا سيؤدي حتماً إلى الخوض في دهاليزها الكثيرة، وتبدأ المشاكل والتعقيدات، التي لا غنىً عنها عندما نسبر غور اجتهاداتها المركبة مما سيشكل حاجزاً عالياً أمام الجماهير، بسبب دخولنا إلى معتركات طائفية نحن في غنىً عنها، والغوص في التفاصيل الدقيقة من شأنه أن يوقعنا في أخطاء تكون في بعض الأحيان جسيمة، ولا طائل منها إلا التأثير السلبي على تحقيق أهدافنا الواضحة والصريحة: نكسب الجماهير من أجل خوض معركة المحافظة على هويتنا الوطنية على أرضنا، وتحقيق الحقوق الشرعية لجماهيرنا، والقضية الفلسطينية، دون الخوض في تفاصيل هذة المطالب في مقالتنا هذه.

أما إذا قلنا إن الدين يلتقي مع المدنية في مسألة الحريات الفردية، وأن الدين مبني على احترام مبدأ حرية الاختيار، حتى في اتباع التعاليم الدينية نفسها، وعندما نقول إننا نعتمد في هذا على نصوص من القرآن، (إنك لا تهدي من أحببت، إن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين. سورة القصص) فإن هذا لا يعني أبدا أننا نهاجم الدين، أو نعمل على "تقزيمه" من أجل أن نحوله من صنيعة الخالق إلى مشروع إنساني (من صنيعة الإنسان)، بسبب ذكره إلى جانب المدنية، بل يعني بالضرورة أننا نرى التوافق بين الدين وبين أنظمة حياتية آنية، وليس انتقاصا له في شيء، كما أن هذا القول لا يعني أبدا أننا نفرض بأولوية المدنية على الدين.

كما أن احترامنا للتراث الشعبي الفلسطيني، يعني بالنسبة لنا، المحافظة على هويتنا الوطنية، ووجودنا على أرضنا، ولا يعني بالمطلق التقليل من شأن تراثنا العربي الإسلامي، فشأنه مختلف، إذ أننا نعني بالتراث الفلسطيني لباسنا الفولوكلوري، وأمثالنا الشعبية، وعلمنا ومنجلنا وطقوسنا الحياتية التي انتهجت في قرانا ومدننا وبلداتنا، وما زالت حية إلى الآن بفضل محافظة الشعب الفلسطيني على هذا التراث الذي هو جزء من التراث الشامل للأمة العربية.

أما التراث العربي الإسلامي، فنعتبره نتاج الأمة العربية والإسلامية، (إلى ما قبل عصر الانحطاط) في مختلف مناحي الحياة، الفكرية والثقافية والفلسفية والعلمية، المادية والمعنوية على حد سواء، كما ويضم علوم الشريعة والفقة، والموسيقى والفنون المعمارية. ويمكن أن نجد هذا التراث في كتاب أو مخطوطة أو بناء قائم، أو قصص وحكايات متناقلة من جيل إلى جيل. وقد اشترك في إنتاج هذا التراث كل من عاش في كنف الحضارة العربية الإسلامية من كافة الشعوب والطوائف، من أبطال الفتوحات الإسلامية أو الخلفاء على كافة اختلافاتهم، والعلماء والشعراء والأدباء والفنانين والفقهاء والمفكرين، فابن سينا والفارابي وابن رشد وابن الهيثم والإمام الغزالي والمتنبي وهارون الرشيد والجاحظ وابن خلدون وغيرهم، قاموا بإنتاج هذا التراث بغثه وسمينه، وفكره وأدبه، وأفكاره المتنورة والمنغلقة.

ولكن ما كان يميز تلك الحقبة من التاريخ، هي حرية الكتابة والتعبير عن الرأي، حيث احتمل هذا التراث الشيء وضده، من مجون وتقوى، أو جد وهزل، أو عمق وسطحية، أو قبول ورفض لأفكار معينة، وأحيانا كانت السجالات تحتدم بين الأطراف المتناقشة، فصدر عنها مخطوطات وكتب أغنت هذا التراث بالكثير الكثير، هذا دون التعرض للعقيدة من جهة أو جعلها -أي العقيدة- سببا أو حجة لمنع النقاشات الدائرة، وقلما كانت هناك اتهامات بالهرطقة أو الزندقة إلا لأهداف سياسية وليست دينية بالمطلق، بل إن استعمال الدين، كان فقط من أجل درء خطر سياسي أو رأي مخالف، فالدين أوسع من أن يكون مؤطرا في عقل البعض ممن لا يستوعب هذه السعة.

وعندما نتناول هذا التراث، إنما نفعل ذلك من أجل التعلم منه وفصل حبه عن زوانه من أجل السير إلى الأمام. "إن أي أمة لا تستطيع أن تسير إلى الأمام بقدم راسخة وثابتة وشجاعة، إلا إذا وعت جذورها في تراثها، وربطت خيوط حاضرها ومستقبلها، بما ماثلها وشابهها في صفحات ماضيها، القريب منه والبعيد" (محمد عمارة، نظرة جديدة إلى التراث).

وليس غرضنا، من تناول التراث، نقض الدين أو جعله وعاء له، بل نفهم أن الفصل بينهما، هو حالة مستحيلة لأن ظهور الدين الإسلامي أدى إلى تغيير شامل في المجتمعات التي عاشت في كنفه، وكان تفاعلة مع تراث هذة المجتمعات أو الشعوب، شاملا وأساسيا إلى حد إنتاج تراث جديد يختلف في صفاته عن التراث الذي كان قائما قبل الإسلام، كما أدى الإسلام إلى انصهار هذه الشعوب أو تراثها القائم في المركب الجديد، فهل يمكن تخيل العودة إلى تراث بلاد فارس أو بلاد الترك والديلم، قبل ظهور الإسلام؟ شئنا أم أبى المشككون بأصحاب فكرة إحياء التراث، فإن الدين الإسلامي هو جزء من تراثنا وتراثنا جزء منه، ومحمد النبي "صلعم" والقرآن الكريم، في لب هذا النتاج التاريخي العظيم.

خلاصة القول، إن خلافنا، مع الحركات السلفية لا ينبع من المعاداة للدين، بل لوجود فئة تحتكر فهم النص المقدس، مثلما تطبق على ناصية التراث، ساعية جاهدة لتشويه وشيطنة كل شريك وطني متنور، خارج عن تشكيلاتها السلفية من أجل الاستئثار بامتيازات مجتمعية، وبسط وصايتها على جماهيرنا، وعوضا عن التواصل والتكافل مع قوى التنور نجدها تقف في الصف المعادي، وكأن شرعيتها مستمدة من النص الديني، وأحكامها مطلقة لا غبار عليها، متناسية أن العصور الإسلامية امتاز علماؤها بالبحث والتمحيص، ورجال دينها بتفسير النصوص وتطوير الشريعة، فيخطئون ويصيبون أحيانا، ويتعرضون للنقد والنقض، دون التعرض للتهميش أو التكفير كما كان متبعا في العصور المظلمة في أوروبا القرون الوسطى.

 

التعليقات