21/10/2015 - 13:57

رسالة الشارع المصري ويأسه... لماذا؟/ نجيب جورج عوض

لا يحتاج المراقب إلى اجتهادات خارقة لكي يفهم سبب عزوف شريحة الشباب ونسبة كبيرة من الشعب المصري عن الاقتراع في الانتخابات النيابية، أخيراً، أو على الأقل ترددها في المشاركة بها.

رسالة الشارع المصري ويأسه... لماذا؟/ نجيب جورج عوض

لا يحتاج المراقب إلى اجتهادات خارقة لكي يفهم سبب عزوف شريحة الشباب ونسبة كبيرة من الشعب المصري عن الاقتراع في الانتخابات النيابية، أخيرا، أو على الأقل ترددها في المشاركة بها.

 أدت ثورة الحرية الأولى في مصر إلى سقوط نظام حكم حسني مبارك، ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة، في انتخابات ديمقراطية نزيهة وشعبية وفعلية، وبرغبة قوية لدى قطاعات عريضة في الشارع المصري بتحميلهم مسؤولية السير بالبلد نحو المستقبل، ونحو تحقيق أحلام الشعب المصري وآماله التي قامت عليها الثورة، إلا أن ممارسة الإخوان الحكم وسياساتهم ومنهجيات عملهم وتطبيقهم السلطة في البلد أفرغت الثورة الشعبية من مضمونها، وشوهت كل مقومات الديمقراطية والتعددية والحرية والقيم المدنية التي حملتهم أصلا إلى سدة الحكم، حوَلت جماعة الإخوان الدولة إلى سلطة استبدادية باسم الدين، نفت التعدد الفكري والسياسي والمدني والثقافي، وحاربته باسم العقيدة الدينية، لا بل وجعلت منطق حشر الدين في كل شيء أهم سبب في تدمير بنية البلد الاقتصادية والمالية والمجتمعية.

 وجد الشعب المصري نفسه في الساحات العامة وشوارع مدنه، مرة أخرى، يناوئ، هذه المرة، الاستبداد الديني، ويعلن رفضه أي استبداد بديل بأي مسمى أو مظهر جديد.

 وحين أدرك الشارع أنه لن يستطيع أن يواجه عنف السلطة الدينية، واستعدادها للتمسك بكرسي السلطة بأي ثمن ووسيلة كانت، لجأ الشارع إلى الجيش الذي تلقف الدعوة، ودعم الانتفاضة الشعبية بعمل لوجستي صريح، دفع الإخوان إلى خسارة السلطة، وأعادهم إلى المربع الأول إلى عملهم العام الذي يبرعون فيه دون سواه: العمل المقاوم والعنف السري. والحرب بين الجيش المصري والإخوان مازالت مفتوحة.

 سقط حكم المشايخ، ليحل محله حكم جديد قرره وأثر في طبيعته وفي إيجاده العسكر والجيش، ودخلت مصر مرحلة إعادة بناء سياسية جديدة، مازالت إرهاصاتها، الإيجابية والسلبية، تجري أمام أعيننا حتى هذه الساعة. ما سبق هو القراءة. أما التحليل النقدي فيتعلق بالمسار السياسي والدولتي الذي نتج من مساعدة الجيش الشعب المصري في إسقاط حكم الإخوان المسلمين. من أهم نقاط ضعف هذا المسار السياسي، والتي قادت إلى العيوب الكثيرة التي نراها في الدولة المصرية الحالية، أن الجيش لم يتوقف عند مسألة مساعدة الشعب على تحقيق هدف ثورتهم الثانية.

 للأسف الشديد، بدل أن يعود الجيش إلى ثكناته ومواقعه العسكرية التي يفترض أن تكون أبعد ما يمكن عن التورط في الشأن العام والسياسي، تورط أكثر في لعبة السلطة، ودفع برئيسه إلى معركة السلطة والانتخابات الرئاسية، ومحاولة الحلول مكان السلطة السابقة.

 لم يسلم الجيش عهدة الثورة إلى أصحابها وأبنائها الحقيقيين، الشارع المدني الشعبي العام، ولم يسمح لهم بمزاولة مسار تأسيس بنية دولة جديدة، مدنية تعددية ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة. بدل ذلك، أسس الجيش دولة أمنية، لتحل محل الدولة الدينية: من سندان الاستبداد والتخلف باسم التدين وحكم أصحاب العمائم، إلى وقوع مصر تحت مطرقة الاستبداد والفوضى ونقص الكفاءة باسم الأمن وحكم أصحاب الرتب العسكرية.

برر الجيش خطوته هذه بتفاقم سوء الوضع الأمني في البلد، وبقرار الإخوان المسلمين بالانتقام الجيش يبرر سياسة حكمه الأمنية باستراتيجية الإخوان العنفية، وهؤلاء يبررون سياسة المقاومة والرفض باستراتيجية الجيش الأمنية عنفيا ودمويا، لا من النظام الجديد فقط، بل ومن الشارع المصري المدني والشعبي أيضا، لأن الأخير تجرأ على الاعتراض والانتفاض عليه.

 غرقت مصر وشعبها في معمعة معركة دموية تدميرية مفتوحة، بين طرفين لا علاقة لذهنية أي منهما بمنطق الدولة الحقيقي، ولا يتقن أي منهما سوى عملية التضحية بالدولة، على حساب الحصول على السلطة، لا بل ويبرر كل منهما استراتيجية عمله بدلالة وجود استراتيجية عمل الآخر: الجيش يبرّر سياسة حكمه الأمنية باستراتيجية 'الإخوان' العنفية، وهؤلاء يبررون سياسة المقاومة والرفض باستراتيجية الجيش الأمنية المذكورة. أخطأ الجيش خطأ تاريخيا فادحا بعدم عودته إلى ثكناته، وسماحه للشارع المدني العام المصري بتشكيل سلطة مدنية من صلبه، وأيضاً بقراره، بدل ذلك، بالتورط في العمل السياسي ووضع يده على الدولة. في ضوء القراءة والنقد السابقين، يمكن أن نفهم عزوف الشارع المصري عموما عن الانخراط القوي والكثيف في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فالشارع المصري يبدو وكأنه يوجه رسائل عديدة لكلا الطرفين المتصارعين، أن كلا منهما سرق ثورته منه، وأن كلا منهما فرض على جيل مصر الجديد (صاحب الثورة الأول والأصيل) نماذج دولتيه (الأول دينية والثانية أمنية)، هو لا يريدها ولا يحلم بها، ولا يشعر بأن أيا منها يمثله. وبالتالي، كل ما ينتج من مآلات العمل السياسي ما عاد يعنيه بشكل عميق.

لم يخرج المصريون إلى الشوارع، كما أسمع كثيرين من معارفي المصريين يقولون لي، ليروا حاكمهم داعية أو فقيها، ولا ليروه جنرالا أو مشيرا.

خرج المصريون إلى الثورة، وشاركوا في الانتخابات سبع مرات سابقة، لا لأنهم أرادوا أن تحكمهم شريعة فقهية عقائدية، ولا لأنهم أرادوا أن تحكمهم بدلا عنها سياسة، بنيانها القاعدي الناظم أمني بامتياز. لهذا، أرسل الشارع المصري، هذه المرة، رسالة بأنه متعب ويائس وقانط. وأنه يدرك أن كلا من 'الإخوان المسلمين' والجيش يتعايشان على بعضهما، ويبرر أن استمرارهما بالنهج الذي يسيران عليه، بمساعدة بعضهما: 'الإخوان' يحتاجون إلى استمرار السياسة الأمنية، كي يستمروا في تقديم أنفسهم شهداء ومضطهدين، والعسكر يحتاجون إلى استمرار السياسة الإرهابية الانتقامية، كي يستمروا في تقديم أنفسهم الطرف الأكثر كفاءة في البلد، لمواجهة العنف والرصاص والدم.

إذا ما نتج فعلا من الانتخابات المصرية برلمان، الأغلبية الساحقة فيه من المستقلين، ولا وجود فيه لهيمنة حزبية/أمنية أو أيديولوجية/دوغمائية، فهذا جيد، ويبشر بعمل برلماني مدني، قد يحقق ما يحلم به المصريون. الأمر غير المدني، والذي على البرلمان القادم أن يواجهه فعلا إن كان متحرراً من عقدتي دولتي الدين والأمن، هو أن يتم منع حزب أو تيار بعينه من ممارسة العمل السياسي. نرجو أن يعيد البرلمان العتيد النظر بهذا الأمر. لنراقب ونر. والأهم لنتمسك بالإيمان بمصر، فهي قلب حلمنا بربيع عربي ما في يوم ما.  

( العربي الجديد)

التعليقات